احباب الاردن التعليمي

النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: في قلب الخرطوم بحري ...دق النحاس.. ملهب نار الحماس!!؟

  1. #1
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Fri Aug 2009
    المشاركات
    5,344
    معدل تقييم المستوى
    20

    في قلب الخرطوم بحري ...دق النحاس.. ملهب نار الحماس!!؟

    قدرت لي مهمة صحفية قبل عدة أشهر أن أكون شاهداً على (حالة) تراثية كدت أن أتصور أنها اندثرت، حيث ذهبت للوقوف على ملابسات عملية (إزالة) مباغتة قامت بها السلطات بحي (دردوق) بمدينة بحري، وجلبت هذه العملية السخط من قبل الأهالي الذين اصطفوا للتعبير عن رفضهم لها، وفي وسط تلك الأجواء الملتهبة دوى (النحاس)، فتعالت الأصوات هنا وهناك وصار الكل يرنون لموكب قادم من البعيد يعلوه الغبار وهم يهمهمون (نحاس البطاحين دوى الليلة)، فتحركت كالمسحور وأنا أراقب ذلك المنظر المدهش تجاه الموكب الذي كان يتقدم ببطء.



    وما إن اقتربت منه حتى وجدت مجموعة من الشباب مفتولي السواعد يحملون طبولاً مصنوعة من النحاس ومغطاة بجلد أنهكته كثرة القرع عليه، وتجمع الأهالي من كل حدب وصوب وأحاطوا بهؤلاء الشباب وهم يرددون (منصورين.. منصورين) وكأنها تجهيزات قبل معركة فاصلة.. لقد أثرت فيّ بطريقة مدهشة هذه (الحالة) من الحماس، ودفعت إلى ذهني بأسئلة حول طبائع أهل السودان المختلفة، وتراثهم العجيب والفريد هذا، إذ إن لكل قبيلة موروثاتها العريقة والتي تنظم الحيلة في مختلف جوانبها، وتضع معايير للتعاطي مع ظروفها، سلماً كانت أو حرباً، رخاءً أم شدة، فرحاً أم كرهاً، وقد بقيت هذه الموروثات محفوظة كعهود خالدة، تقاوم تقدم الحياة وخطى المدينة التي تأخذ في طريقها كل من يعترضها، وما يعترضها، وعلى الرغم من الانتقال من الحيز الجغرافي مثلما في حال أبناء البطاحين هؤلاء، فإنهم قد حافظوا على ميراث أجدادهم لينفصل الزمان عن المكان، وتتوازى خطوط التاريخ والجغرافيا.

    وقد عنّ لي أن استفسر عن هذا الطقس الاجتماعي، فدلني البعض على العم فارس عمدة المنطقة وكبيرها، فاتجهت إليه وكان النحاس ساعتئذ يقرع والأدمع تفيض تأثراً والقلوب تخفق مع صوته المهيب، فقال لي: النحاس الذي تراه أمامك هذا يختلف عن المناطق الأخرى، فهو نحاس أصلي نحن لم نصنعه بأيدينا ولكن تحصلنا عليه من (البحر) مباشرة، وهو مصنوع من الجلد، وله أربعة أنواع وكانت في السابق توضع على الأحمال، والضاربون يضربون والناس يتأثرون، مشيراً إلى أنه كان في السابق يصنع من جلد التيتل، ويُجلب من حديقة الدندر، ولكن الآن يتم تجليد النحاس.

    وقد سألته عن الحالات التي يتم فيها قرع النحاس فحددها خلال إجابته عن سؤالي بأنه يقرع في حالات الحرب والسلم، كما يقرع عند وفاة أحد من القوم أو أيام الأعياد، مبيناً أن لكل حالة من الحالات هذه طريقة محددة في قرع النحاس يعرف بها الجميع سببها، فرحاً أم حزناً، حيث هنالك دقات للحماس والتشجيع للحرب، وهنالك دقات أخرى للسلم، مشيراً بيده نحو أحد الطبول: (الدرق) ضربه يكون لإثارة الحماس، كما يكون في بعض الأحيان للدلالة على الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية، وما أن يقرع حتى يذكر البعض منهم وخصوصاً كبار السن بالزمن الجميل وما عاشوه من أوقات.

    وذهب محدثنا العم فارس وهو يجوب ببصره في الأفق كأنما يستدعي ملامح أسلافه وأوقاتهم إلى تحديد أنواع النحاس، فقال هناك (الدنقر) و(أبو قدو)، وهي تعني بحسب لهجتهم (الشمس الساخنة)، وهذان النوعان يقرعان عند الحروب لما لهما من صوت داو وأثر عميق على النفس، حيث يحركان الحماس.. وقال: إن موسيقى النحاس تشبه إلى حد ما موسيقى الجيش، وتتلاقى معها في كونها حماسية مثلها، ولا يمكن لأحد أن يسمعها دون أن يتأثر بها، وقال إنه كثيراً ما لاحظ الدموع تفيض من أعين الناس حينما يسمعونها لا شعورياً، واستطرد متباهياً (يا ولدي.. دي نغمة خاصة)، ومضى العم فارس في تعداده لأنواع النحاس ليقول: إن هناك نوعاً يسمى (نفرين) وحينما يقرع يكون ذلك دلالة على أن هنالك أناساً يتشاورون في أمر ما، ويعرف الناس بالتأكيد أصحابه فلا يقاطعونهم ويتركونهم لشأنهم، كما أن هناك نوعاً يسمى (أوشلي) وهو يرمز لإنهاء الخصام بين المتخاصمين وطي صفحته، وقد سألت العمدة فارس عن سر ودلالة هذه الأسماء الغريبة فرد ضاحكاً: (يا ولدي هذه المسميات اشتهرت بها منطقة فازوغلي معقل ملك الفونج، وأهلك البطاحين لصلتهم وعلاقتهم الوطيدة بتلك المنطقة أخذوا مسمياتها).

    ويبدو أن افتتاني بالنحاس ما كان له أن ينقضي قبل أن يطل عليّ مرة أخرى، وهذه المرة حينما كنت في مهمة صحفية ساقت خطاي لدار الجعليين في شندي، وقد تجمهر الناس مجدداً على وقع النحاس، واصطف شعراء كبار ومرموقون في تلك الديار، يتبارون في إلقاء الشعر الحماسي المميز، عبر المسادير والدوبيت، ترمقهم نظرات الإعجاب وتلاحقهم وتقاطعهم صيحات الاستحسان لما تجود به قريحتهم على السليقة، أو كما يقول الأستاذ الصحفي حسين خوجلي (قطع أخدر)!!

    وقد التقيت بعد ذلك بواحد من هؤلاء الشعراء والفحول، وهو الشاعر الشيخ إبراهيم بابكر، وسرد لي الكثير عن شعراء هذه المنطقة وعن علاقتهم بالشعر (ربما تتسنى لي الفرصة لاحقاً للكتابة عنها باستفاضة)، وقد سألته عن ارتباط النحاس بتراث الجعليين، فقال إنه يرتبط عندهم بالفرح والشدة، وعلى وقعه يلتئم الناس، وهو مثله مثل السيف و"السوط" عند الجعليين، فهو يرتبط بالفراسة والشجاعة، مشيراً إلى أن النحاس حينما يقرع وقت الشدة فعليك أن تأتي (متحضراً) للقتال، موضحاً أن ارتباط النحاس قديم بمناطق الجعليين مما أكسبه مسميات تعبر عن ذلك مثل نحاس ود نورة، ونحاس السعداب (عبد الله ود سعد)، ونحاس المك (نمر)، وكل نحاس منها له ضربته المميزة التي يعرفه الناس بها، ودلل على حديثه بالقول (إذا قرع نحاس المك نمر فهذا يعني الحشد العام، وأن هناك ما يستدعي تجمعاً شعبياً من كل أرجاء المنطقة، وأكد الشاعر أن هنالك اختلافاً في الشكل بين كل نحاس والآخر، كما أن هنالك اختلافاً في القرع، وكل واحد منها يُعين له شخص ليقوم بالمهمة، والناس يعرفون (دقته)، بمعنى أنه لو قام شخص آخر بدق النحاس، فإن الناس يتجمعون وبالتأكيد لا يتفاعلون معه!

    وأنا أهم بالمضي استوقفني الشاعر بصيحة (يا جنا)، فالتفت إليه، فقال الشعر والنحاس أولاد عم، فاندهشت للعبارة، وواصل (النحاس يمنح الشاعر الإلهام، فهو يربطه بطقوس معينة، وهو موروث ثقافي لا يمكن تجاهله)، فسألته هل نتوقع أن تندثر هذه الموروثات، فرد سريعاً: لا.. إذا مات الشخص الموكل بدق النحاس يُعين شخص آخر من أسرته ويكون في الأساس قد تم تدريبه لهذه المهمة، وأُعد للخلافة، ولعل هذا ما حافظ على هذه المهمة، وبالتالي من الصعب أن تندثر، وختم حديثه بالقول (على كل، هذا العمل ليس حكراً على الرجال بل تقوم به النساء كذلك خاصة الطاعنات في السن منهن اللائي يحفظن "الدقات" عن ظهر قلب وكذلك طقوسها ومعانيها).

    لقد خرجت بطوافي وأسفاري بفوائد جمة، وواحدة منها تعرفي عن قرب على (النحاس)، هذا الوسيط عالي الدقة والتعبير، وأولئك الرجال الذين يطيرون خفافاً كخيول الريح عن سماع دقاته الملهمة.

    محمد فتحي

  2. #2
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Thu Aug 2010
    المشاركات
    189
    معدل تقييم المستوى
    14
    شكرا عال موضوع

  3. #3
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Wed Jun 2008
    الدولة
    صانعة رجال البواسل رجال الهيه المملكة الهاشمية
    المشاركات
    146,552
    معدل تقييم المستوى
    11586669





    شكرا لنقل الخبر
    تحياتي واحترااامي





المواضيع المتشابهه

  1. بعض الرجال كبار لكن مهابيل ...راقت لي
    بواسطة بنت النبهان في المنتدى الشعر النبطي , الشعر الشعبي
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 30-10-2011, 02:28 PM
  2. الى امي الحبيبة
    بواسطة malik malabeh في المنتدى خواطر واحاسيس منقوله
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 06-08-2011, 03:13 PM
  3. 46مليون دينار تداولات الأسبوع الماضي والقطاع المالي يستحوذ على77.1%
    بواسطة محمد الدراوشه في المنتدى جريدة الراي
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 28-05-2011, 07:03 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك