منزلة الإخلاص :
إن الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح الرسل عليهم السلام ، قال تعالى : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ )) (البينة: من الآية5) وقال سبحانه : (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )) (النساء: من الآية125)وقال عز وجل ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) (الملك: من الآية2)
قال الفضيل : أي أخلصه وأصوبه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " ( رواه مسلم )
وقال صلى الله عليه وسلم : " من تعلم علماً مما يُبْتَغَى به وجه الله عز وجل ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا ، لم يجد عَرْفَ الجنة ( يعني ريحها ) يوم القيامة " ( رواه أبو داود ) و الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً .
• ومما ينبغي التذكير به في هذا الموضع هو أن الإخلاص إذا تمكن من طاعة ما ، فكانت هذه الطاعة خالصة لوجه الله تعالى ، فإننا نشاهد أن الله يجزي الجزاء الكبير والعطاء العظيم لهؤلاء المخلصين ، وإن كانت الطاعة في ظاهرها يسيرةً أو قليلة ، يقول ابن تيمية في هذا الشأن : " والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله ، فيغفر الله به كبائر كما في حديث البطاقة ، فهذه حال من قالها بإخلاصٍ وصدقٍ ، كما قالها هذا الشخص ، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلُّهم يقولون التوحيد ، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجّح قول صاحب البطاقة "
ثم ذكر ابن تيمية حديث البغي التي سقت كلباً فغفر الله لها ، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له – ثم قال : " فهذه سقت الكلب بإيمانٍ خالص كان في قلبها فغفرا لله لها ، وإلا فليس كلُّ بغي سقت كلباً يغفر لها ، فالأعمال تتفاضلُ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال " ( منهاج السنة 6/ 218)
• وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاصٍ وصدق مع الله لا قيمة لها ولا ثواب ، بل صاحبها متعرض للوعيد الشديد ، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير ، وقتال الكفار ، ونيل العلم الشرعي ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأتي به ، فعرّفه نعمته فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال حريء فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقى في النار ، ورجلٌ تعلم العلم وعلّمه وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه ، فعرفها ، قال : فما عملت ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ،قال : كذبت ،ولكن تعلمت ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجلٌ وسّع الله عليه ، وأعطاه من صنوف المال ، فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها ، قال ، فما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل تحبُّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال جواد ! فقد قيل ، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار " ( رواه مسلم )
3- تعريف الإخلاص وحده :
• أما تعريف الإخلاص وحدّه ، فقد تنوعت عبارات
العلماء في ذلك :
• فهناك من يعرّفه بـــ :إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة .
• وهناك من يقول : الإخلاص تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين .
• ويقول الهروي : الإخلاص تصفية العمل من كلّ شوب ،
• ويقول بعضهم : المخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كلُّ قدرٍ له في قلوب الناس ، من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل ، ولا يحبُّ أن يطلع الناس على مثاقل الذر من عمله .
ولا شك أن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة كبيرة حتى يناله العبدُ تماماً ، وقد سئل سهل بن عبد الله التستري ، أي شيء أشد على النفس ؟ قال : الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيبٌ ، وقال سفيان الثوري : ما عالجت شيئاً أشدّ علىّ من نيتي ، إنها تتقلب عليّ ، ولذا فإن النفس الأمارة بالسوء تُشيّن الإخلاص في قلوب ا لمكلفين ، وكما يقول ابن القيم عن تلك النفس : " وتريه الإخلاص في صورة ينفر منها ، وهي الخروج عن حكم العقل المعيشي ، والمداراة ، والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين الناس ، فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئاً تجنّبهم وتجنبوه وأبغضهم وأبغضوه " ( الروح ص 392)
4- من دقائق الرياء وخفاياه :
• واعلم أن الإخلاص ينافيه عدة أمورٍ من حب الدنيا والشهرة ، والشرف ، والرياء ، والسمعة ، والعُجْب .
• والرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس ، فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه .
• وأما السمعة فهي العمل لأجل سماع الناس .
