وليد سليمان

في خمسينات القرن الماضي .. كان أهالي عمان في أيام الربيع والصيف وحتى في بعض ساعات فصل الشتاء المشمسة يجدون في الذهاب إلى بعض البساتين الجميلة والمنتزهات المعروفة كل السرور والترويح والمتعة عن النفس.. حيث المشاهد الخضراء والهواء الصحي النقي , والسماء الزرقاء الرائعة التي تزيد الروح والعقل جلاء وفرحاً.
ومن متنزهات عمان القديمة والتي كان مجمل سكان عمان يرتادونها: متنزه رأس العين وممتنزه حاووز الأشرفية وبساتين المحطة ومنطقة آثار جبل القلعة ومتنزه اللويبدة ... وغيرها من المناطق الشجرية والعشبية كالبساتين الشهيرة.. والتي أشارت لبعضها المؤلفة لكتاب « بنات عمان أيام زمان»
د. عايدة النجار حيث تقول:
بُنيت مدرسة الملكة زين الشرف الثانوية عام 1952 في موقع كان الأجمل والأرحب في مدينة عمان من أراضي بستان أبو شام المعروف بميزاته الطبيعية الجميلة في جبل عمان قرب الدوار الأول.

بستان جبل عمان
وقد اكتسب بستان أبو شام سمعته لخضرته الدائمة ومن أشجاره البرية وغيرها المثمرة التي تظلل مساحات شاسعة , مثل شجر الخوخ والدراق والكرمة.. وزادت المكان أُنساً أصوات تلك الطيور التي كانت مصدر سعادة للمتنزهين الذين يؤمون المكان البعيد هذا لقضاء وقت سعيد تحت أشجار الحور والصنوبر الظليلة.
وكان لبعض البساتين الخضراء في عمان منزلة وخصوصية.. فالمشاة من أهل عمان كانوا يتوقفون للنظر إلى الاشجار المزهرة منها, وقد زينت العاصمة الفتية وكأنها «مصابح الصبايا».
ومن هذه البساتين المفرحة: بستان القبيسي أو بستان الغريب, وكان مركزاً وموطن قدم لطلاب المدارس لصيد العصافير في أيام العطل.. وهناك بستان منكو وبستان البلبيسي والعنبتاوي, وثم بستان جميل يحيط ببيت الشريف زيد المحاذي لبيت سعيد المفتي في جبل عمان.
وكان هناك بستان أبو قورة جار مدرسة الكلية العلمية الإسلامية مقابل بستان أبو شام.

في محاذاة السيل
في موضع آخر من الكتاب تقول صاحبة ذكريات «البنات أيام زمان في عمان»: ولقد شكلت البساتين نعمة لسكان منطقة المحطة القريبة من سجن المحطة, فالخضرة كانت مبعث أُنس للبيوت القليلة المتناثرة يمنة ويُسرة, محاذية للنهر الذي يقطع أراضٍ بعضها على اليمين قاحلة في الطريق إلى الرصيفة الخضراء, إلى أن يصل الباص الزرقاء, حيث كان سيل عمان - الزرقاء الشهير بجمال الأشجارمن حوله يكون متعة للمتنزهين الذين يقصدون المدينة البعيدة عمان بحوالي (23) كم يوم الجمعة لقضاء أجمل الأوقات, في مكان ظل في ذاكرة الناس وكأن الذكرى خيال من وصفهم.
ويذكر عبد الرحمن منيف الروائي الشهير عن عمان في أربعينات القرن الماضي ما يلي:
ويبدأ أهل جبل عمان مشاويرهم بالحاووز الصغير, وفي محاولة لإقناع أنفسهم أن هذا المقدار يكفيهم ويطيلون النظر إلى بستان يعقوب السلطي, ومقابل بيت العدوان كانوا يقضون وقتاً ممتعاً يلعبون بكرة القدم ويصنعون الشاي.
أما طريق مدرسة المطران فقد كان يحفل بأعداد كبيرة من المتنزهين وكان عدد النساء والأطفال يزيد كثيراً عن عدد الرجال, وفي هذه المشاوير التي تأخذ صفة الاكتشاف لتحديد واختيار المكان المناسب ليوم الجمعة القادم.
وعن بستان أبو شام يذكر كذلك: فقد كان هذا البستان يحدد المدينة من الغرب, فما عدا بيت الجيوسي ذو الشرفة الدائرية كانت الأرض خلاء, ولا تقوم فيها إلا أبنية قديمة متناثرة, وهناك أيام الجُمع كان ينتشر الناس من الضحى إلى الغروب, حيث يأكلون ويشربون ويطربون, وكان الفتيان مدفوعين بالجرأة ورغبة الاكتشاف يتوغلون في الحقول التي تبدأ بعد بستان أبو شام مباشرة. وآخرون يأخذون السفوح الجنوبية, فإذا رجع الذين توغلوا في البساتين مذهولين بما صادفوه من طيور الفري, التي تقفز من بين أرجلهم.

بساتين المحطة
وعن ذلك ورد في مذكرات محطة عمان للطبيب موفق كاتبي: لقد كانت بساتين المحطة المنتشرة بين عمان والمحطة لفترة طويلة المتنزه اليومي الوحيد لسكان عمان في أيام الربيع والصيف, كذلك كانت مصدراً هاماً للخضار التي يستهلكها العمّانيون. تأخذ البساتين تلك سفح جبل القصر الملكي وسيل عمان. حيث يخترقها شارع عمان – المحطة بشكل تصبح المسافة الكبرى بين السيل والشارع.
وكانت البساتين تسقى من ساقية تنفصل عن مجرى السيل قرب المدرج الروماني أسفل جبل الجوفة, وتستمر تسقى البساتين بمواقيت متفق عليها.
والمُلاحظ أن أصحاب تلك البساتين كانوا من نابلس, فالحاج علي البلبيسي كان يؤجر بستانه, وبستان عائلة كلبونة بين الشارع والجبل, , ثم عائلة حسونة وعائلة الصراوي, وعائلة الوزني, حيث كانوا يعملون في بساتينهم.
وقيل أن حمدو الأنيس استصلح مساحة كبيرة من الأرض التي يغمرها السيل وحفر فيها بئراً بقي يشاهداً لعشرات السنين دون استغلال لمائه, وأجّر تلك الأرض إلى (أبو حنا الأرمني) حيث اختص بزراعة الجزر !!.
كان أصحاب البساتين يزرعون جميع أنواع الخضار المعروفة والمألوفة والتي كانت تشكل الحجم الأكبر من محاصيلهم حيث كانوا يبيعون محاصيلهم في سوق الخضار .. حتى منهم من أسس محلات للبيع بالجملة في السوق المركزي , مثل عائلة كلبونة. وكانت تباع بعض الخضراوات مباشرة في البستان لمن يصل للبستان بسعر رخيص وبشكل طازج جداً.
أما أشجار الفاكهة فكانت قليلة وتشمل اللوزيات والتين والتوت والمشمش, وقد زالت هذه البساتين تدريجياً بعد سنة 1948 ومجيء اللاجئين وتوسع مدينة عمان, حيث صار الشارع الجميل الظليل صار شارعاً تجارياً مهماً في عمان ويتابع الشارع سيره ليصل إلى المحطة فالزرقاء وهكذا.
الثعالب والواويات
وفي مذكرات رحلته مع الحياة يذكر الخطاط وشيخ الفنانين التشكيليين الأردنيين رفيق اللحام ما يلي:

بستان أبو شام
من كروم أو «بستان أبو شام» كنا نقطف العنب منها خائفين من الواويات والحصينيات ((الثعالب)) التي كانت كثيرة في تلك المنطقة, ولا زلت أذكر ذلك الانفجار الكبير الذي حدث في هذا البستان في نهاية الأربعينات جراء اشتعال البارود الذي كان مخزناً هناك في مغارة لأبي شام بطريقة غير آمنة, وكان ذلك في شهر آب عام 1949, وقد راح ضحية هذا الحادث المؤلم ما يقارب عشرة أشخاص وجُرح الكثيرون.. وانتشرت سحب الدخان وتطايرت حجارة وموجودات المغارة التي كان بها البارود حتى بلغت منازل في جبل اللويبدة في الجهة المقابلة, وتهشم زجاج مئات المنازل في عمان وقوة الانفجار والاهتزاز وسبب الحادث الخوف والإرباك عند الناس الذين كانوا يعيشون أجواء حرب 1948.
وفي ذكريات الباحث المرحوم فؤاد البخاري في كتابه عمان وذاكرة الزمن الجميل إشارات لبعض بساتين عمان منها بستان طاش في جبل اللويبدة والذي أقيمت مكانه او بالقرب منه مدرسة تراسنطة في نهاية أربعينات القرن الماضي, وكان البستان لرجل شركسي من عائلة طاش, وكان البستان مليئاً بأشجار الزيتون والليمون بشكل كبير وبأشجار أخرى. وهناك من يقول أن بستان طاش كان يمتد على مساحة أوسع مما سبق وتشمل منتزه جبل اللويبدة مع أرض مقر شرطة العاصمة مع أرض مدرسة تراسنطة والله أعلم!!.

منتزه رأس العين
كانت العطلة الأسبوعية للموظف والعامل والطالب على حد سواء, فرصة للراحة بعد ستة أيام من العمل والدوام, لكن الراحة لم تكن تعني المكوث في البيت, بل التمتع بالعطلة, وهذه تعني الخروج إلى أماكن التنزه الكثيرة التي كانت منتشرة في عمان, بدءاً من بساتين رأس العين وضفة السيل, مروراً بالمهاجرين وصولاً إلى منطقة المحطة, صعوداً باتجاه ماركا, وانتهاء ببساتين الرصيفة.
ففي تلك الأيام القديمة في الأربعينات والخمسينات كان متنزه رأس العين يشكل ما يشبه غابة من أشجار الصفصاف والحور والدفلى والصنوبر التي تحجب الشمس الحارة عن المتنزهين, وكانت هناك شلالات المياه والجداول الصغيرة المليئة بالأسماك. لذا كان هذا المتنزه المكان المفضل لرحلات المدارس والعائلات وأفراد المجتمع.
وفي متنزه رأس العين كان الملك المؤسس عبد الله الأول يقيم لضيوفه الرسميين مآدب الغداء, كما كان العديد من شخصيات عمان ووجهائها كانوا يقيمون ولائمهم فيه, في حين كان المتنزهون يحضرون وجباتهم جاهزة أو يشوون اللحم هناك, وكانت هذه الرحلات تدعى «سيران» وهو تقليد شامي معروف.
هذا وقد تكاثرت بساتين الزراعة في منطقة رأس العين حيث كان أصحابها يبيعون خضراواتهم إلى سوق الخضار في عمان , أو لمن يدخل البستان للشراء بشكل فردي كالفجل والخس والبقدونس والزهرة والبصل الأخضر...إلخ بثمن زهيد.
الأربعاء 2015-03-04