من الحارث الرابع الى عبدالله الثاني بن الحسين ... بقلم اسامة الدباس
يؤكد علماء الآثار من كافة بقاع الدنيا على اهمية البتراء لخمسة عناصر رئيسية توجد فيها وهي :-
أولاً : القيمة الأثرية العالمية التي تتمتع بها المدينة التي كانت لعدة قرون مركزاً تجارياً وسياسياً وعاصمة لدولة كانت لمئات السنين حلقة وصل ما بين دول العالم القديم وعندما يتحدث خبراء الأثار عن القيمة الأثرية فأنهم يقصدون بذلك ناحية تخطيط المدينة المتمثلة بوجود السوق والمعبد والمحكمة والخزنة وغير ذلك، وهم يقصدون أيضاً الطراز المعماري الفريد الذي يشكل نموذجاً للعمارة في نهاية الألف الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي ولعل خير مثال على ذلك بناء المعبد الكبير في البترا والذي قامت جامعة براون الأمريكية ودائرة الأثار العامة الأردنية بالكشف عنه أو قصر البنت على سبيل المثال .
ثانياً : الفن المعماري المميز والذي تنفرد به البتراء عن غيرها من مدن العالم القديم وهو فن البناء داخل الصخور أو ما نسمية نحت المباني في داخل الجبال بصورة مميزة لا يوجد لها نظير الا في مدن نبطية أخرى كمدائن صالح بالمملكة العربية السعودية وخير مثال على ذلك التحفة الفنية الفريدة " الخزنة " والتي تعد آية في الجمال والروعة وتعكس تطوراً علمياً وتقنياً عالياً إلى أكثر من ألفي عام .
ثالثاً : الموقع الاستراتيجي الذي أختير ليكون عاصمة للدولة النبطية بحيث يصعب على الغزاة والأعداء الوصول اليه بسهولة ويساعد المدافعين عن المدينة في حمايتها وعدم تمكين الأعداء من دخولها وذلك دون اللجؤ إلى بناء أسوار حولها حيث تم اختيارها في منطقة لا تحتاج إلى بناء أسوار.
رابعاً : الطبيعة الساحرة لصخور البترا ذات الألوان المتعددة والتي يغلب عليها اللون الوردي أكثر من غيره من الألوان ويعلم من عرفوا البترا بأن هذه الألوان تزداد ألقاً في فصل الشتاء والربيع، وتعتبر المنطقة الصخرية وحدها لوحة فنية جميلة تجذب إليها الإنسان حتى لو لم يوجد بها آثاراً من صنع البشرية فهي ذات طبيعة جذابه وساحرة بذاتها.
خامساً : كونها تمثل موقعاً أثرياً أصيلاً تمت المحافظة عليه وعلى معالمه الأثرية والفنية بشكل يتناسب والمواثيق والمعايير التي وضعتها المؤسسات الثقافية العالمية المختصة لصون الممتلكات الثقافية العالمية كاليونسكو، ولكن الإنسان العربي عرف قيمة المنطقة الإستراتيجية والطبيعية وأهمية مواردها، فسخر ذلك كله ليجعل منها عاصمة لأول دولة عربية معروفة حتى الآن وذلك منذ نهاية القرن الرابع قبل الميلاد وأصبح لهذه الدولة العربية ملوكاً وقادة بدءاً من القرن الثاني قبل الميلاد إذ تؤكد المصادر القديمة أن أول ملوكهم كان الحارث الأول وقد توفي عام 164 قبل الميلاد وتعاقب بعده عدد من الملوك كان أشهرهم الحارث الرابع الذي حكم منذ عام 9 قبل الميلاد وحتى سنة 40 ميلادي أي ما يقارب نصف قرن كامل وإليه يعود الفضل في ازدهار الدولة النبطية وازدهار عاصمتها البتراء حيث تم حفر وبناء أضخم الأبنية النبطية في البترا كالدير والخزنة وقصر البنت كما يؤكد الأثريون والمؤخون أن الحارث الرابع المتوفي عام 40 ميلادي كان من أشهر ملوك الأنباط وأكثرهم عمراناً واهتماما بتطوير العاصمة آنذاك وقد استمرت الدولة النبطية بعده بنحو سبعين عاماً ليتم ضمها إلى الدولة الرومانية عام 106 ميلادي وسميت بقايا المملكة النبطية بالعربية الصخرية نسبة إلى البترا التي بقيت بعد ذلك مدينة مزدهرة حتى القرن الرابع الميلادي ثم طواها النسيان نتيجة للزلازل التي دمرت معظم مبانيها وهجرت سكانها. وبقيت كذلك إلى أن جاء العهد الهاشمي الذي اعتنى منذ تأسيس الإمارة بالإنسان والمكان واهتم بالتاريخ والآثار نظراً لآن الآثار تعتبر شاهداً حياً وملموساً لدور هذه الأمة في تطور الحضارة الإنسانية فكان تأسيس دائرة الأثار العامة الأردنية عام 1923 دليلاً ساطعا على توقد ذهن الملك المؤسس رحمه الله وبعد نظره بضرورة المحافظة على الأثار وصيانتها، ولولا ذلك لضاعت الكثير من المعالم الأثرية المهمة بفعل جهل الإنسان وطمعه خصوصاً وأننا في المملكة جزءاً لا يتجزأ من العالم الثالث الذي يتطور بشكل مريع من خلال العديد من خطط التنمية ومشاريع البنية التحتية التي غطت معظم المناطق الحضرية.
وكان نصيب البتراء من الرعاية والمحافظة والاهتمام كبيراً من قبل الحكومات المتعاقبة ومن قبل المسؤولين بدائرة الأثار العامة الأردنية الذين بذلوا جهوداً واضحة في المحافظة على آثار البتراء الظاهرة وكشفوا عن عدد لا يتسهان به من المعالم الأثرية الضخمة إما مباشرة أو بالتعاون مع مؤسسات علمية محلية ودولية مختلفة وقاموا بترميم تلك المواقع والمباني وأبرزوا جمالها ودرسوا استخداماتها وجمالها الفني ومن ذلك معبد الأسود المجنحة والمعبد الكبير وفكوا رموز كتاباتها وأضافوا لنا معلومات تاريخية مهمة وهم يعملون بكل جد وانتماء مؤكدين صدق انتمائهم لوطنهم وتاريخهم وعملاً بتوجيهات ودعم مستمر من قيادتنا الهاشمية التي نعتز بها وإذ حرص جلالة المغفور له الملك الحسين على تسجيل البترا في قائمة التراث العالمي عام 1985 ميلادي ودعم إنشاء جمعية المحافظة على البتراء ، وبعد فإن جلالة قائدنا المفدى الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم سار على النهج الهاشمي في المحافظة على الأثار الأردنية وأبراز دورها وأهميتها وجعلها موردا وطنيا دائما لتشغيل الأيدي العاملة ومصدرا من مصادر الدخل القومي ، إذ عمل حفظه الله على الترويج للآثار الأردنية اقليميا ودوليا لتكون منتجا سياحيا رئيسيا ومقصدا للزائرين من كل أقطاب الدنيا مع المحافظة عليها وصيانتها وإدامتها، فحرص على إقامة فعاليات ملكية سامية في البتراء فخر الأثار الأردنية لإعتزاز جلالته بها ولتسويقها والترويج لها في نفس الوقت، فمن هنا جاءت مبادرات جلالته باستضافة حملة جائزة نوبل من العلماء والأدباء والسياسيين في البتراء وأمام الخزنة كعنوان لهذا الاهتمام الملكي الذي شجع كافة المسؤولين بالحكومات الأردينة وفي مقدمتم العاملين بوزارة السياحة والأثار على الإهتمام بالأثار الأردينة وخصوصا المدينة الوردية بترا.
بترا أم العجائب وللحديث هنا عن العجائب نعود بالتاريخ إلى عام 250 قبل الميلاد حين قرر فيلون البيزنطي بأن عجائب الدنيا السبع في ذلك الزمان هي تمثال رودس، الأهرامات المصرية، حدائق بابل المعلقة، تمثال زيوس، منارة الإسكندية، ضريح هاليكارناسوس، معبد أرتيمس في تركيا. في ذلك الوقت كان العالم المكتشف محدوداً وقد تم اختيار تلك المواقع حول منطقة الشرق الأوسط والبحر الأيجي ومصر والقليل من المناطق الأخرى. وبعامل الزمن ومع مرور الوقت اختفت تلك العجائب وبقى منها الأهرامات في مصر العربية .
وفي عصرنا الحاضر جاءت فكرة برنارد ويبر السويسري وبدعم من فرديكو ماريو المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو لاختيار عجائب الدنيا السبع الجديدة، لما لرقم سبعة من مدلولات إنسانية ترسخت في عقل الإنسان وثفافة المجتمعات. وتم إدراج العديد من المواقع الأثرية والإنسانية في العالم أجمع وتم تشكيل اللجان من المختصين والمهندسين إلى أن تم وضع اللائحة النهائية بـ 21 موقعاً في القارات الست وأطلقت عميلة التصويت في العالم في تجربة هي الأولى من نوعها في العالم حيث صوت ملايين الناس في العالم أجمع لاختيار عجائب الدنيا السبع .
وإذا كان الحكم على تلك الأماكن والمدن أو المنارات بأنها من عجائب الدنيا آنذاك يعود لشخص مثقف وعالم واحد وافقه عليه العديد من المؤرخين والمثقفين في عهده وما تلاه فأن مبادرة عجائب الدنيا السبع الجديدة جاءت مختلفة بعض الشئ في اسلوبها وطريقة إدارتها عن مبادرة فيلون إذ طلب من الدول أن تقوم بترشيح الأماكن أو المدن أو المواقع التي تراها جديرة بهذه الشهادة شريطة أن تستحق الدخول بالمشاركة من خلال معاييرها الواضحة و ان يتم أختيار 21 موقعاً فقط من بين كافة المواقع التي تنطبق عليها الشروط وبعد ذلك يتم التصويت على اختيار افضل سبعة مواقع وهو تصويت مفتوح لكل دول العالم دون استثناء سواء أكانت مشاركة من خلال تسمية مواقع لديها أم لا ، وكان التصويت من خلال الهاتف أو الرسائل القصيرة أو من خلال الإنترنت ، أي أن الحكم سيكون أصلا لملايين المشاركين وليس لعدد محدود أو فئة معينة أو مستهدفة الأمر الذي يعني عظيم المسؤولية لكافة المعنيين بالمشاركة في مسابقة دولية كهذه .
إلا أن الفضل يعود لتوفيق الله و لتوجيهات صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حيث اوعز جلالته إلى الحكومة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية وكافة مؤسسات المجتمع المدني من جامعات ومدارس وبنوك وشركات خاصة منها وعامة بضرورة المشاركة في هذا الوجب الوطني للتعريف بأهمية تراثنا واحقيته بالفوز بما يستحقه وأن نكون على المستوى العالمي وقد كان لجهود جلالته رعاه الله على المستوى الدولي أكبر الأثر في زيادة عدد الذين صوتوا للبترا من الدول الصديقة وذلك لما تتمتع به المملكة بقيادته الحكيمة من سمعة طيبة ومصداقية عالية على المستوى العالمي الأمر الذي ساهم مساهمة فعاله في زيادة أعداد من صوتوا لصالح البترا من خارج المملكة سواء من الدول العربية أو الإسلامية أو الدول الصديقة .
كما قامت جلالة الملكة رانيا العبد الله المعظمة كعادة جلالتها بدور فاعل ومؤثر وبدعمها المباشر والمتواصل من أجل فوز البترا بهذه المسابقة فقد تشرفنا بحضور جلالتها يوم الثلاثاء 16 كانون الثاني 2007 إلى البترا لإستلام شهادة اخيتار البترا كواحدة من المواقع الـ 21 التي تم تحديدها للمشاركة في مسابقة عجائب الدنيا السبع الجديدة وتمت تغطية استلام جلالتها لتلك الشهادة بحضور العديد من وسائل الاعلام المرئ والمسموع ومراسلي الصحف والمجلات العالمية الأمر الذي ساعدت كثيرا للتعريف بالبترا وأهميتها إقليميا ودوليا وكان له الأثر الكبير في حشد التصويت للبترا خاصة وأن جلالتها تسلمت شهادة الإخيتار تلك من أمام الخزنة هذا المعلم والصرح الحضاري الذي يعد لوحة فنية وأعجوبة عالمية لوحده .
وقد أحاط بجلالتها يومذاك جمع غفير من الصحفين والمهتمين ومن أبناء المنطقة في احتفال بهيج بوجود جلالتها حفظها الله وذلك وسط سوق أعد خصيصا لتلك المناسبة يحاكي حياة الأنباط أمام الخزنة قبل أكثر من الفي عام وإذ انتشرت البضائع المختلفة فيما يشبه بسوق تجاري عرضت فيه أنواع العطور والبخور والتوابل وكثير من المواد التجارية التي كان يتناقلها التجار في الفترة النبطية، وفي وسط السوق وحوله جمال تظهر عليها أحمال البضائع يسوقها ويشرف عليها وعلى السوق رجال وفتيان ونساء بلباس الأنباط وأبناء زمانهم وقد قام بهذه التظاهرة النبطية رجال ونساء من فرقة إحياء التراث الأردنية فقدموا عملا مميزا كعادة الأردنيين ، يومها قالت جلالة الملكة رانيا العبد الله بعفويتها وذكائها المعهودين " أننا في الأردن فخورين بوجود هذا المعلم التاريخي والتراثي وبدورنا في المحافطة عليه وإبرازه ومشاركة روعته جميع دول العالم، وأضافت جلالتها أن مدينة البتراء الوردية الساحرة التي بناها الأنباط والتي لا مثيل لها في العالم تقف اليوم شاهدا على الروح الإنسانية التي حفرت هذا الفن الإنساني الرائع على الحجر والصخر لكي يبقى إلى الأبد .
يومها بدأنا جميعاً يداً واحدة كعادة أبناء مملكتنا الحبيبة تغمرنا الفرحة ويحدونا الأمل ويشجعنا قائد الوطن وأسرتنا الهاشمية الحبيبة بالتصويت للبتراء لكي تصبح من عجائب الدنيا السبع الجديدة فأزرنا الأشقاء والأصدقاء وكانت النتيجة كما أرادها قائدنا المفدى جلالة الملك عبد الله الثاني أبن الحسين المعظم بأن أصبحت البترا واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة. فزادنا ذلك إيمانا بالقيادة الهاشمية المحنكة الشجاعة التي آمنت دوما بقدرات وطننا وأبنائه وكان الفوز الذي أردناه جميعا الأردنيون ومحبو الأردن، مع كل ما لهذا الفوز من حسنات أبسطها تعزيز مكانة وطننا على خارطة العالم السياحية وتسويق منتجنا السياحي الأثري وزيادة التعريف بوطننا ومعالمة ، ففاز الوطن بفوز البترا وفازت البتراء بحب الوطن وقيادته وأهله وأصدقائه عن كافة أرجاء المعمورة فأصبحت بذلك واحة من واحات الإقتصاد الوطني ومجالا رحبا يتسع لنا ولأحبائنا من كل حدب وصوب لتكون بذلك رافدا مهما لإقتصادنا ونقطة جذب ومكان يلتقي فيه عشاق الحضارات والإنسانية ومحبي الحوار الإنساني البناء ممن يهدفون دوما لخدمة الآخر وفهمه والإلتقاء به .
ومما لا شك فيه بأن هذا الفوز يتطلب منا جميعا مسؤولين ومثقفين ومواطنين العمل على الاستفادة منه والإرتقاء بمستوى خدمة وطننا الحبيب بشتى الطرق والوسائل التي تكفل للموقع ديمومته والمحافظة عليه وللزائر تجربة جميلة ومميزة كي يكون رسول محبة وخيرمن ينقل تجربته إلى وطنه ومواطنيه بعد عودته، كما يتطلب ذلك الفوز من الجميع إجتراح الأفكار وإغتنام الفرص والمناسبات للتعريف بالبتراء وأن لا نكتفي بفوزها بهذه التسمية الجميلة ونتوقف عند ذلك، ولنا في نهج الهاشمين حفظهم الله مثالا نحتدي به دوماً فهذه جلالة الملكة رانيا العبد الله المعظمة وسمو الأميرة هيا بنت الحسين حفظهما الله يرعيان حفلا خيرياً كبيراً في البتراء قبل أيام معدودة وذلك إحياء لذكرى رحيل الفنان العالمي بافاروتي فنان الأوبرا الشهير حيث دعي لذلك الحفل عددا كبيرا من مشاهير العالم ليشهدوا هذا الحدث الذي أقيم على ثرى البتراء المدينة الوردية.
أسامة الدباس
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهرة النرجس";1484770][center][size="4
المفضلات