• وأما العُجْبُ فهو قرين الرياء ، وقد فرّق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : " الرياء من باب الإشراك بالخلق ، والعُجْبُ من باب من باب الشرك بالنفس " ( الفتاوى 10 / 277) .
وسأورد لك – أخي القارئ – بعضاً من دقائق الرياء وخفاياه ، وإلا فالحديث عن الرياء طويل جداً ، وحسبنا في هذا المقام أن نورد ثلاثة من تلك المسالك الدقيقة للرياء على النحو التالي :
• أما أولها :
فما ذكره أبو حامد الغزالي في أحيائه حيث قال : أثناء ذكره للرياء الخفي : " وأخفى من ذلك أن يختفي ( العامل بطاعته ) بحيث لا يريد الاطلاع ، ولا يُسرّ بظهور طاعته ، ولكنه مع ذلك رأى الناس أحبّ أن يبدءوه بالسلام ، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه ، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه ، وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان ، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ، ووجد لذلك استبعاداً في نفسه ، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يُطلع عليه ، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه ، ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ، ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل ، وكلُ ذلك يوشك أن يحبط الأجر ، ولا يسلم منه إلا الصّدّيقون " أ . هـ . ( الإحياء 3/305، 306) .
• وأما ثانيها : فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة لا غاية وقصداً لأحد المطالب الدنيوية .
وقد نبّه شيخ الإسلام على تلك الآفة الخفية فكان مما قال : رحمه الله : " حكي أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ، قال : فأخلصت أربعين يوماً لم يتفجر شيء ، فذكرت ذلك لبعض العارفين ، فقال لي : إنما أخلصت للحكمة ، ولم تخلص لله تعالى "
• ثم قال ابن تيمية : " وذلك لأن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة ، أو نيل المكاشفات والتأثيرات ، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم إياه ، أو غير ذلك من المطالب ، وقد عرف أن ذلك يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه ، فإذا قصد أن يطالب ذلك بإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضاً ؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود لذاته ، والأول يراد لكون وسيلة إليه ، فإذا قصد أن يخلص لله ليصير عالماً أو عارفاً أو ذا حكمة ، أو صاحب مكاشفات ، وتصرفات ونحو ذلك ، فهو هنا لم يرد الله ؛ بل جعل الله وسيلة له إلى ذلك المطلوب الأدنى " ( الدرء 6/66، 67)
• ولذا يقول الشاطبي رحمه : " إن الفاعل للسبب عالماً بأن المسبب ليس إليه ، إذا وكله إلى فاعله وصرف نظره عنه كان أقرب إلى الإخلاص ، فالمكلفُ إذا لبّى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي في السبب من غير نظر إلى ما سوى الأمر والنهي ، خارج عن حظوظه ، قائم بحقوق ربه ، واقف موقف العبودية ، بخلاف ما إذا التفت إلى المسبب وراعاه ، فإنه عند الالتفات إليه متوجهٌ شطره ، فصار توجهُهُ إلى ربه بالسبب ، بواسطة التوجه إلى المسبب ن ولا شكّ في تفاوت ما بين الرتبتين في الإخلاص " ( الموافقات 1/ 219- 220) ولما ذكر الشاطبي حكاية : " من أخلص لله أربعين يوماً " قال رحمه الله : " وهذا واقعٌ كيراً في ملاحظة المسببات ( النتائج ، والعواقب ) في الأسباب ، وربما غظت ملاحظاتها فحالت بين المتسبب وبين مراعاة الأسباب ، وبذلك يصير العابد مستكثراً لعبادته ، والعالم مغتراً بعلمه إلى غير ذلك " ( الموافقات 1/ 220)
• ومن دقائق الرياء – وهو ثالثها – ما أشار إليه ابن رجب رحمه الله بقوله : " وهنا نكتة دقيقة ، وهي أن الإنسان قد يذمُّ نفسه بين الناس ، يريد بذلك أن يرى الناس أنه متواضع عند نفسه ؛ فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به ، وهذا من دقائق أبواب الربا ، وقد نبه عليه السلف الصالح ، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير ، كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها ، وذلك عند الله سَفَهٌ " ( شرح حديث : ما ذئبان جائعان ، ص 46) .
المفضلات