الحزن اعتصر قلبي عندما رأيت ما يدور من حولي من أمور غريبة ومحزنة بل إنها مخزية أيضاً.. فقررت أن أذهب لأحد الأسواق لكي أشتري قناعاً للسعادة .. بعد أن سمعت من أحد الأصدقاء المقرّبين .. بأن هناك متجراً لبيع أنواعٍ مختلفة من الأقنعة !!!
· دخلت إلى متجر الأقنعة وقلت للبائع : من فضلك أعطني قناعاً للسعادة ..
· ضحك البائع مستهزئاً وقال : ياحبيبي ليس هناك قناع للسعادة ..
· قلت له: ولكنني سمعت بأن هناك كثيراً من الناس يشترون أنواعاً مختلفة من الأقنعة وأظن بأنها متوفرة بكثرة في أسواقنا العربية ...
· قال: نعم عندي الكثير منها ولكن أعذرني أنا لا أملك أي قناع للسعادة ..
· قلت: وماذا تملك إذاً ؟؟؟
· قال: عندي على سبيل المثال ( قناع الخطابة ) :
إنه قناع ذهبي .. متوفر بكثرة في بلادنا العربية وبجميع المقاسات .. إذ أنه يمنحك قوة في إلقاء الكلمات والخطابات وجذب مشاعر الجماهير وتصفيقهم الحار .. وهو مزوّد بدارة إلكترونية تجعلك تنسى كل ما قلته بعد دقيقة واحدة فقط ( وهي أقل مدة توصلنا إليها لحد الآن ) ...
ومن نتائج هذا القناع :
أنه يجعلك من الذين يقولون ولا يفعلون
والذين إلى الشهرة والثراء يسعون
والذين يزعمون بأن لديهم نظرة حكيمة وثاقبة .. وهم عميان لا يبصرون
والذين يدعون للحرية والتحرر .. وهم بأفكارهم السخيفة مأسورون
والذين يتكلمون عن مكارم الأخلاق .. وهم ثياب العهر يرتدون
والذين يتضرعون لله أمام الناس .. وهم خلف الستار .. بالمعاصي غارقون
والذين يقولون ربنا ارحمنا نحن الضعفاء .. وهم على ظهور البسطاء .. كل يوم يركبون
والذين يتحدثون عن الشجاعة والقوة.. وهم في الحروب يضعون الشعب أمام المدافع ويهربون
والذين يتشدّقون عن المحبة والإخاء والسلام .. وهم لأنفسهم كارهون .
هنا بدأت أفكر :
ماذا لو اقتنيت قناع الخطابة بدلاً من قناع السعادة .. فربما بفضل هذا القناع أصبح في يوم من الأيام من الشخصيات الهامة جداً .. ويصبح لدي جمهور كبير .. فأغدوا نجماً من النجوم وعلماً من الأعلام .. كأن أصبح مثلاً :
مسئولاً حكومياً معطاء
أو داعية من الدعاة العظماء
أو نسراً من النسور التي تحلق فوق جثث الدراويش والبسطاء
أو اسماً من الأسماء المنقوشة على الكواكب في السماء
أو رئيس دولة .. كل يوم يدوس شعبه بالحذاء .
عندها سيصبح صوتي منتشراً بالأجواء كالنباح
وأي امرأةٍ تعجبني ( بإشارة واحدة ) ستصبح في يدي كالمفتاح
وستصبح رؤوس الرعيّة بين كفّيّ كالتفاح
وسأطعم أفكاري المسمومة للشعب كل مساء وصباح
وإذا سُئلت في إحدى المقابلات عن أحوال ضميري ؟؟
سأقول : الحمد لله .. أنام كل ليلة تحت غطاء .. ضميريَ المرتاح .
· فجأة .. دخل شخص إلى المتجر وقطع سلسلة أحلامي البديعة قائلاً للبائع : عزيزي .. هل يمكنك إعطائي قناعاً مناسباً يساعدني على تحقيق ما أصبوا إليه ؟؟
· قال البائع : وما الذي تصبوا إليه حضرتك ؟؟؟
· قال الزبون الذي تبدوا ملامحه مألوفة : أريد أن أصبح مديراً في الشركة التي أعمل بها .. رغم أنني الآن مجرد موظف عادي ...
· سكت البائع قليلاً .. ثم نظر إليّ مبتسماً وقال للزبون : عليك إذاً ( بقناع التملّق ) !!!
إنه لقناع رائع جداً لأمثالك .. وهو يستخدم بكثرة في شركاتنا ومؤسساتنا العربية .. إذ أنه يمنحك مرونة هائلة في التعامل مع الآخرين .. وخاصة ( الرؤساء منهم ) ..
إذ أنك ستكون فعالاً جداً بجذب مشاعرهم وعواطفهم نحوك .. وقد زوّدنا ذلك القناع بسلك مغناطيسي سيجعلك تشعر برغبة شديدة بتقبيل الأيادي والأحذية والمؤخرات ...
فكن مستعداً لذلك !!!
· تابع البائع حديثه قائلاً : ومن نتائج هذا القناع السحري :
أنه سيجعلك تصبح من الكاذبين والمنافقين
وسيجعلك تنتقل فجأة من مرتبة الضالّين .. إلى مرتبة الأولياء والصالحين
وستجذب من حولك الكثير من المعجبات والمعجبين
إذ أنك ستكون بنظرهم .. الحمل الوديع .. المخلص المسكين
رغم أنك ستغدو بعد فترة وجيزة .. فوق رقابهم كالسكين
وستغدو مزهوّاً بنفسك كالمجانين
وستصبح خيّالاً عظيماً .. يمتطي ظهور الآخرين
وإذا سألوك يوماً عن الإجرام ستقول : معاذ الله .. أنا لا أعرف الإجرام .. ولا المجرمين .
· تابع البائع : ولكن انتبه ياعزيزي .. يجب عليك أن تقرأ دليل المستخدم جيداً .. فهناك أغنية مكتوبة في إحدى الصفحات .. يجب عليك أن تغنّيها كل يوم تسع مرات .. لكي تعزز الدوافع والرغبات الأنانية بداخلك ... والأغنية هي :
سأصبح المدير .. سأصبح المدير
رغم أنف الكبير والصغير .. سأصبح المدير
ونحو الكرسي المرصّع بالسُلطة .. كذبابة سأطير
كيف يختارون أحداً غيري ؟؟ وأنا ذو القدّ المياس والعقل المنير
كيف يختارون أحداً غيري ؟؟ وأنا لذلك المنصب لجدير جدير
ألا يرون بأنني الأحق والأولى .. وبأن كل من حولي زُمراً من الحمير
ألا يقدّرون الجهود التي أبذلها في تأليف الأكاذيب والأساطير
وبأنني أحفّ لساني كل يوم .. حتى أصبح أملساً ناعماً كالحرير
ألا يعلمون بأن كل الموظفين عبيد لدي .. وأنا على رؤوسهم كالأمير
وبأني قادر على حل كل مشكلة تواجهنا .. وبأني في هذه الشركة الأول والأخير
وبأنني وبكل تواضع .. الجليل القدير
سأصبح المدير .. سأصبح المدير
ولو أن البعض يتهمني بأنني أناني .. قذر .. حقير
وبأنني أريد أن أتخطّى أصدقائي وأسحقهم كمعتدٍ آثمٍ شرير
يا لفظاعة هؤلاء الناس .. هل من المعقول أن أكون حقير ؟؟؟
وأنا الذي من أجلهم ( ومن أجل ذلك الكرسي ) أذوب وأحترق كالقصدير
وأنا الذي لن أسمح لأحدٍ غيري ببلوغ ذلك المنصب .. ليس لأكون من العظماء والمشاهير
بل لكي أُبعد عن هؤلاء المساكين كلّ شئٍ خطير
فالأجدر بهم أن يصفقوا لي كثيراً .. وأن يمجّدوني في كل شهيق وزفير
فأنا الذي شاءوا أم أبوا وردة جورية .. وهم القوارير
وأنا الذي سأصبح مديراً عظيماً .. وسيتجمّعون تحت طاولتي كالصراصير
وأنا الذي سأمنح بركاتي وكراماتي .. لكل موظفة تشاطرني السرير
ولسوف تُزرع الأوسمة والنياشين على صدريَ الفسيح .. كالورود والأزاهير
وسيكتب التاريخ عن أمجادي وأشعاري .. كالأخطل وجرير
فليقولوا ما أرادوا ... سأغفر لهم جميعاً ...
ليس من باب المسامحة !! بل لكي يلمسوا عطفيَ الشديد .. وقلبيَ الكبير
سأصبح المدير .. سأصبح المدير
بقدّيَ المياس وعقليَ المنير ... سأصبح المدير .
· قال الزبون للبائع : شكراً جزيلاً ياصديقي العزيز .. إنه فعلاً القناع المناسب الذي سأحقق أحلامي بواسطته .
أخذ الزبون قناعه السحري ومضى به مسرعاً.. وقد كان مسروراً جداً رغم أنه دفع ثمناً باهظاً لشراء ذلك القناع .
· سألت البائع : أصدقني القول يابائع الأقنعة .. هل أنت سعيد بمهنتك هذه ؟؟
· نظر ببطء إلى أرجاء المتجر ووضع يده على جبينه محركاً برأسه يميناً ويساراً مع ابتسامة خفيفة ثم قال :لا أدري ماذا أقول لك ياصاحبي .. بصراحة أنا ...
· فجأة .. دخل رجل على عجلة من أمره وقال للبائع : من فضلك ياأخي أعطني قناع المصالح ...
· قال البائع : لك ما تريد ياعزيزي .. ولكن لا تنسى أن تقرأ دليل المستخدم المرفق بذلك القناع ...
· قال الزبون : لا داعي لقراءته .. فأنا وعائلتي وأصدقائي وجيراني نستخدم ذلك القناع منذ زمن طويل ... فلا تقلق .. إنني أجيد استخدامه ...
بعد أن أخذ الزبون قناعه ومضى به خارج المتجر .. سألت البائع بأن يحدثني قليلاً عن ذلك القناع .. فقال لي :
( قناع المصالح ) ياصديقي من الأقنعة المنتشرة أيضاً بكثرة في الدول العربية .. إذ أنه يمنحك قوة هائلة في الاحتيال والتلاعب على الآخرين .. ويعطيك أيضاً ميزة التحول إلى شخصيات عديدة ومتنوعة ...
وبمجرد ارتداءك لذلك القناع .. سوف تُمحى من ذاكرتك كل الصفات التي لها صلة بالأخلاق والقيَم الإنسانية.. وستشعر بأنه أصبح لديك ذيل وأنياب .. وبأن أفكارك أصبحت خبيثة كالثعلب الماكر ...
وبعد الأبحاث العلمية الطويلة .. توصلّنا لتطوير ذلك القناع لكي يصبح مفعوله أوتوماتيكياً .. فبمجرد حاجتك لأي شئ من أيّ شخص كان .. ستتحوّل فجأة :
من كلب شرس مسعور .. إلى فأر صغير مذعور
ومن صقر من الصقور .. إلى بعوضة فوق رؤوس الناس تطنّ وتدور
ومن ذئب مفترس .. إلى نعامة رأسها في التراب مطمور
وستصبح فُرشاة تحَفّ أحذية أصحاب السُلطة .. كما يُحَفّ على الجدران الطبشور
وستَنزع عنك رداء الكرامة والشهامة .. كما تُنزع عن البصلة القشور
وستغدو ياصاحبي بلا إحساس ولا دم .. ستغدو كالأموات في القبور .
وعند انقضاء حاجاتك ستتحول أوتوماتيكياً لحالتك السابقة ..وكأنك تنقلب رأساً على عقب.
· تابع البائع : ومن نتائج ذلك القناع أيضاً :
أنك ستصبح كالحرباء .. بوجهين أو أكثر
وسيصبح لك قرنين .. كثور هائج أو أكبر
ولسوف تشكوا للناس دائماً .. عيشتك الحقيرة وحظك الأغبر
وستسيل منك دماء العفّة والطيبة .. دماءٌ ( بعد انقضاء حاجاتك ) ستتخثّر
وستصبح مزهواً بنفسك .. كطاووس يتبختر
مع أنك ستغدو بأعين الجميع .. كجرثومة أو أصغر
وستصبح عبداً لمصالحك .. ستصبح عبداً .. كل يوم بالذلّ يتعفّر .
فجأة .. سكت البائع وبدت ملامح الحزن ظاهرة على وجهه المتعب ...
ثم خاطبني قائلاً :
· في الحقيقة أنا لست سعيداً أبداً في هذه المهنة .. فأنا أبيع للناس الكذب والنفاق الذي يوصلهم لتحقيق أطماعهم ورغباتهم الملتوية .. فمن أين لي أن أشعر بالسعادة وأنا أحس بأنني مجرم يساعد هؤلاء الأوغاد على تحقيق مآربهم .. وقد أمضيت زمناً طويلاً في بيع هذه الأقنعة .. ولأول مرة يأتيني زبون مثلك ويطلب قناعاً للسعادة ! قناع لا يضر أحد .. ولا يسبب الآلام للآخرين .. قناع يمنح الناس أروع ما في الوجود ( الحب والسعادة ) ..
وياليتني أملك ذلك القناع .. لكنت أول من يرتديه !!!
· أمسكت بيد البائع وقلت له : مار أيك أن نبحث عن السعادة معاً .. بعيداً عن تلك الأقنعة المزيّفة ...
· قال لي : وكيف ذلك ؟؟؟
· قلت : عليك أولاً أن تتخلص من هذه الأقنعة .. وأن تبيع مكانها شيئاً آخر .. كأن تبيع مثلاً أزهاراً و وروداً .. وإن وافقتني الرأي سأصبح شريكاً لك في تلك المهنة ..
· تأمّلَ قليلاً بالأقنعة .. ثم نظر إليّ بحماس باسطاً يده لمصافحتي وقال : أوافقك الرأي ياصديقي .. إنها لحقاً فكرة رائعة .. ولكن كيف سأتخلّص من تلك الأقنعة ؟؟
· قلت له وقد كنت مسروراً جداً بقراره: ما رأيك بأن نحرق كل هذه الأقنعة ؟؟
· نظر إليّ بدهشة مع قليل من التردد ثم قال : ساعدني إذاً بحمل تلك الأقنعة لخارج المتجر وسنقوم بإحراقها معاً .. لعلنا بذلك نخلّص شعبنا ممّا تخلّفه تلك الأقنعة من آلام وأضرار .
· وضعنا الأقنعة في زاوية من الشارع .. وبدأنا بحرقها أمام العامّة ...
وإذا بالناس يركضون نحونا وهم يبكون ويصرخون قائلين :
أيها الحمقى .. أيها المجرمون .. كيف لكم أن تحرقوا هذه الأقنعة ؟؟؟
ألا تعلمون بأنها تساوي كل حياتنا
وبأنكم ستهدمون بحرقها كل أحلامنا
نرجوكِ أيتها الأقنعة لا تحترقي !!
فأنتِ الشمس في سماءنا
وأنتِ الهواء في صدورنا
ولسوف نفديكِ بأجسادنا وأرواحنا
وسنضحي من أجلكِ .. بأمهاتنا وأبناءنا
فنحن لا نملك أحداً غيركِ .. وأنتِ لا تملكين أحداً غيرنا .
وتهافت الناس على الحريق لإطفائه ...
فمنهم من تشوّه جلده .. ومنهم من قضى نحبه .. ومنهم من فقد صوابه وطار عقله !!!
نظرنا أنا والبائع لبعضنا البعض .. وضحكنا ثم ضحكنا .. حتى تطايرت قهقهاتنا في أرجاء المكان الذي امتلأ بالناس والدخان الكثيف ...
· قال البائع وقد اغرورقت عيناه بالدموع :
هيا بنا ياصديقي للورود ... ووداعاً لكِ أيتها الأقنعة .
........................................ ........
.......................
..........
المفضلات