
إبراهيم كشت
بُنيّ ، يا أحبّ الناس أجمعين ......
حين كنتَ طفلاً يخطو خطواته الأولى في المشي ، يترنح حيناً ، ويتوازن أحياناً ، ويسْقط في أحيانِ أخرى . كان خوفي عليك يملؤني ، فالحوافّ الحادّة لأثاث المنزل ، وسطح الأرض الصلبة ، كفيلة بأن تشجّ رأسك الصغير إن أنت سقطت. كنتُ أتبعك من خلفك وأنت تتعثّر في مشيك ، أفتح ذراعيَّ أمامي وأمدٌّهما ، وأسير وراءك ببطءٍ يجاري بُطْأك ، كيما أسارع الى الإمساك بك إن أنت فقدت توازنك . وأظلّ كذلك ، مشاعري خليط من فرحِ و قلق ، وعقلي متنبّه لخطوات أقدامك الصغيرة ، ورجائي الوحيد هو أن تتوازن ، وفقاً لمقتضيات التوازن في قوانين الفيزياء التي لا تستثني من أحكامها أحداً .
ضحكتُ من نفسي ... وضحكتْ نفسي مني ..!
ها أنتذا – يا بُنيَّ - قد كبرت ، بلغتَ سنَّ الأهلية الكاملة ، كما يقال في القانون، نلتَ رخصة السوق ، وانطلقت بالسيارة وحدك لأول مرة ، فلحقتُ بك دون أن تدري ، تبعتك والقلق يستبدُّ بي . وفي الطريق ، تذكرت نفسي وأنا أمدّ يديَّ المفتوحتين أمامي وأمشي خلفك ، وأنت تتعثر بخطواتك الأولى قبل نحو سبع عشرةَ سنة من ذلك اليوم، ضحكتُ عندها من نفسي ، وضحكت نفسي مني ، لكني التمستُ لذاتي العذر ، فمحبة الآباء لأبنائهم تفرز كثيراً من الخوف والقلق ، ولا سيّما أن من طبع الفتيان والصبيان والشباب أن يندفعوا و يتهوّروا، غافلين عن المخاطر التي يعيها الكبار و يخشونها .
تَفضحُ حركاتي المتوترةُ سريرتي ...
تخرجُ الآن – يا ابني - بالسيارة وتقودها وحدك كلّ يوم ، فيغزوني القلق من لحظة انطلاقك حتى عودتك ، أغالب مشاعري السلبيّة وأفكاري السوداء ، أُخفي قلقي عمّن حولي ، أتظاهر برباطة الجأش حتى أمام ذاتي ، بينما تفضح حركاتي المتوترة سريرتي المضطربة ، أنهض ُبلا داعٍ ، أمشي دون قصد الى الباب والشباك ، أعود لمكاني دون تفكير ، أكرّر النظر الى الساعة دون مبرر ، لا استقرّ ولا أطمئن حتى تعود أنت للبيت ، فأتنفس الصُعداء ، وأحسٌّ أن الصخرة الكبيرة التي كانت تعلو صدري قد تدحرجت عنه .
المخاطرُ المحاطةُ بعدم التوقع ...
المشكلة يا بني ، أنكم أنتم الشباب لا تدركون المخاطر كما ندركها نحن الكهول ، لم تجربوها ، ولم تعايشوها ، ولم تشاهدوا آثارها مثلنا ، أنكم لا تعونها كما نعيها ، فحوادث السيارات محاطةُ دائما ً بكثير من عدم التوقع ، نعم ، حادث السير يقع لسببِ عابرِ قد لا نتوقع أنه يؤدي الى النتيجة التي نجمت عنه ، ويقع بسرعة أكبر مما نتوقع ، ويرافقه فقدان السيطرة بأكثر مما تتوقع ، وغالباً ما تترتب عليه أضرار جسدية و مادية و نفسية أكثر – أيضا- مما نتوقع .
قوانين الفيزياء الصارمة :
وحوداث السيارت أمرُ يقع كل يوم ، و يتكرر ، ويشكل واحداً من أهم أسباب الموت والإعاقة ، والإحصاءات الفعلية المتعلقة بالحوادث تُعلّمنا أنها خطرٌ محدقٌ بنا ينبغي أن نحذره . وثمة قوانين في الفيزياء تتعلق بالسرعة والجاذبية والطرد المركزي والجذب والقوة والفعل ورد الفعل ، ولا يجوز لنا بحالِ أن ننكرها ، فهي تنطبق علينا وعلى الطبيعة كلها شئنا أم أبينا ، وحين تسرع أنت بسيارتك ، أو تفقد جزءاً من إنتباهك ، أو لا تتحوط كما يجب ، فأنك بذلك تستدعي تلك القوانين الفيزيائية ، وتوفر لها عناصرها لتنطبق على أرض الواقع بإرتطام السيارة أوانقلابها ، فتعرِّض نفسك وغيرك لأذىً مضاعف .
كم دَحضتْ الوقائع ما كانوا يدّعون :
لا تتأثر يا بُني بأحاديث شبابٍ من حولك ، يصوّرون لك السرعة شجاعة ، والتجاوز الخاطىء جرأة ، ومخالفة قواعد المرور (شطارة) ، فكم دفع مثل هؤلاء من ثمن باهظ لقناعاتهم الباطلة هذه ، وكم تركوا في نفوس أهليهم من حسرة ، وكم أثبت الواقع خطأ ما كانوا يدّعون ، ودحضت الأحداث والحقائق والأرقام ما يزعمون .
لا يتهورون ، ولا يتحدّون ، ولا يعاندون ...
يا بُني ، ليت الصبيان والشباب يتعلّمون من حكمة مَنْ يكبرونهم سناً ، ومَنْ يزيدون عنهم في حجم رصيد التجربة والخبرة ، دون أن يضطّروا لأن يجربوا الأخطار والأضرار بأنفسهم ثمناً لتعلّمهم ، ليتهم يقدِّرون قلق آبائهم ، وخوف محبيهم ، فلا يتهورون ، ولا يعاندون ، ولا يتحدّون قوانين الطبيعة الثابتة ، فقد يسرع المرء بسيارته مرةً أو عشراً أو مائة دون أن يناله شيء، لكن في مرة واحدة تكتمل لقوانين الفيزياء شروط إنطباقها، وما هي الا لحظةً حتى تكون الخسائر فادحة في الدم والنفس والجسد والمال.
ثمة من لا يطيق أن تنخزك شوكة ...
أردْتُ لك يا بني الاّ تعيش المشقة التي عِشتُها في ذهابي وإيابي الى الجامعة أو سواها أيام الشباب ، وأن لا تعيش شعوراً مؤلماً وأنت ترى أترابك وَمَنْ حولًك يملكون ما لا تملكْ . وليس من حق أبيك أن يحرمك من أشياء لمجرد خوفه وقلقه ، ولكن لقاء ذلك، قدِّرْ محبة من حولك لك ، وخوفهم عليك ، وكن ناضجاً ولو صغرت سنك ، واحذر التهور والسرعة وقلة الانتباه ، وتذكّر دائماً أن في هذه الحياة من لا يطيق أن تنخزك شوكة .....
المفضلات