تابــــــــــــــــع الوعد القرآني في سورة النور
الوعد بالأمن بعد الخوف:
قوله تعالى: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً):
هذا هو وعد الله الثالث لعباده المؤمنين، بأن يزيل عنهم حالة الخوف التي كانوا يعيشونها، وأن يحل محلها الأمن.
وقد أكد الله هذا الوعد بالمؤكدين السابقين: لام القسم، ونون التوكيد الثقيلة، ليزداد يقين المؤمنين بتحقق هذا الوعد.
لقد كان المسلمون مستضعفين في مكة، وكان المشركون يضطهدونهم ويعذبونهم، ومع أن المؤمنين ثبتوا على دينهم، وصبروا على الشدائد والمحن، إلا أنهم كانوا يخافون على أنفسهم وأهليهم، لأنهم كانوا يعيشون وسط الخطر، وهذا الخوف خوف فطري طبيعي، يحصل لكل إنسان، إذا أقدم على أمر عظيم، أو ووجه بالخطر، وهو ليس خوفاً نفسياً، يقوم على الجبن، ويقعد بصاحبه عن الواجب!.
ولما هاجروا إلى المدينة، وأقاموا دولة الإسلام فيها، هاجمهم الأعداء جميعاً، من المشركين واليهود والمنافقين، وكانوا مستنفرين دائماً، يخافون هجوم الأعداء، ويتوقعون الخطر، وينامون ويستيقظون وأيديهم على السلاح.
ففي غزوة الأحزاب مثلاً، فوجئوا بهجوم أحزاب الكفر عليهم، من المشركين واليهود، حيث جاؤوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، فخافوا وزلزلوا. وقال الله عن خوفهم: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب: 10-11].
ولكن خوفهم كان لحظة قصيرة، سرعان ما زال وحلت محله الشجاعة، فثبتوا في مواجهة أحزاب الكفر.
وقال الله عن ابتلائهم بالخوف: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 155].
وقد أزال الله كل مظاهر الخوف وأحل محله الأمن، بعدما قوي أمر المسلمين، ونصرهم الله على أعدائهم الكافرين، وفُتحت مكة قلعة الكفر، في السنة الثامنة، وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، ودخل الناس فيه أفواجاً.
وبذلك حقق الله للمؤمنين هذا الوعد الصادق، وامتن عليهم بهذه المنة. قال تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) [الأنفال: 26].
وإذا كان المسلمون في هذا الزمان يخافون، بسبب هجمة الأعداء عليهم، فإن هذا نتيجة لبعدهم عن الإسلام، وسوف يزيل الله عنهم هذا الخوف في المستقبل، ويحل محله الأمن، عندما يصدقون في العودة إلى الإسلام، وتطبيق شرع الله.
شرط تحقق الوعود الثلاثة:
قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).
هذا شرط آخر لتحقيق وعود الله الثلاثة: الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، وتبديلهم أمناً بعد الخوف. يضاف للشرط الأول: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
ومعناه أن هؤلاء المؤمنين يعبدون الله وحده، في كل صور العبادة، وأنهم يوحدون الله، ولا يعبدون غيره، ولا يشركون به غيره، ومن أهم مظاهر عبادة الله الخضوع المطلق له، وتلقّي الأوامر والتشريعات منه، وعدم تلقيها من غيره، فالعبادة في روحها تعني إفراد الله بالشعائر التعبدية، وبالشرائع القانونية، وكافة الأحكام الشرعية.
فإذ ا لم يكن خضوع المؤمنين مطلقاً لله، وإذا لم يوجّهوا كل عباداتهم لله، وإذا كانت بعض مظاهر ومجالات حياتهم غير خاضعة لله، لم ينالوا هذا الوعد، لأنهم هم الذين أخلوا بالشرط.
ومسلمو هذا الزمان لم تتحقق في حياتهم هذه الوعود الثلاثة –الاستخلاف في الأرض، وتمكين الدين، وتبديلهم الأمن بعد الخوف –على الصورة المثلى التي تحققت عليها عند المسلمين السابقين.. وهم السبب في ذلك، لأنهم لم يحققوا الشرط في قوله: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)، فهم خاضعون لله في جزء صغير من حياتهم، وهو الخاص بالصلوات، وخاضعون لغير الله، ويطبقون شرع غير الله في معظم جوانب حياتهم!.
وسوف تأتي أجيال قادمة تحقق شرط الاستخلاف، وتصدق مع الله في إيمانها وعلمها وعبادتها وإخلاصها، وعند ذلك يحقق الله لها الوعد، فيستخلفها، ويمكّن لها دينها، ويبدلها من بعد خوفها أمناً.
قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
هذه أوامر ربانية من الله للمؤمنين، الموعودين بالاستخلاف والتمكين والأمان، يذكّرهم الله فيها بالأحكام الشرعية المطلوبة منهم: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية تأكيد آخر على أن وعد الله للمسلمين بالاستخلاف والتمكين ليس مطلقاً، وإنما هو مقيّد ومشروط، وأنه لن يتحقق إلا للمسلمين الصالحين، المنفّذين لأوامر الله، ودليل ذلك أنه تحقق للمسلمين السابقين الملتزمين بشرع الله، وسيأتي مسلمون قادمون صادقون ملتزمون، ينالون موعود الله.
* * *
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات