احباب الاردن التعليمي

صفحة 5 من 7 الأولىالأولى ... 34567 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 69

الموضوع: مقامات عائض القرني

  1. #41
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَـــة الـفقـهـيَّـــة



     فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ 
    يأبى السؤال فلا يراجع هيبة
    أدب الوقار وعز سلطان التقى
    والسائلون نواكس الأذقانِ
    فهو المطاع وليس ذا سلطانِ

    من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، والفقهاء أفضل من العابدين . بل فقيه واحد ، أشد على الشيطان من ألف عابد ، والتفاضل ليس بشجاعة الشجعان ، فليس الأسد أفضل من الإنسان ، والإنسان لا يراد منه المصارعة ، بل المحاجّة بالدليل والمقارعة ، وليس المدح بقوة البنيان ، وهل عظمت بقوة أجسامها الثيران ، ولكن العبد يراد منه الفهم ، ويفضل بالعلم ، فإذا فقه الحجة ، وعرف المحجة ، نال السعادة الأبدية ، والفضيلة السرمدية ، وقد عيّر الله أعداءه بعدم الفقه في آياته ، ووصفهم بسوء الفهم لبيّناته . وقد وصف المنافقون بضخامة الأجسام ، والتشدق في الكلام ، لكنهم ذموا بالفهم السقيم ، ووصموا بالرأي العقيم ، فقد حرمهم الله نور البصيرة ، لخبث السريرة ، ولسوء السيرة ، فليس التمايز بكثرة المال ، ولا بصفة الجمال ، ولا بكمال القوه ، ولا بتمام القوه ، إنما التمايز بتفاضل العقول ، في سوق الرد والقبول . فهنيئاً لمن ترك العنق في سيره ونصّ ، واستنبط من النص ، فإن تقليب البصيرة في صفحات الأدلة ، من أعظم حسنات خدّام الملة ، وإن تحديق القلب في مناجم الآثار ، من أفضل أعمال الأبرار ، وهل فاق وبز ، إلا من بالوحي اعتز ، فليس العلم بكثرة الرواية ، ولكنه بالفقه والدراية، وليس الفقه كلاماً يحفظ ، ولا جملاً تلفظ ، بل فهم عن الله وعن رسوله ، ومعرفة القول بدليله ، وليس الفقه حكاية آراء الرجال ، وجمع القيل والقال ، بل الفقه معرفة مقاصد الشريعة ، واستنباط المعاني البديعة . وانظر لابن عباس ، كيف بز الناس ، لما دعا له بالفقه في الدين ، سيد المرسلين ، ولما تكلم الزنادقة ، والفرقة المارقة ، في أصحاب الحديث ، واستهزؤوا بسعيهم الحثيث ، وقالوا : إنهم ينقلون أحاديث ليس لها معاني ، ولا تقوم على مباني ، مثل يا أبا عمير ، ما فعل النغير ، تصدى لهم محمد بن إدريس ، فاستنبط كل معنى نفيس ، فأفحمهم ، وفي كل بلاء أقحمهم ، وقيل لابن عباس ، في مجلس إيناس ، بم حصلت على هذا العلم ، ووصلت إلى هذا الفهم ؟ قال : بلسان سؤول ، وقلب عقول ، وامتن الله على سليمان ، وفضله على أبيه في معرفة البرهان ، لما حضر لديه الخصمان ، قال بعض العلماء : الفقه ما دلك على الرشاد ، وأبعدك عن الفساد ، ومن سجايا الفقيه ، صبره على السفيه ، ومجانبته كل أمر كريه ، فمن عقل عن الله أمره ، وعرف قدره ، فهو العالم العارف ، والمتقي الخائف .
    كان أبو حنيفة يبيع البز ، ثم نال بالفقه العز ، كلما أعضلت المشكلات ، أخرج من دماغه القبسات النيّرات ، فحلها برأي جزيل ، وفهم جليل .
    الفقه أغلى بضاعة في سوق العلوم ، وأشرف مواهب القوم ، فإنك تجد الفقيه محل الاعتبار ، ترمقه الأبصار ، ويعظمه ذوو الأخطار ، لأن حاجة الناس إلى الفقه شديدة ، ومجالس الفقهاء لكل الطبقات مفيدة ، وقد تجد الرجل في اللغة من الأعيان ، يشار إليه بالبنان ، وترى النحوي أصبح مرجعاً في علمه ، جهبذاً في فهمه ، وتبصر الشاعر بشعره الرائع يخلب لبّ السامع ، وتشاهد الخطيب ، يستولي على القلوب ، ويأتي بالقول المحبوب ، غير أن الفقيه الربّاني ، يجمع محاسن المعاني ، ويبلغ بهمته الأماني ، وقد بز الكل ، وارتقى المحل الأجل ، لعظيم حاجة الناس إليه ، وتزاحمهم عليه ، وقد عرفت بالتجربة ، أن الفقه أجلّ موهبة ، إذا قرن بالدليل ، وبني على التأصيل ، فإني رأيت الفقيه إماما ، وفي كل جمع مقداما ، وحضرت اجتماعات ، وندوات ، ومحاضرات وأمسيات ، فإذا الفقه أعظم مطلوب ، وأجل موهوب ، فالفقهاء يُسألون في أعضل المسائل ، وتفد لهم من الأقطار الرسائل ، والكل ينصت للفقيه بما يقرره ويمليه ، فالجميع يصحح على الفقيه عبادته ، والسلطان يقوي بالفقهاء سيادته ، ولو لحن في الخطاب ، وأبطأ في الجواب ، ولو قصر في التأريخ لما قابلوه بالتوبيخ ، لكن من قصر في الأحكام ، قوبل بالملام من كافّة الأنام ، فالعلم ما دل على الرب ، وصلح به القلب ، وهجر به الذنب ، وما سواه فليس بذي بال ، ولو تشدق به الرجال ، وقد عرفنا من دَرَس الفقه سنوات ، فصار به من السادات ، وعرفنا من أفنى عمره في بعض الفنون ، وهو في خانة النسيان مدفون ، لم يستفد منه أحد ، ولم يعرفه أهل البلد ، والسبب في اهتمام البشر ، بفقه الأثر ، لأن علم الكتاب والسنّة ، أقرب طريق إلى الجنّة ، فبهذا عظم قدر فقهاء الإسلام ، على مرّ الأيام ، فهم طائفة الموقعين ، عن رب العالمين ، وهم سرج الظلماء ، وغيث السماء .
    زين الله بهم الأمة بين الأمم ، كما زين السماء بالنجوم في الظلم ، فهم كتيبة الديانة، وحملة الأمانة ، وحراس المنهاج ، وفرسان الحجاج ، وهم حفاظ النصوص الشرعية ، ومحاربو الطرق البدعية ، كلما تسلق إلى سماء الشرع كاذب ، أحرقوه بشهاب ثاقب ، وصبوا عليه العذاب الواصب ، فتوى في صحيفة ، أقوى من قذيفة ، ومسألة بدليل ، أفضل من مال جزيل ، بفتوى الفقهاء تحقن الدماء ، ويفصل بين الناس في القضاء ، وتقام الحدود ، وتنفذ الشروط والقيود ، ينفذ أحكامهم الأمراء ، ويحترم كلامهم الوزراء ، ويقوم بفتواهم البيع والشراء ، وتجلّهم المحاكم ، وتتزين بهم المواسم ، يوقر الناس ما سطروه ، ويتبعون ما حرّروه ، ويتناقل حديثهم الركبان ، وتطير مسائلهم في البلدان ، يتشوق العالم لأخبارهم ، ويفد الطلاب إلى ديارهم ، ولايتهم لا تقبل العزل ، وقولهم فصل ليس بالهزل ، والناس ينتظرون أقوالهم ، ويقلدون أفعالهم ، تشيعهم الأبصار ، ويدعو لهم الأخيار ، يتباشر الناس بقدومهم ، وينهلون من علومهم ، فهم في الوجود كالتيجان ، وكلامهم كالمرجان ، وهم أئمة الإنس والجان .

  2. #42
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَـــة الـجغـرافـيــة



     وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ 
    كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
    إذا لم تفقه أسرار الجغرافيا

    واعلم أن الأشياخ ، أخبرونا أن الإنسان يتأثر بالتضاريس والمناخ . فأهل الجبال ، أهل صفاء وجمال ، وأهل عاطفة واستعجال ، وأهل الصحراء ، أهل مكر ودهاء ، وصبر وجفاء ، وكلما قرب الإنسان من خط الاستواء ، كثرت حِدّته والبغضاء ، ومن يسكن القطب البارد ، فإنه ثقيل جامد ، ومن يعيش في أرض خضراء ، تجد له رقة ورواء، ولطفاً ووفاء ، ومن كانت داره في أرض مقفرة ، رأيت منه طبائع منكره ، من الغلظة والشدة ، والضيق والحدة .
    فأهل جزيرة العرب ، يغلب عليهم الذكاء والأدب ، لصفاء سمائهم ، وطيب هوائهم ، وعذوبة مائهم ، ولذلك اختار الله منهم الأنبياء ، لأن طبيعة بلادهم في استواء ، واعتدال ونقاء ، فليس لهم خفة البلاد الحارّة ، لأن أمزجتهم غير قارة ، فتجدهم أهل عجلة وطيش ، والطرب عندهم ألذ من العيش . وليس لأهل الجزيرة كثافة طبع الأوربيين، لأنك تراهم على المادة مربين ، فتعلقهم بالعالم المشهود ، مع إنكار العالم المفقود ، وشكهم في غير الموجود .
    وللصفات الحيوانية ، أثر على الفصيلة الإنسانية ، فتجد أهل الإبل أهل كبر وخيلاء، وأهل الغنم أهل سكينة ووقار وحياء ، كما أخبر بذلك خاتم الأنبياء ، ومعاشرة السباع ، تؤثر في الطباع ، ومن خالط الوحوش توحش ، فتجده إذا أكل يهرش وينهش ، لأن الصاحب ساحب ، والطبع جاذب . يقول المصطفى : من بدا جفا ، وأهل المدن والحواضر أهل رقه ، وفي النظر أهل دقه ، والله أرسل من القرى الحاضرة ، رسله بالشرائع الطاهرة ، لأن أهل القرى الآهلة بالسكنى أصحاب تجربه ، وأذهان مدربه ، وآداب قويمة، وفطر في الغالب مستقيمة .
    وانظر إلى أهل فارس الأعاجم ، لما سكنوا الريف واشتغلوا بالزراعة فكل عليها قائم ، صرفت أذهانهم عن التفكير ، وضعفت في جانب التدبير ، فلم يكن عندهم استعداد لفهم المنقول ، لعدم خصوبة العقول .
    ولما جمح الروم إلى الخيال ، وأوغلوا في التصور حتى غابوا به عن الحال ، كثر فيهم الزيغ الفكري ، والضلال النظري ، لسابق ما عندهم من دين محرّف ، وأثاره من علم متلقف . فاختير العرب للرسالة المحمديّة ، لتمام الفطرة النقية ، ووفرة الأذهان الذكية .
    واعلم أن من البلدان من تنتج الكاكاو والأناناس، وبعضها تصدر الذهب والألماس، والأخرى تصدر الرجال من أهل الكرم والباس ، وبعض الدول تنتج للعالم الحديد ، وبعضها تعلم العالم التوحيد ، ولأن العالم بحاجة إلى صلاح وبِر ، أشد من حاجته إلى شعير وبُر . والجغرافي المؤمن ينظر إلى الجبال كأنها منائر تعلن الأذان ، أو أصابع مؤمن توحّد الرحمن ، ويذكّره النسيم ، بنفحة النعيم المقيم ، وقيظ الصيف الحار ، بحرارة النار ، ويذكّره برد الشتاء وله هرير ، ببرد النار والزمهرير ، وتذكّره الغابات ، حدائق الجنات ، ويتذكّر كم مرّ على الجبال من أجيال ، ثم دفنوا تحت الرمال . ويعجب من قدرة القدير ، وحكمة اللطيف الخبير ، حيث جعل كل شيء بحكمه ، وكل فعل برحمه ، فلما كانت الصحراء ، قليلة الماء ، معروضة للشمس في العراء ، أنبت فيها شجراً يناسبها ، وطبيعته تقاربها ، وانظر إلى الأشجار ، على ضفاف الأنهار ، دائمة الرواء ، كل فصل هي خضراء، تقاوم كثرة الماء ، وجعل حيوان البر بلا وبر ، قليل الشعر ، فهو على حر الرمضاء مصطبر ، وحيوان القطب عليه من الشعر غطاء ، ومن الوبر رداء ، ليعتبر بالحكمة من شاء .
    يا ماسح الأرض بالأميال تذرعها


    يوماً بعرضٍ ويوماً تمسح الطولا

    انظر لمملكة الإبداع ضاحكة

    في عالم صار بالأحياء مأهـولا

  3. #43
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَـــة الـبوليسـيـــة




     فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ 
    ومن عرف الأيام معرفتي بها
    فليس بمرحوم إذا ظفروا به
    وبالناس روى رمحه غير ظالم
    ولا في القضا الجاري عليهم بآثمِ

    الأفكار الإبليسيه ، ما تردها عن العبد الهراوى البوليسيه ، بل تردها الأذكار، كما وردت عن المختار ، ولكن البوليس ، عمله نفيس ، إذا قام بالواجب ، وحمى الناس من كل سالب وناهب . وفي الآثار : عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الجبار ، وعين باتت تحرس الديار ، ولو لم يكن في البلاد بوليس وشرطه ، لوقع الناس في ورطه ، وسوف يأكل القوي الضعيف ، ويعتدي السخيف على الشريف ، وتوزع الناس إلى أحزاب ، وكسر كل باب ، ولقفز اللص من الدريشة ، ولملّ الناس العيشة ، وسمعت دوي الرصاص ، وصاح الناس هل من مناص ، وصار أمن الناس أضحوكة ، لأنه مهدد بعصابات محبوكة ، وأصبح الليل ، يزحف كالسيل ، بكل ويل ، وتحولت الأسواق ، إلى عذاب لا يطاق ، فيسلط الله البوليس ، على جنود إبليس ، لأن من لا يردعه القرآن ، أدبه أعوان السلطان .
    أرهب بسيف الله كل مكذب
    فالسيف داء للخلي من التقى
    متهتك في الزور والبهتان
    ومكذب الآثار والقرآن

    فالذي هجر المسجد ، وذهب يعربد ، وهدّد أمن الناس وتوعد ، ليس له إلا سوط حار ، أو سيف بتّار ، ليكون عبرة لغيره من الأشرار ، ولكن على من حك العين أن لا يدميها ، لئلاّ يكون حاميها حراميها ، بل يتقي الله البوليس في العباد ، ويكون همه إصلاح البلاد ، ليعم الأمن والأمانة ، والهدوء والصيانة .
    ورضي الله عن عمر ولله دَرّه ، لأنه كان في يمينه دِرّة ، أغلى من الدُّرة ، يؤدب بها من عصاه ، ويضرب بها من رفض الحق وأباه . وعمر أول من أنشأ العسة في البلد ، لردع من فسد ، وقد أحضروا له رجلاً فاسد الفكر ، ظاهر النكر ، لبّس على الناس في الدِّين ، ليكونوا مرتدين ، فزجره عمر وفضحه ، وضربه بالدرة وبطحه ، وأذهب من رأسه بهراوة السلطان ، وساوس الشيطان ، فلما أفاق الرجل من الغيبوبة ، ودماؤه مسكوبة ، صاح في رأسه مؤذن التوحيد ، أصبحنا وأصبح الملك لله الحميد ، فهذا العلاج الجذّاب ، والدواء المذاب ، يصرف من صيدلية عمر بن الخطاب :
    يا ناسف الظلم ثارت هاهنا وهنا
    فظائع أين منها زندك الواري

    واعلم أن من الناس طائفه ، ليست من ربها خائفه ، لا تجدي فيهم النصائح ، ولا يخافون الفضائح ، وإنما ينفع فيهم عصا خيزران ، كأنها ثعبان ، تلف على الأكتاف والأمتان ، حتى تدمع من حرها العينان ، ويصيح المضروب : الآن حصحص الحق وبان .
    السوط فيه مواعظ ونصائح

    ما ضمها لوح ولا ديوانُ

    لغة سيفهمها غبي مارد

    ما في حشايا قلبه إيمانُ


    فإن لم يردع السوط من سلبْ ، ولم ترد العصا من نهبْ ، فالسيف أصدق أنباءً من الكتبْ .

  4. #44
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــــة الـهـمّــــة


     وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ 
    أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب
    أنا إن عشت لست أعدم خبزاً
    همتى همة الملوك ونفسي
    وفيضي آبار تكرور تِبرا
    وإذا مت لست أعدم قبرا
    نفس حرٍ ترى المذلة كفرا

    السلام على أهل الهمم ، فهم صفوة الأمم ، وأهل المجد والكرم ، طارت بهم أرواحهم إلى مراقي الصعود ، ومطالع السعود ، ومراتب الخلود ، ومن أراد المعالي هان عليه كل همّ ، لأنه لولا المشقة ساد الناس كلهم ، ونصوص الوحي تناديك ، سارع ولا تلبث بناديك ، وسابق ولا تمكث بواديك ، أُمية بن خلف ، لما جلس مع الخلف ، أدركه التلف ، ولما سمع بلال بن رباح ، حي على الفلاح ، أصبح من أهل الصلاح .
    اطلب الأعلى دائماً وما عليك ، فإن موسى لما اختصه الله بالكلام ، قال :  رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ  ، المجد ما يأتي هبة ، لكنه يحصل بالمناهبة ، لمَّا تعلمت الصيد الكلاب ، أبيح صيدها بنص الكتاب ، ولما حمل الهدهد الرسالة ، ذكر في سورة النمل بالبسالة ، نجحت النملة بالمثابرة ، وطول المصابرة ، تريد المجد ولا تَجِدّ ؟ تخطب المعالي ، وتنام الليالي ، ترجو الجنة ، وتفرط في السنّة .
    قام رسولنا  حتى تفطّرت قدماه ، وربط الحجر على بطنه من الجوع وهو العبد الأوّاه ، وأدميت عقباه بالحجارة ، وخاض بنفسه كل غارة .
    يُدعى أبو بكر من الأبواب الثمانية ، لأن قلبه معلق بربه كل ثانية ، صرف للدين أقواله ، وأصلح بالهدى أفعاله ، وأقام بالحق أحواله ، وأنفق في سبيل الله أمواله ، وهاجر وترك عياله .
    لبس عمر المرقّع ، وتأوّه من ذكر الموت وتوجّع ، وأخذ الحيطة لدينه وتوقّع ، عدل وصدق وتهجد ، وسأل الله أن يستشهد ، فرزقه الله الشهادة في المسجد .
    عليك الجِد إن الأمر جَد
    وبادر فالليالي مسرعات
    وليست كما ظننت ولا وهمتا
    وأنت بمقلة الحدثان نمتا

    اخرج من سرداب الأماني ، يا أسير الأغاني ، انفض غبار الكسل ، واهجر من عذل ، فكل من سار على الدرب وصل ، نسيت الآيات ، وأخّرت الصلوات ، وأذهبت عمرك السهرات ، وتريد الجنات ؟!
    ويلك والله ما شبع النمل حتى جدّ في الطلب ، وما ساد الأسد حتى افترس ووثب ، وما أصاب السهم حتى خرج من القوس ، وما قطع السيف حتى صار أحدّ من الموس .
    الحمامة تبني عشها ، والحمّرة تنقل قشها ، والعنكبوت ، يهندس البيوت ، والضب يحفر مغاره ، والجرادة تبني عمارة ، وأنت لك مدة ، ورأسك على المخدة ، في الحديث : (( احرص على ما ينفعك )) ، لأن ما ينفعك يرفعك ، (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف )) ، بالقوة يبنى القصر المنيف ، وينادل المجد الشريف .
    همة تنطح الثريا وعزم
    نبوي يزعزع الأجبالا

    صاحب الهمة ما يهمه الحرّ ، ولا يخيفه القرّ ، ولا يزعجه الضرّ ، ولا يقلقه المرّ ، لأنه تدرع بالصبر .
    صاحب الهمة ، يسبق الأمة ، إلى القمة ،  وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ  ، لأنهم على الصالحات مدربون ، وللبر مجربون .
    الثعلب يرضى بالجيفة ، فكتب في آخر الصحيفة ، لو أسرع الحمار مثل الحصان ، لكان من الهوان يُصان ، الشمس تجري ، والقمر يسري ، وأنت نائم لا تدري ، أنت أكول شروب ، لعوب طروب ، صاحب ذنوب .
    لا يدرك المجد إلا سيد فطن
    لولا المشقة ساد الناس كلهم
    لما يشق على السادات فعّال
    الجود يفقر والإقدام قتال

    لما تجرع الأحنف غصص الغضب ، صار حليم العرب ، ولما بذل روحه للموت عنترة ، شبهوه بقسورة ، ولمّا بذل حاتم ، طعامه لكل قادم ، وأنفق أمواله في المواسم ، صار مضرب المثل في الجود ، وقصة الكرم في السهول والنجود .
    لما طار القمري قعد فوق الأغصان ، ولما مشى الجعلان بقي مع الديدان ، سافر العود من الهند ، فسُمي بالند ، وأقام بأرضه الخشب ، فسماه الناس الحطب .
    اديسون مكتشف الكهرباء ، قضى عمره في اختراعه حتى أذهل به الحكماء ، فلا نامت أعين الأغبياء .
    مكتشف الذرة ، أجرى عليها التجربة عشرة آلاف مره .
    عمي بعض المحدِّثين من كثرة الرواية ، فما كلَّ ولا ملَّ حتى بلغ النهاية ، مشى أحمد ابن حنبل من بغداد إلى صنعاء ، وأنت تفتر في حفظ دعاء ، سافر أحدهم إلى مصر ، غدوّه شهر ، ورواحه شهر ، في طلب حديث واحد ، ليدرك به المجد الخالد ، لولا المحنة ، ما دعي أحمد إمام السنة ، وصل بالجَلْد إلى المجد ، ووضع ابن تيميه في الزنزانة ، فبز بالعلم زمانه . واعلم أن الماء الراكد ، فاسد ، لأنه لم يسافر ويجاهد ، ولما جرى الماء ، صار مطلب الأحياء ، بقيت على سطح البحر الجيفة ، لأنها خفيفة ، وسافر الدر إلى قاع البحر، فوضع من التكريم على النحر .
    فكن رجلاً رجله في الثرى
    وهامة همته في الثريا

    يا كثير الرقاد ، أما لنومك نفاد ، سوف تدفع الثمن ، يا من غلبه الوسن ، تظن الحياة جلسة وكبسة ، ولبسةٌ وخلسة ، بل الحياة شرعة ودمعة ، وركعة ومحاربة بدعة .
    الله أمرنا بالعمل لينظر عملنا ، وقال :  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا  ، فالحياة عقيدة وجهاد ، وصبر وجلاد ، ونضال وكفاح ، وبر وفلاح، لا مكان في الحياة للأكول الكسول ، ولا مقعد في حافلة الدنيا للمخذول .
    علو في الحياة وفي الممات
    بحق أنت إحدى المعجزات

    ابدأ في طلب الأجر من الفجر ، قراءة وذكر ، أو دعاء وشكر، لأنها لحظة انطلاق الطير من وكورها ، ولا تنس : (( بارك الله لأمتي في بكورها )) .
    العالم في حركة ، كأنه شركة ، وقلبك خربة ، كأنك خشبة ، الطير يغرّد ، والقمري ينشد ، والماء يتمتم ، والهواء يهمهم ،والأسود تصول ، والبهائم تجول ، وأنت جثة على الفراش ، لا في أمر عبادة ولا معاش ، نائم هائم ، طروب لعوب ، كسول أكول .
    استيقظ على نبرات الخطاب الشرعي ، ودعنا من وساوس الهاجس البدعي ، لأن الشريعة ، تدعو للهمة البديعة ، تقول لأتباعها : فما وهنوا لما أصابهم ، لأنهم حملوا كتابهم، وألقوا للعالم خطابهم ، فهداهم ربهم صوابهم .
    وأهل السوالف ، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، لأن لهم في الضلالة سوابق ، فهم يتصيدون كل مارق ، عن الحق آبق ، ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ، فهبوا وتركوا مضجعهم ، ولو أراد الله بهم خيراً لأغاثهم ، ولكن كره الله انبعاثهم .
    الفرس بهمته يعض لجامه ويلوك ، فركبه الملوك ، والحمار آثر المقام في الرباط ، فضرب بالسياط :
    سوف ترى إذا انجلى الغبار
    أفرس تحتك أو حمار

    يقدم لك ابن جرير ، كتاب التفسير ، محققاً منقحا ، مدبّجا مصحّحا ، ثم لا تصطفيه ، ولا تقرأ فيه .
    ألَّف ابن حجر فتح الباري في ثلاثين سنة ، فلله دره ما أجمل كتابه وأحسنه ، ثم تهمله في الرف ، كأنه دف ، مع الأسف .
     وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ  .
    ولو كان في قلب المحب صبابة
    لسار على الأقدام في الشوك والحفى

    هذا الكافر مثابر ، كل يوم مغامر ، سيَّر في الأرض السيارة ، وأطار في السماء الطيارة ، جعل لغذاءك ثلاجة ، ولماءك زجاجة ، ومالك عمل إلا أن تأكل وتشرب ، وتلهو وتلعب .
    ولا تقل الصبا فيه مجال
    تفر من الهجير وتتقيه
    وفكركم صبي قد دفنتا
    فهلاَّ من جهنم قد فررتا

    أنت تفتر والملائكة لا يفترون ، وتسأم العمل والمقربون لا يسأمون ، بم تدخل الجنة، هل طعنت في ذات الله بالأسنة ، هل أوذيت في نصر السنة ، انفض عنك غبار الخمول ، يا كسول ، فبلال العزيمة أذّن في أذنك فهل تسمع ، وداعي الخير دعاك فلماذا لا تسرع .  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ 
    ولابد للهمم الملتهبة أن تنال مطلوبها ، ولابد للعزائم المتوثبة أن تدرك مرغوبها ، سنة لا تتبدّل ، وقضية لا تتحوّل .
    جزى الله المسير إليك خيراً
    وإن ترك المطايا كالمـزادِ

    واعلم أن الهمة توقد القلب ، واستسهال الصعب ، وركوب الخطب ، فالعذاب بالهمة عذب . ومن عنده همة عارمة ، وعزيمة صارمة ، اقتحم بها أسوار المعالي ، وصار تاريخه قصة الليالي .
    فقل للمتخلفين اقعدوا مع الخالفين ، لأن المنازل العالية ، والأماني الغالية ، تحتاج إلى همم موّاره ، وفتكات جبارة ، لينال المجد بجدارة .
    وقل للكسول النائم ، والثقيل الهائم ، امسح النوم من عينيك ، واطرد الكرى من جفنيك ، فلن تنال من ماء العزة قطرة ، ولن ترى من نور العلا خطرة ، حتى تثب مع من وثب ، وتفعل ما يجب ، وتأتي بالسبب .
    أقسمت أن أوردها حرة
    إما فتى نال المنى فاشتفى
    إذا سألت الله في كل ما
    بهمة تخرج ماء الصفا
    وقاحة تحت غلام وقاحْ
    أو فارس زار الردى فاستراحْ
    أملته نلت المنى والنجاحْ
    وعزمةٍ ما شابها قول آحْ

    ألا فليهنأ أرباب الهمم ، بوصول القمم ، وليخسأ العاكفون على غفلاتهم في الحضيض ، فلن يشفع لهم عند ملكوت الفضل نومهم العريض ، وقل لهؤلاء الراقدين  إنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ  فهُـبّـوا إلى درجات الكمال نساءً ورجالا ، ودربوا على الفضيلة أطفالا ، وانفروا خفافاً وثقالا .

  5. #45
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــــة الـبخــلاء



     وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ 
    إني نزلت بكذابين ضيفهم
    جود الرجال من الأيدي وجودهموا
    عن القرى وعن الترحال مردود
    من اللسان فلا كانوا ولا الجود

    البخيل نذل ، والبخل خلق رذل ، وحسبك أن الرسول  استعاذ من البخل ، وليت البخيل إذا علا مات ، لأن له على بخله علامات ، فمنها أن يفقد الصواب ، إذا طُرق الباب ، ويُكثر السباب ، عند رؤية الأجناب ، وإذا رأى الضيف ضاق صدره ، والتبس عليه أمره ، فتعلوه قشعريرة ، ويقع في حيرة ، ومنها أن يكثر الأعذار ، ليخرج نفسه من هذه الأخطار ، وإذا قام بضيافة ، نوّه بها وهوّ لها كأنه تولى الخلافة .
    يذم الأجواد ، ويمدح الاقتصاد ، يتفجع إذا رأى طعامه يغرف من القدر ، تفجع الخنساء على أخيها صخر ، أوصى بخيل ولده ، وقد قطع بالإنفاق كبده ، فقال يا بني ما هذا الإسراف ، يا أيها المتلاف ، أما تخشى أما تخاف ، ما تؤثر فيك النصائح ، ولا تخاف الفضائح ، أين من كان يقتصد ، ويحفظ ماله ويجتهد ، كان أحدهم رحمه الله يضع ماله في صُره ، لِئلا يؤخذ على غِرّة ، ثم يُخرج الصرّة ، في كل سنة مرّة ، فيقرَأُ عليها المعوذات ، وأعوذ بكلمات الله التامات ، كان الرغيف يسد رمقه من الصباح إلى الليل ، لأنه يعلم أن الدهر أبو الويل ، فخلف من بعدهم خلف ، فيهم كل مسرف جلف ، يأكل في اليوم ثلاث وجبات ، ولا يتفكر في مصارع الأموات ، ليرتدع من هذه الزلات.
    أما أخبار البخلاء ، فقد جمعها بعض الأدباء .
    فمنها أن بخيلاً دخل بيته ونسي أن يغلق الباب ، فدخل على إثره فقير ممزق الثياب، فناوله البخيل قطعة خبزة ، ثم أخذ حبلاً وربطه وحزّة ، وقال والله لا أتركك تخيف مسلماً هذه الليلة ، أو تروع مؤمناً بكل حيلة .
    وقدّم بخيل الطعام لضيوفه ، ثم جلس مهموماً محسورا ، وقال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا ، وطرق فقير باب بخيل ، وقد أظلم الليل ، فلم يفتح البخيل بابه ، ولم يرفع حجابه ، فصاح الفقير بصوت كسير : أين من كانوا يفرحون إذا رأوا أضيافا ، فرد البخيل بقوله : ماتوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافا .
    وأعطى أحد الوزراء بخيلاً مائة ألف دينار ، حتى أصبح بها من الأغنياء الكبار ، فقال له جيرانه ، هنيئاً لك المبلغ الكبير ، فقال : والله ما هو بكثير ، وعندي زوجة وطفل صغير ، فإذا أراد أن يخرج منها دينارا ، قبَّله مرارا ، وقال : بأبي أنت وأمِّي ، ما أطيبك حيّا ، وما أطيبك ميتا .
    وقال فقير لبخيل أعطني درهماً فقط ، فقال هذا غلط ، وجور وشطط ، لأن الدرهم مع الدرهم ، مائة درهم ، ثم يزيد إلى ألف ، ثم إلى مائة ألف ، فتريد أن تهدم مالي ، وتجوع عيالي بسؤالي ، وافرض أنني أعطيت درهما ، فلن ألبث حتى أصير مثلك معدما ، فأنت تريد أن تغشنا فارحل عنا ، ومن غشّنا فليس مِنّا .
    ودخل رجل أكول على بخيل فقدم له غداءه ، وجلس حذاءه ، وقال له يوصيه ، اجعل ثلث بطنك للغذاء ، وثلثاً للماء ، وثلثاً للهواء ، قال الأكول : بل كلها للطعام ، يا سيد الكرام ، لأن الماء سوف ينش ، والهواء سوف يفش ، فقال البخيل : أنا منذر محذر ، ومن أنذر فقد أعذر .
    واعلم أن البخيل كثير الأعذار ، دائم الإنذار ، فإن جئته مبكراً قال : مالك تقدمت، وإن أبطأت قليلاً قال : هداك الله تأخرت ، إذا حل به ضيف نسي الترحيب ، وقال : هذا يوم عصيب ، وإن طرق بيته طارق ، رآه كأنه سارق ، وإذا دخل عليه الضيف قلل الكلام ، وأكثر على أهله السب والخصام ، ولا يسأل الضيف عن أخباره ، بل تراه كثير القيام والقعود بداره ، وتراه لا يترك في البيت صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فهو يعرف ما له علاقة بالنفقة قد ضبطها ووعاها ، إذا نقص دينه ذكر المعاذير ، وأن الإنسان لا يسلم من التقصير ، فإذا أراد أحد التعرض لشيء من ماله ، أنكر بقلبه ويده ولسانِه ، وأظهر الحمية والأخذ بالثأر ولو من إخوانه ، قد هيأ العذر لكل حاجه ، وإلاّ لَمْ يَجِدْ استعمل الغضب واللجاجة ، فإن أتاه طالب ، ووفد إليه راغب ، قال الحقوق كثيره ، والحاجات كبيرة ، ويعيد عليك متن خير الناس ، من لا يحتاج إلى الناس ، وأفضلهم من كف عنه الباس .
    ومن وصايا البخيل : عليكم يا إخوان بحفظ المال ، فإنه لا يعلم أحد بتغير الأحوال، والدنيا من حال إلى حال ، ولن ينفعك إلا مالك ، ولن يقف معك أعمامك وأخوالك ، واذكروا يا إخوان تقلب الزمان ، وقلة الأعوان ، فرحم الله من أمسك ديناره، وأغلق داره، ولم تخدعه الدنيا الغراره ، فعليكم بالاقتصاد ، فإنه مذهب الأجواد ، فقد أدركنا أقواماً من الصالحين ، كانوا يكيلون الطحين ، ويقتصدون حتى في شرب الماء، لِئلا تذهب أقوالهم هباء ، ومنهم من كان يفترش التراب ، وينام على الأخشاب ، ومنهم من كان يكتفي بوجبة ، في اليوم واحدة ، ليغيظ بجمع المال حاسده ، ثم يقول : وقد أدركت قوماً من الأولياء ، ينامون بلا عشاء ، ويكتفون بالفطور عن الغداء ،وكان أحدهم إذا حدثته نفسُه الأمارة بالسُّوء بشراء طعام ، لامها أشد الملام ، وخطمها عن شهواتها بخطام ، وزمّها عن رغباتها بزمام ، ولقد أدركت عبداً من الأبرار ، وولياً من الأخيار ، حدثته نفسه الأمارة ، بشراء خيارة ، فرجع على نفسه بالتوبيخ ، وأقسم لها لن يعطيها هواها ولو أرادت قطعة من البطيخ ، لأن القوم لما صحت منهم العقول ، تركوا الفضول ، وحفظوا أموالهم من كل مسرف جهول ، ولقد أدركنا مريم العابدة ، المقتصدة الزاهدة ، وكانت تبيع الفصفص ، ولها في ذلك علم وتخصص ، فإذا اجتمع لها ريال ، وضعتها وراء الأقفال ، وأقسمت بالله لا يزال حتى تزول الجبال ، وكانت رحمها الله ، إذا ظمأ الحمار ، ابطأت عليه بالماء ولو كان الماء في الدار ، لتعوّده التحمل والاصطبار ، وكانت تأخذ النخالة من الشعير ، فتجعلها كالخبز الفطير ، وكانت تمشي بين القرى ، تجمع قطع الفرى، وكلما وجدت عوداً أخذته ، وإذا مرت بحب جمعته ، فلا يأتي المساء ، إلا وقد أدركها الإعياء ، لكن يهون التعب ، ويذهب النصب ، إذا تذكرت صروف الأيام ، وطول الأعوام ، قال : وقد أدركت شيخاً كبيرا ، كان بالأيام بصيرا ، بقي عليه ثوبه عشرين عاما ، حتى أصبح الثوب ألواناً وأقساما ، فكلما انخرق الثوب خاطه برقعة، حتى صار مائة بقعة ، ثم جاء قوم من المبذرين ، لا يحبّون المنذرين ، يفني أحدهم ثوباً كل عام ، ولا يخاف العذاب والملام ، قال : ولقد أدركت حامد المقتصد ، وكان في حفظ المال يجتهد ، بقيت معه حذاؤه عشر سنوات ، وكان يمشي حافياً في الفلوات ، وربما حمل حذاءه بيده الكريمة ، خوفاً من العواقب الوخيمة ، فإذا نام جعلها تحت رأسه ، حرصاً عليها من غدر السارق وبأسه ، فانظر حرصهم رحمهم الله على حفظ المال ، وعدم اغترارهم بلوم الرجال ، فأين حالنا من حالهم ، ولذلك لا يقارن مالنا بمالهم ، ثم بكى حتى كادت أضلاعه تختلف ، وأخذ يقول ما أحسن أخبار من سلف، وما أكثر إسراف هؤلاء الخلف .

  6. #46
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــــة الـسـعـادة



     مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
    وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 
    دع الأيام تفعل ما تشاء
    ولا تجزع لحادثة الليالي
    وطب نفساً إذا حكم القضاء
    فما لحوادث الدنيا بقاء

    قال الراوي : جاءنا رجل مهموم ، قد أنهكته الغموم ، فهو من الحزن مكظوم ، فقال : أيها الناس ، حل بنا البأس ، وذهب منا السرور والإيناس ، وتفرد بنا الشيطان ، فأسقانا حميم الأحزان ، فهل منكم رجل رشيد ، رأيه سديد ، يصرف عنا هذا العذاب الشديد ، فقام شيخ منا ، ينوب عنا ، وهو أكبرنا سنا ، فقال : أيها الرجل الغريب ، شأنك عجيب ، تشكوا الهم والوصب ، والغم والنصب ، وأراك لم يبق منك إلا العصب، أما تدعوا الرحمن ، أما تقرأ القرآن ، فإنه يذهب الأحزان ، ويطرد الوحشة عن الإنسان ، ثم اعلم وافهم ، لتسعد وتسلم ، إن من أعظم الأمور ، في جلب السرور ، الرضا بالمقدور ، واجتناب المحذور ، فلا تأسف على ما فات ، فقد مات ، ولو أنه كنوز من الذهب والجنيهات ، واترك المستقبل حتى يقبل ، ولا تحمل همه وتنقل ، ولا تهتم بكلام الحساد ، فلا يحسد إلا من ساد ، وحظي بالإسعاد ، وعليك بالأذكار ، فيها تحفظ الأعمار ، وتدفع الأشرار ، وهي أُنس الأبرار ، وبهجة الأخيار ، وعليك بالقناعة ، فإنها أربح بضاعة ، واملأ قلبك بالصدق ، واشغل نفسك بالحق ، وإلا شغلتك بالباطل ، وأصبحت كالعاطل ، وفكر في نعم الله عليك ، وكيف ساقها إليك ، من صحة في بدن ، وأمن في وطن ، وراحة في سكن ، ومواهب وفطن ، مع ما صرف من المحن ، وسلم من الفتن ، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك ، هل تريد كنوز الدنيا في عينيك ؟ أو أموال قارون في يديك ؟ أو قصور الزهراء في رجليك ؟ أو حدائق دمشق في أذنيك ؟ وهل تشتري ملك كسرى بأنفك ولسانك وفيك ، مع نعمة الإسلام،ومعرفتك للحلال والحرام ، وطاعتك للملك العلام ، ثم أعطاك مالاً ممدودا ، وبنين شهودا ، ومهّد لك تمهيدا ، وقد كنت وحيدا فريدا . واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء ، والدواء والكساء ، والضياء والهناء مع صرف البلاء ، ودفع الشقاء .
    ثم افرح بما جرى عليك من أقدار ، فأنت لا تعرف ما فيها من الأسرار ، فقابل النعمة بالشكر ، وقابل البلية بالصبر ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، واغفر لكل من قصّر في حقك وأساء ، واغسل قلبك سبعاً من الأضغان ، وعفّره الثامنة بالغفران ، وانهمك في العمل ، فإنه يطرد الملل ، واحمد ربك على العافية ، والعيشة الكافية ، والساعة الصافية ، فكم في الأرض من وحيد وشريد ، وطريد وفقيد ، وكم في الأرض من رجل غلب ، ومال سلب ، وملكه نهب ، وكم من مسجون ، ومغبون ومديون ، ومفتون ومجنون ، وكم من سقيم ، وعقيم ويتيم ، ومن يلازمه الغريم ، والمرض الأليم
    واعلم أن الحياة غرفة بمفتاح ، تصفقها الرياح ، لا صخب فيها ولا صياح ، وهي كما قال ابن فارس :
    ماء وخبز وظل
    كفرت نعمة ربي
    ذاك النعيم الأجل
    إن قلت إني مقل

    واعلم أن لكل باب من الهم مفتاح من السرور ، للذنب رب غفور ، والفلك يدور ، وأنت لا تدري بعواقب الأمور ، وملك كسرى تغني عنه كسرة ، ويكفي من البحر قطرة ، فلا تذهب نفسك على الدنيا حسرة ، ولا تتوقع الحوادث ، ولا تنتظر الكوارث ، ولا تحرم نفسك لتجمع للوارث ، ويغنيك عن الدنيا مصحف شريف ، وبيت لطيف ، ومتاع خفيف ، وكوز ماء ورغيف ، وثوب نظيف .
    والعزلة مملكة الأفكار ، والدواء كل الدواء في صيدلية الأذكار ، وإذا أصبحت طائعاً لربك ، وغناك في قلبك ، وأنت آمن في سربك ، راضٍ بكسبك ، فقد حصلت على السعادة ، ونلت الزيادة ، وبلغت السيادة .
    واعلم أن الدنيا خداعة ، لا تساوي همّ ساعة ، فاجعلها طاعة .
    فلما انتهى من وعظه ، أعجب بلفظه ، وحسن لحظه ، وقال له : جزاك الله عني أفضل الجزاء ، فقد صار كلامك عندي أشرف العزاء .

  7. #47
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــة الفــرج بعـد الشــدة




     سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا 
    عسى فرج يكون عسى

    نعلل أنفسنا بعسى

    فلا تجزع إذا حملت هماً يقطع النفسا

    فأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يئسا


    إذا ضاق الأمر اتسع ، وإذا اشتد الحبل انقطع ، وإذا اشتد الظلام بدا الفجر وسطع ، سنة ماضية ، وحكمة قاضية ، فلتكن نفسك راضية ، بعد الظمأ ماء وظل ، وبعد القحط غيث وطل ، يا من بكى من ألمه ، ومرضه وكدّه ،يا من بالغت الشدائد في رده وصده ، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمـر من عنده :
    دع المقادير تجري في أعنتها
    ما بين غمضة عين وانتباهتها
    ولا تبيتن إلا خالـي البالـي
    يغيّر الله من حال إلى حالي

    ما عرفنا لكثرة حزنك عذرك ، سهِّل أمرك ، وأرح فكرك ، أما قرأت ألم نشرح لك صدرك ، ألا تفرح ، وفي عالم الأمل تسرح ، وفي دنيا اليسر تمرح ، وأنت تسمع ألم نشرح ، يامن شكا الخطوب ، وعاش وهو منكوب ، ودمعه من الحزن مسكوب ، في قميص يوسف دواء عيني يعقوب ، وفي المغتسل البارد شفاء لمرض أيوب .
    الغمرات ثم ينجلينا
    ثمت يذهبنا ولا يجينا

    للمرض شفاء ، وللعلة دواء ، وللظمأ ماء ، وللشدة رخاء ، وبعد الضراء سراء ، وبعد الظلام ضياء ، نار الخليل تصبح باليسر كالظل الظليل ، والبحر أمام موسى يفتح السبيل ، ويونس بن متى يخرج من الظلمات الثلاث بلطف الجليل .
    المختار في الغار ، أحاط به الكفار ، فقال الصِدِّيق هم على مسافة أشبار ، ونخشى من الدمار ، فقال الواثق بالقهار ، إن الله معنا ، وهو يسمعنا ، ويحمينا كما جمعنا .
    هي الأيـام والغيــر
    أتيـأس أن ترى فرجاً
    وأمر الله ينتظــر
    فأيـن الله والقـدر

    قل لمن في حضيض اليأس سقطوا ، وعلى الشؤم هبطوا،وفي مسألة القدر غلطوا ، اعلموا أنه ينـزل الغيث من بعد ما قنطوا ، كان بلال يسحب على الرمضاء ، ثم رفع على الكعبة لرفع النداء ، وإسماع الأرض صوت السماء .كان يوسف مسجوناً في الدهليز، ثم ملك مصر بعد العزيز ، كان عمر يرعى الغنم في مكة ، ثم نشر بالعدل مُلكه ، وطبعت باسمه السَّكة ، وهو الذي قطع حبل الجور وفكَّه ، وسحق صرح الطغيان ودكَّه .
    يا من داهمته الأحزان ، وأصبح وهو حيران ، وبات وهو سهران ، ألم تعلم أنه في كل يوم له شأن ، يا من هده الهم وأضناه ، وأقلقه الكرب وأشقاه ، وزلزله الخطب وأبكاه ، أنسيت من يجيب المضطر إذا دعاه .
    إذا اشتملت على اليأس القلوب
    وأوطنت المكـاره واطمـأنت
    ولم تر لانكشـاف الضر نفعاً
    أتـاك على قنـوط منك غوث
    وكل الحـادثات وإن تناهـت
    وضاق بما به الصدر الرحيب
    وأرست في أماكنها الخطـوب
    وما أجـدى بحيـلتـه الأريب
    يمن بـه اللطيـف المستجيـب
    فموصــول بها فرج قريـب

    سيجعل الله بعد عسر يسراً ، ولا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً .
    سينكسر قيد المحبوسين ، في زنزانات المتجبرين ، وسيسقط سوق الجلادين ، الذي قطعوا به جلود المعذبين ، وسيمسح دمع اليتامى ، وتهدأ أنات الأيامى ، وتسكن صرخات الثكالى . هل رأيت فقيراً في الفقر أبداً ، هل أبصرت محبوساً في القيد سرمداً ، لن يدوم الضر لأن هناك أحداً فرداً صمداً .
    من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجا ، ومن كل همٍّ فرجا،بلا حول ولا قوة إلا بالله تحمل الأثقال ، وتسهل الأهوال ، وتصلح الأحوال ، ويشرح البال ويرضى ذو الجلال . بشر الليل بصبح صادق يطارده على رؤوس الجبال ، وبشر القحط بماء زلال ، يلاحقه في أعماق الرمال ، وبشر الفقير بمال ، يزيل عنه الإملاق والأمحال :
    لا تيأس عند النــوب
    واصبر إذا ما ناب خطب
    وترج من روح الإله
    من فرجة تجلو الكرب
    فالزمان أبو العجـب
    لطـائفـاً لا تحتـسب

    واعلم أن لكل شدة ، مدة ، وإن على قدر المؤونة ، تنـزّل المعونة ، وإن الله يستخرج البلاء ، بصادق الدعاء ، وخالص الرجاء .
    واعلم أن في الشدائد إذابة الكبر ، واستدرار الذكر ، وجلب الشكر ، وتنبيه الفكر.
    فارحل بقلبك إذا الهم برك ، واشرح صدرك عند ضيق المعترك ، ولا تأسف على ما مضى ومن هلك ، فليس بالهموم عليما درك ، واعلم أنه لا يدوم شيء مع دوران الفلك ، وعسى أن تكون الشدة أرفق بك ، والمصيبة خير لك . فإذا ضاقت بك السبل ، وانقطعت بك الحيل ، فالجأ إلى الله عز وجل .
    واعلم أن الشدائد ليست مستديمة ، ولا تبقى برحابك مقيمة، ولعل الله ينظر إليك نظرة رحيمة ، والدنيا أحوال ، وألوان وأشكال ، ولن تدوم عليك الأهوال ، فسوف تفتح الأقفال ، وتوضع عنك الأغلال ، واصبر وانتظر من الله الفرج ، فكأنك بليل الشدة قد انبلج :
    لا تعجـلن فربمـا
    فالعيش أحلاه يعـو
    ولربما كره الفتـى
    عجل الفتى فيما يضره
    د على حـلاوته بمره
    أمـراً عـواقبه تسره

    واعلم أن الشدائد تفتح الأسماع والأبصار ، وتشحذ الأفكار ، وتجلب الاعتبار ، وتعلم التحمل والاصطبار ، وهي تذيب الخطايا ، وتعظم بها العطايا ، وهي للأجر مطايا .
    فاطلب من الله الرعاية ، واسأله العناية ، فلكل مصيبة غاية ، ولكل بلية نهاية .كم من مرة خفنا ، فدعونا ربنا وهتفنا ، فأنقذنا وأسعفنا ، كم مرة جعنا ، ثم أطعمنا ربنا وأشبعنا ، كم مرة زارنا الهم ، وبرح بنا الغم ، ثم عاد سرورنا وتم ، كم مرة وقعنا في الشباك ، وأوشكنا على الهلاك ، ثم كان من الله الانطلاق والانفكاك ، أنت تعامل مع لطيف بعباده، معروف بإمداده ، جواد في إسعاده ، غالب على مراده ، فلُذ به وناده ، إذا داهمتك الشدائد السود ، وحلت بك القيود ، وأظلم أمامك الوجود ، فعليك بالسجود ، وناد يا معبود ، يا ذا الجود ، أنت الرحيم الودود ، لترى الفرج والنصر والسعود :
    لطائف الله وإن طال المدى

    كلمحة الطرف إذا الطرف سجى

    كم فرج بعد إيـاس قد أتى

    وكم سرور قـد أتى بعد الأسى

    أيها الإنسان في آخر النفق مصباح ، ولِباب الهموم مفتاح ، وبعد الليل صباح ، وكم هبت للقانط من الفرج رياح .
    أيها الظمآن وراء هذا الجبل ماء ، أيها المريض في هذه القارورة دواء ، أيها المسجون انظر إلى السماء ، أيها المتشائم امسك حبل الرجاء .
    كن كالنملة في صعود وهبوط ، وعلو وسقوط ، ولا تعرف اليأس ولا القنوط ، ولا تعترف بالإحباط في كل شوط .
    كن كالنحلة في طلب رزقها قائمة ، وفي حسن ظنها دائمة ، وعلى الزهور حائمة ، وفوق الروض عائمة وليست مع اليأس نائمة .
    كن كالهدهد ، مع كل صباح ينشد ، ومع الربيع يتجدد ، وعلى بلقيس تردد ، وسليمان له تفقد ، فأسلم لربه ووحد ، وأنكر على من كفر وألحد ، فنال المجد المخلد ، والذكر المؤبد .
    أيهـا المشتـكي ومـا بك داء

    كيـف تغـدو إذا غدوت عليلا

    أترى الشوك في الورود وتعمى

    أن تـرى فوقـه الندى إكليـلا

    والـذي نفسـه بغيـر جمـالٍ

    لا يرى في الوجود شيئاً جميلا


    على رؤوس الجبال شمس من الفرج شارقة ، وعلى مشارف التلال هالة من النور بارقة ، وعلى كل باب للحزن من السرور طارقة .
    افتح عينيك ، ارفع يديك ، لا تساعد الهم عليك ، ولا تدعو اليأس إليك .
    السمك والقرش ، والطيور والطرش ، كلها ترجو رب العرش ، فاتجه أنت إليه ، واشك الحال عليه ، فإن فرجه أسرع من البرق الخاطف ، وله في كل لحظة لطائف .
    اللهم اصرف عنا المصائب ، ورد عنا النوائب ، وكُف عنا كَفّ المعائب .
    اللهم سهّل الحزون ، وهوّن المنون ، وأشبع البطون ، وافتح للمضطهدين أبواب السجون ، واجعل الخائفين من أمنك في حصون ، اللهم احلل الحبال المعقدة ، وسهل الأمور المشددة ، واكشف السحب الملبّدة ، وأجب سهام الليل المسددة .
    اللهم اجعل لليل همومنا صباح من الفرج يشرق ، ولظمأ أكبادنا نهر من الأمل يتدفق ، ولجراح مآسينا يد بالشفاء تترفق .
    اللهم أغننا عن الناس ، وارزقنا مما في أيديهم اليأس ، ورد عنا البأس ، واجعل التقوى لنا أجمل لباس ، وأقوى أساس .
    لك الحمد حتى يملأ طباق الغبراء ، وأجواء السماء ، ولك الثناء حتى تشدو به الأطيار ، وتميل به الأزهار ، ويحمله الليل والنهار .
    ولك المجد يا ذا الجود ، ما قام الوجود ، وسال الماء في العود ، ونصب للحياة عمود
    هل يرجى سواك ، هل يعبد إلا إيّاك ، هنيئاً لمن دعاك ، وطوبى لمن ناجاك .
    والصلاة والسلام على عبدك ومصطفاك ، وحامل هداك .
    وختامـاً :
    اشتدي أزمة تنفرجي
    قد آذن ليلك بالبلج

  8. #48
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة الشبـابيّـــة



     إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى 
    بكيتُ على الشباب بدمع عيني
    فيا أسفاً أسفتُ على شبابٍ
    عَريتُ من الشباب وكان غضا
    ألا ليت الشبابَ يعود يوما
    فما نفع البكاءُ ولا النَّحيبُ
    نعاه الشيبُ والرأس الخضيبُ
    كما يَعْرَى من الورق القضيبُ
    فأخبره بما فعل المشيبُ

    قال الراوي : دخلنا على جماعة من الشباب ، قد أسدلوا الشعر وأسبلوا الثياب ، ووقعوا في جدال وسباب ، فقام خطيبنا فقال وأصاب ، وأقسم بمن أنزل الكتاب ، وأجرى السحاب ، وهزم الأحزاب ، أن الشباب أمل الأمة المنشود ، وعلمها المعقود ، وسجلها المحمود ، ثم التفت إلى الشباب فقال ، وقد فاض دمعه وسال : ما لكم خالفتم السنة ، وهجرتم طريق الجنة ، تركتم هدي النبي ، وتشبهتم بالأجنبي ، قال أوسطهم طريقة ، وأعرفهم حقيقة : لماذا وجهت الكلام إلينا ، وماذا تنقم علينا ؟
    قال الخطيب : سبحان الملك القدوس ، ما أغبى هذه النفوس!،أليست أوقاتكم في القيل والقال ، وإضاعة المال ، وهدر الساعات الطوال ، قصَّرتم في الطاعة ، وبالغتم في الإضاعة ، وفرطتم في صلاة الجماعة ، هجرتم القرآن ، وأطعتم الشيطان ، وغرّكم الشباب الفتّان ، ألستم أحفاد المهاجرين والأنصار ، وأبناء الأبرار ، وعليكم تعلق الآمال الكبار . فقام أصغرهم ، وهو في العين أحقرهم ، فقال : أيها الخطيب ، يكفي هذا التأنيب ، فإنهم قالوا : لا ينفع التهذيب في الذيب ، واعلم أنا في عصر الصبا ، كنبت الربى ، وكم من سيف نبا ، وضوء خبا ، وجواد كبا ، فلا تشمت بنا العِدا ، ولا تكثر المرا ، قال الخطيب : عجب ، أيها الخب ابن الخب ، أتيت بعذر أقبح من ذنب ، أتعتذر بالشبيبة ، لعمل كل خيبة ، فهذه مصيبة ، هؤلاء الصحابة ، كلٍّ حفظ شبابه ، وحمل كتابه ، وخاف حسابه ، وهل عندكم عهد وأمان ، من طروق الحدثان ، أم أنكم في لهوكم تلعبون ، ولهواكم تركبون ؟
    قال قائل منهم ، وقد ناب عنهم ، يا عم : ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه . ونحن في مقتبل العمر ، وفي غفلة من الدهر ، فدعنا نبهج ابتهاج الزهر ، ونقبل على الدنيا إقبال القطر ، كما قال الشاعر :
    أقبل على اللذات ويحك إنه

    تطوى بك الأيام والساعاتُ

    واترك مواعظ من يُخوِّف بالردى

    قبل الردى يا صاحبي أوقاتُ

    قال الخطيب والذي قرّت بحبه العيون ، وأزال بالعلم الظنون ، إنكم في غيّكم تلعبون ، ومن حتفكم تطربون ، أين العقول هل ذهبت ، أين البصائر هل سُلبت ، أما ترون أنه يُساق بكم إلى القبور ، وكل واحد منكم مغرور ، تغترون بالمُهلة ، وتظنون أن الأمور سهلة :
    فلا تقل الصبا فيه امتهال
    تفـر من الهجيـر وتتقيه
    وفكر كـم صبيٍّ قد دفنتـا
    فهلاّ من جهنم قد فررتـا

    يا قوم : الأنفاس تكتب عليكم ، والمنايا تزف إليكم ، فقال أحدهم : فماذا نفعل أيها الواعظ ؟ فإني أراك تنتقد وتلوم وتلاحظ ، هل ترانا في حياتنا أخطأنا ، وعن مناد الصلاح أبطأنا ؟ قال الخطيب : أين نور الهداية ، وحسن البداية ، والاستعداد للنهاية ، المساجد منكم مهجورة ، والمقاهي بكم معمورة ،كل منكم ركب لهوه وطيشه،وأقبل على الدخان والشيشة ، تسبلون الإزار ، وتطيلون الأظفار ، وتقلّدون الكفار ، تضيّعون الصلوات ، وتقعون في الشهوات ، وتسهرون الساعات ، وتزجون الأوقات ، لم تفلحوا في دنيا ولا دين ، وأراكم في غيّكم قاعدين ، لستم في صلاح ولا طاعة ، ولا سنة ولا جماعة ، ولا صناعة ، ولا زراعة ، ولا جلب بضاعة .
    شباب الغرب في المصانع عاكفون ، وإلى العمل منصرفون ، وفي التجارة محترفون ، وبالجد والمثابرة متصفون ، المهندس منهم في صناعته ، والفلاح في زراعته ، والتاجـر في متابعة بضاعته ، والطبيب في عيادته .
    وأنتم ماذا فعلتم ، وأروني ماذا عملتم ؟
    أحدكم في الليل جيفة ، وفي النهار ريشة خفيفة ، فَصَلْتم من الجامعة ، وهجرتم القراءة والمطالعة ، وجلستم على القارعة ، كل منكم قد أزعج شارعه، شغلتكم الأغاني والأماني عن المثاني ، للرياضة تشجعون ، وللمنتخب تتابعون ، وللملاعب تسارعون ، وفي اللهو واللغو بارعون ، حياتكم فوضة ، تتابعون آخر موضة ، كأنكم أطفال الروضة.
    متى عهدكم بالقرآن ، هل حفظتم شيئاً من سنة ولد عدنان ، لا تعرفون المؤلفين والمكتشفين ، والمخترعين والبارعين ، ولا تذكرون أحداً من العلماء والحكماء ، والأدباء، والأولياء ، حفظتم عن ظهر قلب أسماء المغنيّين ، واللاعبين ، واللاّهين، والمسرحيّين ، والممثلين ، عققتم الأوطان ، وأطعتم الشيطان .
    هَمُّ أحدكم حذاء وساعة ، وميدالية لمّاعة ، كأنه شمّاعة .
    ما لكم أهداف سامية ، ولا همم عالية ، ولا أخلاق غالية ، ما عندكم عزائم ، أصبتم بإحباطاتٍ وهزائم ، مقصد أحدكم الأفراح والولائم .
    ألستم أحفاد الراشدين ، وأبناء المجاهدين ، وسلالة العابدين .
    صار همّ أحدكم ثياب فاخرة ، وجلسات ساخرة ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة . كأنكم أطفال يفرح أحدكم بركوب السيارة ، ومشاهدة الطيارة ، ومعايشة السيجارة ، تحفظون أسماء اللاعبين ، وتغفلون عن أسماء العلماء العاملين ، اتركوا الشوارع، واخرجوا إلى الجوامع ، اذهبوا إلى المصانع ، هبوا إلى المزارع ، هيّا إلى الحدادة والنجارة ، هيّا إلى الصناعة والعمارة ، هيّا إلى البيع والتجارة ، هيّا إلى الورشة والنشارة .
    نريد منكم علماء وحكماء وأطباء وأدباء .
    شباب الحق للإسلام عودوا
    وأنتم سرّ نهضتـه قديـماً
    فأنتم مجده وبكم يســود
    وأنتم فجره الباهي الجديد

    فقال أحدهم وقد تسربل بالخجل ، وتكنفه الوجل ، فتكلم على عجل ، فقال : لسنا سبب الضياع ، وإنما آباؤنا الرعاع ، أهملونا من زمن الرضاع ، ما أعطونا من ماء التربة ولو قطرة ، وفي الحديث كل مولود يولد على الفطرة .
    ما كانوا يسألون عنّا ، كأنا لسنا منهم وليسوا منّا ، ربّونا تربية الدواب، وعلمونا تعليم الأعراب ، فنفوسنا من الآداب خراب .
    أشغلونا بالتلفزيون ، والتلفون ، وسيّـبونا في السكك مع شباب يهمزون ويغمزون ، ما أخذونا إلى المساجد ، ما عرّفونا على عالم واحد ، ما حفّظونا الآيات البيّنات ، ما علّمونا الأحاديث النبويّات ، أهملونا للمجلاّت الخليعات ، والأفلام المائعات، والسهرات الضائعات . غرسوا فينا حب الرذيلة ، وكراهية الفضيلة ، علّمونا سوء الأدب ، وكثرة الضحك من غير سبب ، وسرعة الغضب ، وإضاعة الطلب .
    فقال الخطيب : قد سمعت ما قلت ، وأنت بالحق نطقت ، وبررت فيما قلت وصدقت ، ولكن ما عذركم الآن ، وقد وضح لكم الربح من الخسران ، والتوفيق من الخذلان ، وقد قال شاعر أصفهان :
    هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها

    ما بال أشيب يستهويه شيطان

    فليس لكم عذر في الآباء ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، أيها الأبناء ،جددوا التوبة، وأصلحوا الأوبة ، وارقعوا بيد الصلاح ما تمزق من ثوب الأعمار،واغسلوا بدمع الندم ما تركته الذنوب من غبار ، واتركوا مصاحبة الفجّار ، ومصادقة الأشرار ، ومرافقة الشطار ، والتشبه بالكفار ، أقبلوا على الحياة السعيدة ، واعكفوا على الكتب المفيدة ، وتخلّقوا بالأخلاق الحميدة ، واحملوا الآداب الرشيدة ، حافظوا على تكبيرة الإحرام ، واجتنبوا الحرام ، وتوبوا من العشق والغرام ، وارتفعوا إلى منازل الكرام ، تذكّروا الموت وسكرته ، والقبر وظلمته ، والحساب ودقته ، والصراط ومزلته ، تفكروا في البعث والنشور ، يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصّل ما في الصدور ، وينفخ في الصور ، ويعضُّ على كفه المثبور ، وتقصم الظهور .
    والله لو عاش الفتى في عمره

    ألفاً من الأعـوام مالك أمره

    ما كان ذلك كله في أن يفي

    فيها بأول ليـلة فـي قبـره

    فلما سمعوا كلامه ، وشاهدوا مقامه ، غلبتهم الحسرة والندامة ، ووضع كل منهم على وجهه أكمامه ، وبكوا بكاء من عاين القيامة ، وتذكر لياليه وأيامه .
    فرفع الخطيب يديه ، واجتمعوا عليه ، ودنوا إليه ، فقال: اللهم يا قويّ الأسباب ، يا كريم الجناب ، افتح لعبادك الأبواب ، وتب على من تاب ، وارحم هؤلاء الشباب ، فإنك تقيل العثرات ، وتغفر الزلات ، وتعفو عن السيئات ، وتتجاوز عن الخطيئات ، اللهم أصلح قلوبهم ، واستر عيوبهم ، واحفظ غيوبهم ، واغفر ذنوبهم .
    ثم قال الخطيب : هيّا بنا إلى المسجد ، لنركع ونسجد ، ونصلي ونتعبد ، ونعود إلى الله فالعود أحمد ، ونقتدي بالرسول محمّد .
    فسمعوا نداءه ، وأجابوا دعاءه ، وذهبوا وراءه ، فأصلح الله لهم البال ، ووفقهم لأحسن الأعمال ، وأزكى الأقوال ، وأشرف الأحوال ، فصاروا كالنجوم الزاهرة ، والبدور الباهرة ، بقلوب طاهرة ، وأعمال بالخير ظاهرة .

  9. #49
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة السيـاســيّــة




    (( كل بطـاّح من الناس له يــوم بطـوح ))

    من مخبر القوم شطت دارهم ونأت
    عفت السياسة حتى ما ألم بها
    لأنَّها جَشَّمِتني كلَّ نائبةٍ
    أني رجعت إلى كتبي وأوراقي
    وقد رددت إليها كل ميثاقِ
    وأنّها كلفتني غير أخلاقي

    مالك في ديار السياسة تجوس ، اهرب من ساس يسوس ، أما علمت أن وجهها منحوس ، ورأسها منكوس ، وهي التي قطعت الرؤوس ، وأزهقت النفوس ، وضيّعت الفلوس ، وحملت الناس على اليمين الغموس ، طريقها معكوس ، وعلى جبينها عبوس ، سودت الطروس ، وكسرت التروس ، وخلعت الضروس ، كسفت من أجلها شموس ، وفتحت بظلمها حبوس ، وقطعت بجورها غروس ، كانت الدنيا قبلها عروس ، وهي التي عطلت الناموس ، وأباحت المحرمات للمجوس .
    لا تل الأحكام وإن هموا سألوا

    إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام وهذا إن عدل

    عقرت هارون الرشيد في طرطوس ، وقتلت محمد بن حميد في طوس ، واجتاح بها ديار الإسلام أهل البوق والناقوس ، إذا أقبلت تدوس ، وإذا أدبرت تحوس ، بذريعتها لعب الأمريكان في العالم والرُّوس ، تدبّ في القلوب كالسوس ، وتختفي في العقول كالجاسوس ، عاشقها يتخبطه الشيطان كأنه ممسوس ، أشار إليها الحسين فخطفت رأسه، ومازحها الحجاج فخلعت أضراسه ، وداعبها أبو مسلم فأحرقت لباسَه،وزارها مصعب فقتلته وحراسه ، وأحبها يزيد فقطعت أنفاسه ، وصافحها المختار فمزقت أحلاسه ، وأحبها المهلب فاقتلعت أساسه ، وعشقها المتوكل فسلطت عليه جُلاّسه ،وشربها القاهر فكسرت عليه كأسه ، وعانقها ابن الزيات فأحرقت قرطاسه ، وجالسها ابن المقفع فأبطلت قياسه ، كم من ذكي ضيعت مراسه ، وكم من غبي أخرجت وسواسه ، السياسة بالنفاق نجاسة ، وبالغباء تياسة ، وبالغدر تعاسة ، وبالجور خساسة ، وبالظلم شراسة ، اجتنبها أهل الكياسة ، ومات في حبها أهل الرياسة ، بذلوا في حبها الدين والحماسة ، وما حصلوا إلا على التعاسة ، تقاتلوا عليها حسداً ونفاسة ، قُتل البرامكة لأجلها بحجة عباس وعباسة ، فأصبحوا بعد الملك خبراً في كراسة ، وبعد الوزارة دفتراً على ماصة ، هي الوسواسة ، الخناسة ، تذهب بالنجابة والكياسة ، وكم من شجاع أذهبت باسه ، وعقرت أفراسه ، أهلها يُسمّون ساسة ، كل منهم قد حمل على أخيه فاسه .
    سعيد النورسي ، بالسياسة نسي ، لينين واستالين ، قتلوا بالسياسة الملايين، فكتبوا في تاريخ الملاعين ، هولاكو الغازي ، وهتلر النازي ، قتلوا باسم السياسة الإنسانية فأصبحوا في الخانة المنسية .
    الكلب أكرم عشرة
    من معشر طلبوا الرئاسة
    وهو النهاية في الخساسه
    قبل تحقيق الرئاسه

    كسر كسرى بالسياسة ظهور أهل فارس ، فقيل له :لم فعلت ذلك ؟ فقال: ساس يسوس فهو سائس ، وقصّر قيصر بالسياسة أعناق الروم ، فقيل له لم هذا الصنيع يا محروم ؟ فقال : أردت إصلاح البلاد ، ورحمة العباد .
    كدعواك كل يدعي صحة العقل
    ومن الذي يدري بما فيه من جهل

    بقنابل سياسة العميان ، دمرت اليابان ، وقتل الصرب الألبان ، واحتل الروس الأفغان ، وجلد المستضعفين شاه إيران ، واعتدى الألمان على الجيران . لكن ذكر كل كافر بربه ، آية :  فَكُلاَّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ  .
    وكل ما سبق حديثٌ عن السياسة الفاجرة الكافرة ، الساحرة الساخرة .
    وهي السياسة البدعيّة ، القائمة على ظلم الرعيّة ، وإهدار الحقوق المرعيّة ، من رأسمالية ، وبعثية ، ونازية ، وشيوعية ، وصان الله من ذلك السياسة الشرعية، لأن السياسة الشرعية رحمة بالبشر ، واتباع للأثر ، ومحاربة من كفر ، وردع من فجر، وهي التي على دستور عمر ، إمام السياسة الشرعية الرسول ، أعدل العدول ، وأفقه الناس في المنقول والمعقول ، وصاحبه الصديق ، بالأمة رفيق ، له عهد مع العدل وثيق ، وقلب من التقى رقيق ، وتلميذه عمر الذي كان وهو خليفة يئن من الجوع ، ويلبس المرقوع ، وتغلبه الدموع ، أولئك هم الناس ، وبهم يضرب القياس ، ويحل الأمن ويدفع الباس .
    وليس لمن خالفهم إلا الإفلاس ، والابتئاس ، والاتعاس ، ليت السيوف الحداد ، لا تعاون أهل الفساد ، في ظلم العباد ، فبسياسة الجور والعناد ، قتل الحسين بسيف ابن زياد . بأيّ سياسة يُكرم جهلة الأنباط ، وتدفع الجوائز لأهل الانحطاط، ويُجلد أحمد بن حنبل بالسياط ، على البلاط :
    فيا موت زر إن الحياة ذميمة
    ويا نفس جدِّي إن دهرك هازل

    بأْيّ سياسة يتولى الوليد بن يزيد ، وهو الرعديد ، البليد ، المريد ، وهو الذي فتح المصحف فوجد فيه : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ، غنته الجارية وهو في السكر ، والنكر ، شارد الفكر ، ذاهب الذكر ، تارك الشكر ، فقال من الطرب : إلى أين أطير ، قال العلماء : طر إلى السعير يا عير .  فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ 
    بأي سياسة يصبح الحجاج الوزير ، صاحب الدف والزير ، ليقتل ابن الزبير ، بلا قصاص ولا تعزير .
    بأي سياسة يُذبح سعيد بن جبير ، العالم النحرير ، والمحدث الشهير ، وتعطى الجوائز لزرياب ، وتخلع عليه الثياب ، والعلماء يُدفعون عند الأبواب . لو أن المأمون فقه سنة الرسول الأمين ، ولو أن المعتصم درس سنة المعصوم ، لما عذبوا أحمد بن حنبل ، سمّي أحمد النبي المبجل ، لأن أحمد بن أبي دؤاد ، أشغلهم عن الإسناد ، بأقوال أهل الفساد ، وبنقولات فلاسفة بغداد ، وجهلة السواد .
    يا لها من سياسة خربانة ، تكرم الزنديق وأعوانه ، وتضع ابن تيمية في زنزانة ، وتحجب عنه إخوانه ، بالسياسة تغزو العالم المزدكية ، وتحكم بغداد الأسرة البرمكية ، ويقتل ذو النفس الزكيّة ، بأي سياسة خرج التتار ، بكل بتار ، فخربوا الديار ، وقتلوا الصالحين الأبرار ، وهدموا كل مسجد ودار، براءة من الله ورسوله إلى سياد بري، لأنه على الدماء جري ، شنق علماء المالكية ، والشنق عند مالك حرام بالكليّة .
    دستم من رستم ، مع هليا مريام منجستم ، يا كم تنجستم ، وغرتكم الأماني وتربصتم . بأي سياسة سمى الشيوعيون أنفسهم بالرفاق ، وهم أهل النفاق ، والشقاق ، وسوء الأخلاق . كنىّ أبو جعفر الخراساني أبا مسلم ، فلما ذبحه قال : مت يا أبا مجرم .
    أبو مسلم تبختر ، وتكبر ، وتجبر ، فبقر بطنه أبو جعفر ، بالخنجر ، فسحب بعد الملك في السلك وجرجر ، ما شاء الله يجلس الخليفة في بغداد ، على الوساد،ويصفق له العباد ، ويحرسه الأجناد ، فتغنيه الجارية بصوت جميل ، وشَعْرها يميل :
    قفا نبكي من ذكـرى حبيب ومنـزلِ

    فيقع الخليفة في الطرب ، فيصب على الجارية الذهب ، وأحمد بن حنبل مسجون في الحق بلا سبب . يجلس الخليفة العباسي ، على الكرسي ، ويقول : يا ناس قبّلوا رأسي ، وامسحوا مداسي ، وقربوا قرطاسي .
    فيقوم شاعر طرطور ، منافق مدحور ، فيقول : ما خلق الله مثلك أيها الخليفة ، فأنت صاحب الأخلاق الشريفة ، والمعاني اللطيفة ، والأمجاد المنيفة ، فيقول الخليفة : يا غلام : أعطه ألف دينار ، واكتبوه من خدم الدار ، فشِعْره تاج الأشعار ، هذا وسفيان الثوري عالم الديار ، وزاهد الأمصار ، لا يجد كسرة خبز طيلة النهار .
    بأي سياسة يشرد الشعب المسلم من فلسطين على الفور ، بوعد بلفور ، وقلوبه على الظلم تفور ، والعالم الإسلامي بارد جامد هامد ، جاحد شارد خامد ، لا يثور كأنه مغمور أو مغرور ، أو مسحور ، ويحتل فلسطين اليهود ، إخوان القرود ، بلا حدود ، ولا قيود ، ولا شهود :
    لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
    قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
    لا يسألون أخاهم حين يندبهم
    بنوا اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
    طاروا إليه زرافات ووحدانا
    في النائبات على ما قال برهانا

  10. #50
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة المكـيّــة



     لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ 
    ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
    وهل أردن يوماً مياه مجنة
    بوادٍ وحولي إذخر وجليل
    وهل تبدون لي شامة وطفيل

    قال الراوي : قد أظهرت لنا يقين الحديث وشكّهْ ، فحدثنا عن مكّة ، قلنا : مكة هي المهبط والمسقط والمربط والأوسط ، فهي مهبط القرآن ، ومسقط ميلاد سيد ولد عدنان ، ومربط خيول أهل الإيمان ، وأوسط البلدان.
    مكة قلب المعمورة ، على الحسن مقصورة ، وفي حجال المجد مستورة ، أذن بها الخليل ، وسُحق بها أصحاب الفيل ، بالطير الأبابيل ، اختارها علام الغيوب ، فهي مهوى القلوب ، وملتقى الدروب ، وقبلة الشعوب ، هي أرض ميلاد الرسالة والرسول ، كان لجبريل بها صعود ونزول ، منها ارتفع الإعلان والأذان والقرآن والبيان ، أذّن منها بلال بن رباح، وسُلت فيها السيوف ، وامتشقت الرماح ، وأُعلن فيها التوحيد ، وهو حق الله على العبيد ، وهي أول أرض استقبلت الإسلام ، وحطمت الأصنام .
    بها بيت الملك الأجل ، والكعبة التي طاف بها الرسل ، سوادها من سواد المقل ، وهي أرض السلام ، وقبلة الأنام ، يفد إليها المحبون ، على رواحلهم يخبون . ويتجه إليها المصلون ، ويقصدها المهلّون ، فهي قبلة القلوب ، وأمنية الشعوب ، وراحة الأرواح ومنطلق الإصلاح ، على ثراها نزلت الهداية ، ومن رباها كانت البداية ، على رمالها مزقت الطغاة ، وعلى ترابها سحقت البغاة ، ومن جبالها هبت نسائم الحريّة ، ومن وهادها كان فجر الإنسانية .
    تمنيت الحجاز أعيش فيها
    سقى الله الحجاز وساكنيها
    فأعطى الله قلبي ما تمنى
    وأمطر كل رابية ومغنى

    على بساط مكة ولد العرفان ، وأكرم الضيفان ، ومن مغانيها رضع الشجعان ، وفي بطحائها هاشم وابن جدعان …
    لا ينكتون الأرض عند سؤالهم

    لتطلب الأعذار بالعيدانِ

    بل يشرقون وجوههم فترى لها

    عند السؤال كأحسن الألوانِ

    وإذا الغريب أقام وسط رحالهم

    ردّوه رب صواهل وقيانِ

    وإذا دعا الداعي ليوم كريهة

    سدوا شعاع الشمس بالفرسان

    في مكة تثور شجون الحب ، وتضج بلابل القلب ، فيها التأريخ يتكلم ، والدهر يتبسم ، والذكريات تتداعى ، والأمنيات تقبل تباعاً ، هنا غمغمات السيول ، وصهيل الخيول ، وتنحنح السادات ، وتزاحم القادات ، إقبال وفود ، وانطلاق جنود ، وتزاحم حشود ، وارتفاع بنود ، هدى وضلالة ، علم وجهالة ، وهنا كرم وبسالة ، وحي ورسالة ، عالم يمور بالعبر ، ديوان يزخر بالسير ، دفتر للعظماء ، سجل للشرفاء :
    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

    أنيـس ولـم يسمر بمكة سـامرُ

    بلى نحـن كنـا أهلهـا فأبادنــا

    صروف الليالي والجدود العواثرُ

    في مكة رؤوس بالأنفة متزاحمة ، وجيوش للثأر متلاطمة ، أفكار وحضارات ، ونواد ومحاضرات ، سير وسمر ، في ضوء القمر ، أنباء وأخبار ، قصص وأشعار، حتى كان النبأ العظيم ، وهو الرسول الكريم ، فيصغر بعده كل خبر ، وينسى من جاء ومن غبر ، فهو أعظم أثر ، جاءت به السير .
    نسخت كل دواويـن المكـارم ما
    مـا
    خط الأنام برسم اللوح والقلمِ

    فالشمس والقمر المنشق قد خضعت

    لنور وجهك من حسـن ومن كـرمِ

    يوم بعث استدار له الزمان ، وأنصَت له الثقلان ، وتشاغلت به الأقلام ، ورحبت به الأيام ، وأنصت له الأنام ، فهو ابن مكة البار ، وبطلها المغوار ، ورسولها المختار .
    إذا أقبلت على البلد الحرام ، فتذكر ذاك الإمام ، عليه الصلاة والسلام .
    مكة تذكرك البأساء والنعماء ، والنور والظلماء ، والسعادة والشقاء .
    مكة كتاب مفتوح ، وسِفْر مشروح ، يجمع بين أحاديث النجاة والخسران ، والكفر والإيمان ، والعدل والطغيان ، تذكرك مكة الشرك الكالح ، والجهل الفاضح ، والوهج اللافح ، يوم كانت الأوثان تُقدَّس ، والأصنام تأسس ، تسجد لها النفوس الخاوية ، والعقول الجافية ، يوم غاب الرشد ، وأفل السعد ، وغرب الميثاق والعهد ، يوم كان الإنسان كالبهيمة ، بلا قيمة ، والقلب في شباك الجريمة ، وفي ظلمات وخيمة :
    فقل للعيـون الرمـد للشمـس أعيـنٌ

    تراها بحق في مغيـب ومطلعِ


    وسامح الله عيوناً أطفأ الله نورها

    بأهوائها لا تستفيـق ولا تعي

    وتذكرك مكة يوم انفجر الفجر ، وارتفع الذكر ، ومحق الكفر، يوم أنصتت الدنيا بأُذن سميعة ، وأقبل الدهر بخطاً سريعة ، وانتفض الكون للكلمة الخالدة ، واهتز العالم بالدعوة الراشدة ، لا إله إلا الله ، لا معبود بحق سوى الله ، لا بقاء إلا لله ، وتذكرك مكة بالوحي وهو يتنـزّل ، والقرآن وهو يرتّل ، وجبريل الروح ، يغدو ويروح ، وباب الرحمة المفتوح ، والعطاء الرباني الممنوح ، فيالها من ذكريات يهتز لها الجسم ذرة ذرة ، ويقوم لها الرأس شعرة شعرة ، ويا لها من صيحة دوّت في العالم فاستيقظ بها كل نائم ، واهتدى بها كل هائم ، ويا له من خبر طرق الكون فصحا ، ومحق الشرك ومحا .
    توقف الزمان منصتاً ، وسُلَّ سيف الجهاد مصلتاً .
    هنا الأماني هنا الأمجاد قد رفعت

    هنا المعالي هنا القربى هنا الرحمُ

    هنا القلـوب استفاقت من معاقلها

    هنا النفـوس أتت للحق تزدحـمُ

    هنا رواء هنـا فجـر هنـا أمل

    هنا كتـاب هنا لـوح هنا قلـمُ


    التعبير يخون ، والنفس فيها شجون ، والذاكرة بالصور موّارة ، ونور الحديث قد نصب في القلب منارة ، إذا ذكرت مكة ذكر غار حراء ، والشريعة الغراء ، والوحي والإسراء ، فكأن التأريخ حضر ، وكأن الزمان اختصر ، وكأن الدنيا كلها في مكة محصورة ، وكأن الأيام في أجفان مكة مقصورة .
    مكة ملاعب الصبا والشباب ، لصاحب السنة والكتاب ، فيها مسقط رأسه ، وفضاء أنفاسه ، فيها مراتعه ، ومرابعه ، ومهاجعة .
    هذي بلادي وهذي منتهى أملي

    هذا التـراب الذي أهديته زجلي

    هذا المكان بـه ميـلاد قدوتنا

    هذا رياض الهدى والسادة الأُوَلِ

    كيف نعبر عن أشواقنا ، وقد سافر حبه في أعماقنا ، لأنه صلى الله عليه وسلم أملنا المنشود ، ومجدنا المحمود :
    في كفك الشهم من حبل الهدى طرف
    طرف
    على الصراط وفي أرواحنا طرفُ

    هيهـات رحـلة مسـرانا جحافلنـا
    كما عهدت وعزمـات الورى أنفُ

    وعلى رمضاء مكة ثأر وجراح ، وعويل وصياح ، حيث عُذب بلال بن رباح ، أما تقرأ على الرمضاء ، ما كتبته الدموع والدماء ، يقرؤها كل عالم وجاهل ، وقل جاء الحق وزهق الباطل . تفجّعٌ صارخ يصعد إلى السماء ، وصيحاتٌ ثائرة تشق الظلماء ، أحدْ أحدْ ، فرد صمدْ ، على رغم من كفر وجحد ، تطلق هذه القذائف حنجرة بلال ، فتهتز بها الجبال ، وتنتفض منها التلال .
    أحدٌ هتفتَ بها لكـلِّ معطـِّل

    أنت المـؤذن للرسـول فرتِّلِ

    واهزم بصوتك كل طاغٍ فاجـر



    واسحق بقولك كل زحف باطلِ

    وعلى جبين مكة قبلات المحبين ، وفي جوفها زجل المسبحين ، وفي عينيها آية للسائلين ، مكة أم الخلفاء الراشدين ، مكة بلد العابدين ، وميدان المجاهدين ، وعرين الفاتحين ، وجامع الموحدين ، ومدرسة الحكام العادلين :
    وفي رُبى مكة تأريـخ ملحمـة

    على ثراها بنيـنا العالم الفانـي

    إذا قربت من مكة فتهيّأ للدخول ، واستعد للنـزول ، والبس الإحرام، عند عناق البيت الحرام ، لأنك سوف تلج بيت الديَّان ، ومحط العرفان ، ودار الرضوان ، هنا المسلك الأرشد ، والمحل الأسعد ، والحجر الأسود ، هنا المقام الكريم ، والمطاف العظيم ، وزمزم والحطيم ، هنا العابدون والساجدون ، والعاكفون ، والقائمون ، والمستغفرون . هنا تسكب العبرات ، وتهمل الدمعات ، وتنبعث الآهات ، وتصعد الزفرات . هنا تغسل النفس من الأدران ، ويتخلّص القلب من الأحزان ، وتنطلق الروح من العصيان ، هنا ترمى الجمرات ، وتحط الغدرات ، وتخلع الفجرات ، وتغسل السيئات ، هنا يتجرد من الثياب ، ويتهيأ للحساب ، فحبذا هذه الرحاب ، وطوبى لهذه الشعاب ، هنا تناخ المطايا ، وتحط الخطايا ، وتكثر العطايا ، هنا السرور قد تم ، والشمل قد التم ، وذهب الهم والغم .

صفحة 5 من 7 الأولىالأولى ... 34567 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. اطلب ثوابك من ربك د. عائض القرني
    بواسطة عزتي احرقت جمر الاشواق.. في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-12-2010, 08:05 AM
  2. الشيخ عائض بن عبدالله القرني
    بواسطة القيصر السليطي في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-04-2010, 12:53 AM
  3. حسرات للشيخ عائض القرني
    بواسطة زهر الربيع في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 13-02-2010, 12:25 AM
  4. لا تحزن للدكتور عائض القرني
    بواسطة رنين الاصوات في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 11-02-2010, 09:19 AM
  5. خواطرللشيخ عائض القرني
    بواسطة Full MooN في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-03-2009, 12:12 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك