أبواب
دروس التعبير والإنشاء
كل ما أذكر أني تعلمته من حصص الإنشاء في المدرسة، هو أن موضوع التعبير يجب أن يبدأ بمقدمة، يأتي بعدها صلب الموضوع، ثم تكون الخاتمة ..! وقد ظلَّ مدرسو اللغة العربية يكررون على مسامعنا، بداية كل عام جديد، هذا الثالوث المُمِلَّ دون سواه (المقدمة، صلب الموضوع، الخاتمة). من غير أن أعرف حينها، أو أعرف فـي الوقت الحالي، أيُّ حَرَجٍ يمكن أن يكون في أن نبدأ موضوع الإنشاء بدون مقدمة، أو أن نبدأ من عند النتيجة ثم ننتقل إلى صلب الموضوع ..! ولازلت لا أعرف، كذلك الحال، لماذا لم يعلّمونا، آنذاك، أهمية دقة التعبير، وإصابة المعنى، والاعتناء بالصلات والروابط بين الجمل، ومراعاة مطابقة اللفظ للفكرة، وتجنب الألفاظ المُفخّمة المُضخّمة ذات المضمون الضَّحلِ أو الخالية أصلاً من المضمون، ولماذا لم يعلمونا أن نُعبِّرَ من خلال ما يجول في الذهن والوجدان، وليس من خلال استخدام العبارات الجاهزة المعدة سلفاً للاستعمال .
أزعم أننا كمجتمع نعاني ضعفاً عامّاً واضحاً ومحسوساً في قدرة الأفراد على التعبير الكتابي، بغضّ النظر عن مستوياتهم الاكاديمية وشهاداتهم العلمية، حتى سادت بيننا قناعة بأن تلك القدرة موهبة، تقتصر بطبيعتها على عدد محدود من (المبدعين)، وليس ثمة ما يدعـو أي شخص لأن يكون قادراً على التعبير بالكتابة على نحو مقبول، فهو غير متخصص. لقد بات من الطبيعي، نتيجة لذلك، أن نلجأ إلى كاتب الاستدعاءات لمجرد التعبير كتابةً عن طلب بسيط وتقليدي يوجه لمسؤول في دائرة حكومية. وربما احتجنا إلى صياغة رسالة لجهة ما لعرض مشكلة أو طلب مساعدة، فإذا بنا نبحث طويلاً عمن يصوغها لنا، حتى نهتدي إلى واحد من هؤلاء الذين حفظوا بعض الكلاشيهات الجاهزة، التي تبدأ بها الكتب والرسائل، وحَفِظَ بعض العبارات المستهلكة التي تتضمنها (حشوة) الخطاب المكتوب، ثم بعض الجمل المفرغة من مضمونها، والتي ينبغي أن ترد في الخاتمة .
يظل التعبير الكتابي وسيلة اتصال إنساني ضرورية، مهما تعددت قنوات انتقال الرسائل، وسواء صارت تنتقل بواسطة البريد الالكتروني، أو أجهزة الخلوي، أو سـوى ذلك، ومعظم مجالات العمل في المؤسسات العامة والخاصة تتطلب كتابة التقارير وتبادل المذكرات وإرسال الكتب والمخاطبات، ومازالت للموضوعات المكتوبة أهميتها البالغة في مجال التعليم والإعلام والتوثيق والقضاء ونشر الثقافة وغيرها من المجالات، بما فيها الدعاية للسلع والخدمات والانتخابات. وهذا الضعف في القدرة على التعبير الكتابي شكل من أشكال (التشويش المعنوي) الذي يؤدي إلى عدم وضوح الرسالة وفقاً لما يقال في علم الاتصال، وهو أمر يستحق التوقف عنده والبحث في أسبابه وتحري آثاره ومحاولة معالجته .
أحد الأسباب الرئيسة لضعف القدرة على التعبير الكتابي، فيما أرى، قلة القراءة، فالمطالعة (هي في الحق أُمُّ الإنشاء، وأُمُّ الموهبة التي ينعم بها الطالب المنشئ القوي، ويضيق بها الطالب الضعيف) كما يقول المربي والمعلم خليل الهنداوي ـ رحمه الله. ونحن ـ كما يقال دائماً ـ مجتمع لا يقرأ، وحسبنا أن نعرف أن الفرد الفيتنامي يقرأ خمسين كتاباً والسنغافوري خمسة وأربعين كتاباً سنوياً في المتوسط. لندرك أين نحن من باقي الأمم في مجال القراءة التي تخلق، من خلال الإيحاء والتعليم غير المباشر والتأثير، القدرة على الكتابة والتعبير .
كما أَحسبُ أن اعتقادنا الدائم الخاطئ بأن التعبير الكتابي يجب أن يقوم على عبارات جاهزة، وقوالب لفظية معدّة سلفاً، ومقدمة وخاتمة ذات شكل محدد، ودَأْبِنا على تقليد مضامين وأساليب كتابة الآخرين، يحول دون سلاسة التعبير وبساطته وانسيابه، ويحول دون دقته أيضاً، فانظر مثلاً إلى عبارة (مما لا شك فيه ..) أو (لا شك أنه ..) التي يبدأ بها الكثيرون كتاباتهم، وتمعّن بما فيها من التقليد، وعدم الدقة، واستخدام للعبارة كقالب لفظي جاهز دون تفكّر ...! فهل هناك أفكار في أي مجال إنساني أو اجتماعي أو نفسي أو اقتصادي أو سياسي ليس فيها شك مطلقاً؟ هل هي قواعد في الرياضيات لنحكم منذ البداية بأن الشك لا يعتريها فنقول (مما لا شك فيه). ناهيك عن عبارات أخرى أنكى وأدهى يمكن تبدأ بها المواضيع التقليدية كالقول (لا يختلف اثنان ..!) أو (جميعنا يعرف ..) وكلها أحكام مطلقة تخلو من أي دقة، وليس وراءها إلا تقليد الشائع والمتداول في الكتابة .
أذكر منذ أيام المدرسة، أن حروف الجر، والجار والمجرور، كانت أسهل دروس القواعد في اللغة العربية، ومع ذلك فإني أَزعم أن أكبر ضعف لغوي يعانيه الناس في كتاباتهم يتمثل في خطئهم في استخدام حروف الجر! وأنا أدعو القارئ الكريم لأن يتتبع ذلك فيما يكتبه مثلاً الطلبة في إجاباتهم وأبحاثهم، أو ما يكتبه الموظفون في مخاطباتهم وتقاريرهم ومذكراتهم، وسيجد أنهم يستخدمون (من) بدلاً من (على) و(إلى) بدلاً من (في) و(عن) بدلاً من حرف جر آخر ... وهكذا، ولاسيما إذا كان هناك فاصل بين الجار والمجرور. وقد تبدو هذه الملاحظة غريبة أو مبالغاً فيها، إلا أنها تحتاج إلى تتبُعٍ ومراقبة، وأحسب أن من يقوم بذلك سوف تثبت له دقتها، التي نستنتج منها أننا فقدنا القدرة على التعامل حتى مع أبسط قواعد اللغة، مع أن عدم التمكن من هذه القواعد يضعف صلة العبارة ببعضها، ويوهن الروابط فيما بين الجمل، وهذا الضعف في الربط يكون سبباً رئيساً في الركاكة والهلهلة .
إني من المؤمنين بمقولة الفيلسوف والأديب الفرنسي (بوفون) الذي أشتهر باعتنائه بفنون الإنشاء، حيث يقول (مرآة المرء انشاؤه) وأحسب أنه أراد بقوله هذا أن التعبير صورة للتفكير، فالتفكير هو المضمون، والتعبير الكتابي شكل يعكس هذا المضمون بنسبة غير قليلة من الدقة، أفلا ترى معي مثلاً أن معظم المفكرين من أصحاب الفكر العميق قد امتلكوا أيضاً زمام التعبير الكتابي ؟ وأن من يملك وضوح الفكر وتسلسله يملك أن يعبر بوضوح وتسلسل؟
ولعلك ترى، مثلما أرى، أن كثيراً ممن يملكون قدرة هائلة على الاسترسال فـي الحديث، والتنظير الشفهي، ما أن يُطلَبَ إليهم أو يحالوا من تلقاء أنفسهم التعبير كتابةً حتى يقفوا عاجزين، ذلك أن التعبير الكتابي يتطلب مستوى من الدقة وربط الأفكار وتسلسلها أكثر مما يتطلب ذلك التعبير الشفهي الذي نمتاز به على بقية المجتمعات والأمم .
إبراهيم كشت
المفضلات