احباب الاردن التعليمي

صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 69

الموضوع: مقامات عائض القرني

  1. #21
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19

    المقـامَــة الأدبـيّــة
     أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ
    أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 

    أنظم الشعر ولازم مذهبي
    فهو عنوان على الفضل وما
    في اطراح الرفد فالدنيا أقل
    أحسن الشعر إذا لم يبتذل

    قال الراوي : سمرنا ليلة مع جماعة أبية ، لهم شوق إلى المقامات الأدبية ، والأشعار العربيّة ، فقالوا حدثنا عن الأدب ، فإنه ديوان العرب ، ومنتهى الأرب ، ونهاية الطلب .
    قلنا : حباً وكرامة ، وتحية وسلامة ، فقد رضعت الآداب ، وجالست الأعراب ، وحفظت الشعر من عصر الشباب ، فالشعر عندي سمير ، وهو لنفسي روضة وغدير .
    وحديثه السحر الحلال لو أنه

    لم يجن قتل المسلم المتحـرّزِ

    إن طال لم يملّ وإن أوجزته

    ودّ المحـدث أنه لـم يوجـزِ

    فقال أحد السُّمار ، من محبي الأشعار ، أفض علينا من القصائد الغراء ، التي قالها على البديهة الشعراء ، قلت : هذا فن طويل الذيل ، يأخذ في كل سبيل ، ولكن سوف أورد بعض الشواهد ، والشوارد ، والأوابد .
    فهذا أبو جعفر المنصور تحدى الشعراء بقافية ، قال : من أجازها فله الجائزة وافية ، إذ يقول ، وفكره يجول :
    وهاجرة وقفت بها قلوصي

    يقطع حرها ظهر الغطايَه


    فقام الشعراء على ركبهم جاثين ، كلهم يريد الجائزة من أمير المؤمنين ، فقال بشار بن برد ، وكان سريع الردّ :
    وقفت بها القلوص فسال دمعي

    على خدي واقصر واعظايَه

    فأخذ بردة أبي جعفر ، وكانت من خز أصفر .
    وهذا أبو تمام ، وهو شاعر مقدام ، مدح المعتصم ، فما تعثر وما وهم ، يقول :
    إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ

    في حلم أحنف في ذكاء إيـاسِ

    فقال الحارث الكندي ، ما لك قدر عندي ، أما تخاف ، تصف أمير المؤمنين بالأجلاف ، فانهد أبو تمام كالسيل معتذراً عما قيل :
    لا تنكروا ضربي له من دونه

    مثلاً شروداً في الندى والباسِ

    فالله قد ضرب الأقل لنـوره

    مثلاً من المشكـاة والنبراسِ

    حكم النعمان ، على نابغة ذبيان ، بالإعدام ، بعد ما اتهمه ببعض الاتهام ، فأنشده البائيَّة الرائعة الذائعة :
    فإنك شمس والملوك كواكب
    إذا طلعتْ لم يبْدُ منهن كوكبُ

    فعفا عنه وحباه ، وقربه واجتباه .
    وأهدر البشير النذير ،دم كعب بن زهير، فعاد إليه ، ووضع يده بين يديه ،وأنشده :
    بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

    متيم إثرها لم يُفد مقبولُ

    فحلم عليه وصفح ، وعفا عنه وسمح ، واستقام حاله وصلح .
    وأصدر حاكم اليمن ، قراراً بإعدام سبعين من أهل العلم والسنن ، والفقه والفطن ، فأنشده البيحاني ، قصيدة بديعة المعاني ، هزّ بها أعطافه ، واستدر بها ألطافه ، أولها :
    يا أبا المجد يا ابن ماء السماء
    يا سليل النجوم في الظلماء

    فأكرم مثواه ، وعفا عن السبعين من العلماء والقضاة .
    وكاد معاوية أن يفر من صفين ، يوم وقف بين الصفين ، فذكر قول ابن الأطنابة، فأوقف ركابَه :

    أقول لها وقد جشأت وجاشت

    مكانك تحمدي أو تستريحي

    وأوشك المتنبي الشاعر الهدّار ، أن يولي الأدبار ، ويجد في الفرار ، فكرر عليه غلامه ، أبياتاً ثبتت أقدامه ، حيث يقول :
    الخيل والليل والبيداء تعرفنـي

    والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

    فرجع مقبلا ، فقتل مجندلا . وقتل عضد الدولة الوزير ابن بقية ، ولم تردعه تقيّة ، فأنشد ابن الأنباري قصيدة كأنها برقية ، أو رواية شرقية ، اسمع مطلعها ، وما أبدعها :
    علو في الحياة وفي الممات
    بحق أنت إحدى المعجزات

    فسمعها عضد الدولة فتأسف ، وقال حبذا ذاك الموقف . ولما قتل محمّد بن حميد ، بكاه أبو تمام بذاك القصيد ، ورثاه بذاك النشيد :
    كذا فليجل الخطب وليفـدح الأمرُ

    فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ

    وسب أحد الأمراء ، المعري أبا العلاء ، وهجاه أشد هجاء ، وسب أستاذه سيد الشعراء ، فقال أبو العلاء : لا تسبه أيها الأمير ، فإنه شاعر قدير ، ولم يكن له إلا قصيدة،
    لك يا منازل في القلوب منازل
    أقفرت أنت و هن منك أواهل

    ففهم الأمير ماذا يريد ، لأنه قصد آخر القصيد ، وهي قوله :
    وإذا أتتـك مذمتي من ناقصٍ

    فهي الشهـادة لي بأني كامـلُ

    ولما زار أبو جعفر المنصور المدينة طلب شيخاً كبيرا ، وجعله عنده أجيرا ، يخبره ببيوت المهاجرين والأنصار ، فدار به إلى آخر النهار ، ولم يعطه مالا ، ونسيه إهمالا ، فقال الشيخ يا أمير المؤمنين : هذا بيت الأحوص الشاعر المبين القائل :
    يا بيت عاتكة الذي اتعزل

    حذر العدا وبك الفؤاد موكّل

    فتذكر أبو جعفر القصيدة ، وهي فريدة مجيدة ، يقول في آخرها :
    وأراك تفعل ما تقول وبعضهم

    مذق الكلام يقول ما لا يفعلُ

    ففهم المراد ، وأعطى الشيخ الزاد .
    أقبل عالم كبير القدر ، ظاهر الأمر ، على شاعر قاعد ، فقام لهذا العالِم الوافد ، وكان العالم يرى أن القيام للقادم باطل ، ولو أن القادم رجل كامل ، فقال للشاعر دع القيام ، فأنت لا تلام ، فقال الشاعر :
    قيامي والإله إليـك حق
    وهل رجل له لب وعقل
    وترك الحق ما لا يستقيمُ
    يراك تسير إليه ولا يقومُ

    وفد شاعر على وزير خطير ، بالمكرمات شهير ، فلما أبصر جلبابه ، وشاهد حُجّابه ورأى أصحابه هابه ، فأراد أن يقول مساك الله بالخير ، قال من شدة الخجل ، ومن دهشة الوجل : صبحك الله بالخير ، فقال الأمير : أصباح هذا أم مساء ، أم تريد الاستهزاء ، فقال الشاعر بلا إبطاء :
    صبحته عند المساء فقال لي

    ماذا الصباح وظنَّ ذاك مزاحا

    فأجبتُه إشراق وجهك غرني

    حتى تبينت المسـاء صبـاحا

    وأنا مُحدّث لا حداثي ، من مكة مركبي وأثاثي ، ومن المدينة ميراثي ، أصل الحداثيين من البلاشفة الحمر الكفرة ، كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة .
    لا تتبلد ، أرسلناك إلى المربد ، بالحق تنشد ، وبالإسلام تغرد ، فذهبت تعربد .
    اسمك محمد فلا تزد في الحروف ، لتصبح محمدوف ، لأن محمد شرعي ، ومحمدوف شيوعي ، ديوان المتنبي مجلد لطيف خفيف ، فيه لفظ منيف ، ومعنى شريف ، أنصت لشعره الدهر ، وعبر البر والبحر ، وسار غدوه شهر ورواحه شهر . وبعض الشعراء المولّدين ، لكل منهم عشرة دواوين ، كل ديوان ككيس الأسمنت ، إذا قرأت منها قصيدة سكتّ وصمتّ ، وبُهتّ وخُفتَ ثم مُتّ ، تعبنا من ركاكة الكلام ، ومن هذا الركام ، إذا سألناهم عن المعنى أكثروا من الهمز والغمز ، وقال هذا شعر الرمز ، فيه إيجاز ، وألغاز وإعجاز ، والصحيح أنه هراء وطلسمة ، وشعاب مظلمة ، وتمتمة ، وهمهمة ، وغمغمة .
    وقد حكم رسولنا  في الشعر وقد رضينا حكمه فقال : (إن من الشعر لحكمة) وهو الشعر المحمود ، الذي يوافق المقصود ، وليس فيه بذاء ، ولا هجاء ، ولا ازدراء ، وكان فيه لطف بلا سخف ، مع صدق في الوصف ، وليس فيه تبذل ولا إغراب ، ولا كذب ولا إعجاب ، مع إشراق في العبارة ، ولطف في الإشارة ومتانة في السبك ، وجمال في الحبك ، فإذا كان كما وصفنا ، وصار كما عرّفنا ، فهو السحر الحلال ، وهو فيض من الجمال ، وهالة من الجلال ، يبهج العاقل ، وينبّه الغافل
    واعلم أن في الشعر مختارات ، وفي القصائد أمهات ، مثل المعلقات ، وما اختاره أصحاب الحماسات ، ولا تنس الفريدة الحسناء ،
    هذا الذي تعرف البطحاء

    وإن تعجب فيحق لك العجب ، من قصيدة :
    السيف أصدق إنباء من الكتب

    وأجمل المراثي الرائعات :
    علو في الحياة وفي المماتْ

    أو ابن زيدون وهو يشجينا :
    أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا


    أو الشريف الرضي في روعة البيان ، يوم أنشد :
    يا ظبية البان

    وواعجباه ،
    من واحر قلباه

    وما أبهى تاج الكلام ،
    تفت فؤادك الأيام

    وأبو البقاء الراوندي يوم اهتم ، فقال :
    لكل شيء إذا ما تم

    واعلم رحمك الله أن في الشعر تِبْر وتراب ، وذهب وأخشاب ، ولا يخدعنك قولهم فلانٌ شاعر موّار ، فقد لا يساوي شعره ربع دينار ، فإن من الشعر مسك وعنبر ، ولؤلؤ وجوهر ، يسافر إلى سويداء قلبك ويبحر ، وينادي إنما نحن فتنة فلا تكفر .
    وفي الشعر شعير ، وروث بعير ، فيه نذالة وجهالة ورذاله ، فويل لمن أشغل الناس، وسوّد القرطاس ، وجلب الوسواس ، وحاس وداس ، وفي ديار القلوب جاس ، يصيبك من شعره تثاؤب وعطاس ، ونوم ونعاس ، فإذا رأيته فقل له : لا مساس ، ولا باس عليك منه لا باس . وهذا الصنف لا يردّه عقل ، ولا يردعه نقل ، جائزته بصل وفجل ، لأنه أُشرب في قلبه العجل . إذا قام أحدهم في النوادي ، صاح المنادي : هذا شاعر الحواضر والبوادي ، وبلبل النادي ، فيصدق المسكين ، قطع بلعومه بالسكين ، فيتمايل طربا ، ويتيه عجبا ، ويقول للحضور : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، فإذا ألقى القصيدة ، فكأنه يأكل عصيدة ، يلوِّي راسه ، ويكظم أنفاسه ، كأنما يتخبطه الشيطان من المس ، حتى ينادي الجمهور : بس بس ، فليت قارئاً يبرك على صدره ، ويضع يده على نحره ، ويرش وجهه بماء من تبسي ، ويقرأ عليه آية الكرسي . فإذا خرج شيطان الشعر الرخيص ، وعلم أنه ليس له محيص ، قام هذا الغبي ، كأنه صبي ، ليترك الأشعار ، لأهل الاقتدار ، ويقصد البيع والإيجارة ، أو البناء والنجارة ، أو يصلح عقاره ، ويهجر القوافي ، لكل فصيح وافي .
    وليت الناس سلكوا مذهبَهم ، فقد علم كل أناس مشربهم ، ويا من اشتغل بالأشعار، عليك بالأذكار ، وإدمان الاستغفار ، والخوف من القهار ، فإن اللسان ثعبان ، وأمامك قبر وميزان ، ونجاة وخسران ، ولا يكن لسانك كالمقراض للأعراض ، ولا يكن كالمقباض للأغراض ، فإن الأنفاس تكتب عليك ، وعملك منك وإليك .
    وويل لمن أطلق لسانه ، وأرضى شيطانه ، وأجرى في اللهو حصانه ، من يوم تشيب فيه النواصي ، ويندم فيه كل عاصي ، ويهابه كل دانٍ وقاصي .
    ويا شعراء المجون ، مالكم في الغي تلجون ، وفي النوادي تصجّون ، ولكل رأس تشجّون . ألا عقل يردع ، ألا أذن تسمع ، ألا قلب يخشع ، ألا عين تدمع ، أشغلتم القلوب ، وأنسيتم الناس علام الغيوب ، ودللتم الأمة على المعاصي والذنوب ، أشعلتم النفوس الهائجة ، أحرقتم القلوب المائجة ، لأن بضاعتكم على الأراذل رائجة ، أتظنون أنه لا حساب ولا عقاب ، ولا عذاب ولا ثواب ، الموقف أصعب مما تظنون ، والمشهد أعظم مما تتصوّرون ، إذا بعثر ما في القبور ، وحصّل ما في الصدور ، وفار التنور ، وقصمت الظهور ، وطار الكبر والغرور .
    إذا جـار الوزيـر وكاتبـاه

    وقاضي الأرض أجحف في القضاءِ

    فويـل ثم ويـل ثـم ويـل

    لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

    يا شعراء المجون ، ويا أتباع كل غاو مفتون ، وهائم مجنون ، ويل لكم مما كتبت أيديكم ، وويل لكم مما تكسبون .


  2. #22
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــة الخطابـيّـــة


    وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا 
    ولسان صيرفي صارم
    سحر هاروت وماروت ولو
    كذباب السيف ما مس قطع
    كلم الصخر بحق لانصدع

    نحن في زمن عجيب ، وفي عصر غريب ، كم بلينا بخطيب غير أديب ، ولا مصيب، إذا تكلم تلعثم ، وهمهم ، وغمغم ، وتمتم .
    إذا بدأ في الكلام اعتذر ، لا يدري ما يأتي وما يذر ، لأن كلامه هذر مذر ، ابتلي الرجل بالسعال ، وكثرة الانفعال ، وسوء التعبير في المقال .
    لا يزوّر الكلام في صدره تزويرا ، ولا يحبّر الخطب تحبيرا ، فلا يساوي كلامه في ميزان الشعر نقيرا ، يا ليت بعض الخطباء اشتغل بالتجارة ، أو مارس البناء والنجارة ، وترك المنبر لأهل الإبداع والجدارة .
    الخطيب القدير ، والمتكلم النحرير ، له صولة وزئير ، ومنطق كالحرير ، ولسان كالسيف الطرير ، إذا وثب على المنبر ، فاح منه المسك والعنبر ، فكأن منطقه الماء الزلال، والنبع السلسال ، يأتي بالحكمة في ارتجال ، ويغلب بحجته الرجال ، فإنه الأسد إذا صال وجال ، إياّك والكلام الساقط المرذول ، والعامي المبذول ، وعليك بفصيح المنقول ، الذي يحبّذه أصحاب العقول ، ما أحوجنا إلى خطيب قوّال ، وبما يقول فعّال ، ليس صاحب إملال ، ولا إخلال ، ولا إقلال ، وإنما يدبج السحر الحلال .
    وكلامه السحر الحلال لو أنه
    إن طال لم يملل وإن أوجزته
    لم يجن قتل المسلم المتحرز
    ود المحـدث أنـه لم يـوجـزِ

    لا يشرح الصدر مثل الكلام الصادق ، والبيان الناطق ، واللفظ الدافق ، والأسلوب السامق ، أما كلام الحاكة ، وألفاظ أهل الركاكة ، فهو حُمّى الأرواح ، في الصدور رماح ، وفي القلوب جراح .
    ترى بعضهم إذا تكلم لا يكاد يبين ، كأنه من الأعجميين ، ينطق بالحرف مقلوبا ، ويجعل المرفوع منصوبا ، ملأ خطبته عيوبا ، وندوبا ، وثقوبا .
    غضب منه في النحو سيبويه ، وفي اللغة نفطويه ، وفي الحديث راهويه ، وفي الشعر متنبيويه .
    الخطيب البارع يأسر القلوب أسرا ، ويسري بالأرواح فسبحان من أسرى ، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداء ، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء .
    الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير ، ويرسم في العقول صوراً من براعة التعبير ، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير .
    هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب ، وحل بها الحبيب ، وأطفأ نسيمها اللهيب ، وكذلك الخطيب النجيب ، في خطبه روضات من الجمال ، وبساتين من الجلال ، ودواوين من الكمال .
    تقرأ القصة لا تساوي بعرة ، ولا تهز شعرة ، فيلقيها الخطيب الأشدق ، والفصيح المتدفق ، فكأنها السحر دب في كيانك ، وكأنها الخمر هزت أركانك ، تسمع بيت الشعر لا يساوي ريالا ، ولا ترى فيه روعة ولا جمالا ، فيلقيه الخطيب المصقع ، والمتكلم المبدع ، فتبقى من حسنه مبهوتا ، كأنك لقطت ياقوتا .
    الخطيب الهدّار ، كالسيل الموّار ، يقتلع الأشجار ، ويحمل الأحجار ، ويقتحم الأسوار ، لا يرده جدار ، ولا تقف في طريقه دار ، لأن الخطيب يقبل ومعه الآية الآمرة ، والموعظة الزاجرة ، والقصة النادرة ، والحجة الباهرة ، والقافية الساخرة .
    تعيش معه في دنيا من الصور والألوان ، وفي عالم من المشاهد والألحان ، كأنك في إيوان ، أو بستان ، أو ديوان .
    دعني من الخطباء الثقلاء ، كأن كلامهم لهيب الرمضاء ، أو وهج الصحراء ، أو وجه الشتاء ، لا طلاوة ، ولا حلاوة ، لا إبداع ، ولا إمتاع ، ولا إشباع . قوم لم تركض ألسنتهم في ميدان البيان ، ولم تذق قلوبهم حلاوة القرآن ، ولا تمتعوا بسحر الكلمات ، ولا رشاقة الجمل البالغات ، ولا عرفوا حسن السبك ، ولا براعة الحبك ، هَمُّ أحدهم صحف يتلوها على الناس بكرة وأصيلا ، لا تترك في الناس من التأثير فتيلا ، يلوك أحدهم الكلام لوكا ، كأنه يغرز في الأجسام شوكا .
    أفصح الناس رسول الهدى ، وإمام الندى ، أبلغ من حضر وبدا ، وأوعظ من راح وغدا .
    ما بنى جملة من اللفظ إلا

    وابتنى اللفظ أمة من عفاءِ

    منطق يملأ القلوب جلالاً

    في حبور وبهجـة وصفـاءِ

    إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة ، تلك الفصاحة ، والبراعة ، والنجابة ، التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء ، وإمام البرعاء ، وأبين العرب العرباء ، كان إذا تكلم ملك المشاعر ، واستولى على الضمائر ، واستمال السرائر ، فلا يريدون بعده كلام خطيب ولا شاعر ، إذا نطق عليه الصلاة والسلام وتدفق ، فكأنه الفجر أشرق ، والماء ترقرق ، والنور في الأرواح ترفق . إن من النعيم ، عند ذاك الجيل العظيم ، سماع ذلك النبي الكريم، في منطق سليم ، وصوت رخيم ، وقول قويم ، ونهج مستقيم . ثم درج خطباء الأمة على منواله ، وسبكوا أقوالهم على أقواله ، فمن مقلٍّ ومكثر ، ومن مُؤثّرٍ ومتأثر . فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه ، وملأ بنور الحديث عينه ، وجعل البيان خدينه ، ثم أكثر من التدريب ، وأدمن التجريب ، وأخذ من كل فن بنصيب ، فترى له من البراعة ، ومن الجرأة والشجاعة ، ما يخلب ألباب الجماعة ، جمالاً في بيان ، وحسناً في إتقان ، مع عذوبة لسان ، وثبات جنان . غير أن البلاء ، يأتي من الأغبياء ، المعدودين في الخطباء ، فهم كالغيم في الصحو ، وكاللحن في النحو ، عبارات من حجاب البيان سافرة ، وجمل متنافرة . وتركيب غريب ، ليس عليه من سلطان الإبداع رقيب ، هَمُّ أحدهم أن يقول ، ولو أخطأ في النقول ، وعاث في العقول ، فَمَنْع هؤلاء من الخطابة إصابه ، حتى يراجع كل منهم حسابه . فليست المنابر أسواق باعة ، ولا أحواش زراعة ، ولا ورش صناعة ، إنما المنابر مواضع طاعة ، تهذب بها الأجيال ،وتصقل بها عقول الرجال
    ومنطق كضيـاء الشمـس تحسبـه
    يدب في الجسم مثل البرء لو نظمت
    من حسنه سحر هاروت وماروتِ
    ألفاظـه قلت هـذا عقد ياقـوتِ

    فهذبْ لسانك ، وجوّد بيانك ، ودرب جنانك ، وأطلق في الفصاحة عنانك ، لتكون الخطيب المسدّد ، والمتكلم المؤيد . وحذار من ترداد الكلام ، فإنه يتحول إلى ركام ، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام ، وإيّاك والتقعر والغرابة ، فإنها من عيوب الخطابة ، ولا تكرر العبارة ، ولا تكثر الإشارة ، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص ، ولا تجرح الأشخاص . واخلط الترغيب بالترهيب ، والوعظ بالتأديب ، وتحبب إلى السامعين بالطَّيِّب من الكلام ، ولا تتعرض للشتم والملام ، وتألف القلوب ، وذكرهم برحمة علاّم الغيوب .
    وتخولهم بالموعظة ، لتكون لقلوبهم موقظة ، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل، وما يهمهم من فضائل ، وكن لطيفاً مع الناس ، كالطبيب الآس .
    واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان ، صاحب القرآن ، سيد ولد عدنان .
    فقد كان الجذع يحنّ لكلامه ، ويئن من كثرة شوقه وهيامه ، وكانت الدموع من وعظه تتحدر ، والقلوب تتفطّر ، والنفوس تتحسر ، هذا إذا أنذر وحذر ، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور ، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرّد من السرور ، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة فالكل نور على نور .
    هـذا الكـلام مـا قالـه أحــد

    ولا تلا مثله في الجمع سحبان

    عليـه من حلل الأنـوار أرديـة

    فكل قلب من الأشواق نشـوان

    يصدع الصخر في زجر وموعظة

    وفي البشارة روض فيه ريحان

    أيها الخطباء كونوا أبطالا ، ورصّعوا من الحكمة أقوالا ، ودبّجوا من الفصاحة أمثالا ، وانفروا خفافاً وثقالا ، وفقكم الله تعالى .

  3. #23
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــــة الـتـوبـــــة


     وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ 
    ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
    تعاظمني ذنبي فلما قرنته
    جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
    بعفوك ربي صار عفوك أعظما

    يا باغي الخير أقبل ، فالباب غير مقفل ، يا من أذنب وعصى ، وأخطأ وعتى ، تعال فلعل وعسى ، يا من بقلبه من الذنوب جروح ، تعال فالباب مفتوح ، والكرم يغدو ويروح ، يا من ركب مطايا الخطايا ، تعال إلى ميدان العطايا ، يا من اقترفوا فاعترفوا ، لن تنسوا  قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا  ، يا من بذنب باء ، وقد أساء ، تذكر : (( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء )) .
    أسقت بغي كلبا ، فأرضت ربّا ، ومحت ذنبا ، قتل رجل مائة رجل ، ثم تاب إلى الله عز وجلّ ، فدخل الجنة على عجل .
    لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
    من جود فضلك ما علمتني الطلبا


    من الذي ما أساء قط ، ومن له الحسنى فقط ، ومن هو الذي ما سقط ، وأين هو الذي ما غلط ، يا كثير الأخطاء : أنسيت : كلكم خطّاء ، كم يقتلك القنوط كم ، وأنت تسمع : (( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم )) .
    اطرق الباب تجدنا عنده
    لا تقل قد أغلق الباب فلا
    بسخاء وببذل وكرم
    تحمل اليأس فتلقى في الندم

    إذا أذنبت فتب وتندّم ، فقد سبقك بالذنب أبوك آدم ، ومن يشابه أباه فما ظلم ، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم ، فلا تقلد أباك في الذنب وتترك المتاب ، فإن أباك لما أذنب أناب ، بنص الكتاب .
    أصبحت وجوه التائبين مسفره ، لما سمعوا نداء : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لأتيتك بقرابها مغفره ، اطرح نفسك على عتبة الباب ، ومد يدك وقل : يا وهّاب . أرغم أنفك بالطين وناد : رحمتك أرجو يا رب العالمين .
    إن جرى بيننا وبينك عتب
    فالقلوب التي عرفت تلظّى
    وبعدنا وشط عنا المزار
    والدموع التي عهدت غزار

    يا من أساء وظلم ، اعلم أن دمعة ندم ، تزيل أثر زلة القدم . أنت تتعامل مع من عرض التوبة على الكفار ، وفتح طريق الرجعة أمام الفجّار ، وأمهل بكرمه الأشرار . أنزل بالعفو كتبه ، وسبقت رحمته غضبه .
    والله ما لمحت عيني منازلكم
    ولا تذكرت مغناكم وأرضكموا
    إلا توقد جمر الشوق في خلدي
    إلا كأن فؤادي طار من جسدي

    اسمه التوّاب ، ولو لم تذنب لما عرف هذا الوصف في الكتاب ، لأن الوصف لابد له من فعل حتى يوصف بالصواب . ما تدري بالذنب ، محى العجب ، وبالاستغفار حصل الانكسار ، لكأس الاستكبار ، وصار الانحدار ، لجدار الإصرار .
    لا تصر ، بل اعترف وقر ، فإن طعم الدواء مُر ، وسوف تجد ما يسر ولا يضر ، واحذر الشيطان فإنه يغر .
    اطرق الباب فإنا فاتحون
    لا تغيرك على الصحب الظنون

    الاعتراف بالاقتراف ، طبيعة الأشراف ، قف بالباب ، وقل : أذنبنا ، وطف بتلك الديار وقل : تبنا ، وارفع يديك وقل : أنبنا ،  أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ  ، سبحان من يغفر الذنب لمن أخطأ ، ويقبل التوبة ممن أبطأ .
    التوبة تَجُبُّ ما قبلها ، وتعم بركتها أهلها . يقول عليه الصلاة والسلام (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) ، وهذا قول يجب أن نقبله ، فهنيئاً لمن تاب وأناب ، قبل أن يغلق الباب . التائب سريع الرجعة ، غزير الدمعة ، منكسر الفؤاد ، لرب العباد ، دائم الإنصات ، كثير الإخبات .
    للتائب فرحتان ودمعتان وبسمتان .
    فرحة يوم ترك الذنب ، والأخرى إذا لقي الرب ، ودمعة إذا ذكر ما مضى ، والثانية إذا تأمل كيف ذهب عمره وانقضى ، وبسمة يوم ذكر فضل الله عليه بالتوبة ، وهي أجلّ نعمة ، والأخرى يوم صرف عنه الذنب وهو أفظع نقمة .
    بشرى لمن عفّر جبينه ، وأشعل في قلبه أنينه ، وأضرم بالشوق حنينه ،التائب تبدل سيئاته حسنات ، لأن ما فات مات ، والصالحات تمحو الخطيئات .
    للتوبة أسرار ، ولأصحابها أخبار ، فالتائب يزول عنه تصيد المعائب ، وطلب المثالب ، لأنه ذاق مرارة ما تقدّم ، فهو دائماً يتندّم ، وهو يفتح باب المعاذير ، لمن وقع في المحاذير ، ولا يفعل فعل المعجب المنّان ، الذي قال : والله لا يغفر الله لفلان ، بل يستغفر لمن أساء من العباد ، ويطلب الهداية لأهل الفساد ، والتائب يطالع حكمة الرب ، في تقدير الذنب ، وأنه لا حول للعبد ولا قوّة ، في منع نفسه من الوقوع في تلك الهوّة ، فالله غالب على أمره ، بعزته وقهره ، والتائب ذهبت عن نفسه صولة الطاعات ، والدعاوى الطويلات ، والتبجح على أهل المعاصي ، وأصبح ذليلاً لمن أخذ بالنواصي ، فإن بعض الناس إذا لم يقع في زلّة ، ولم يذق طعم الذلة ، جمحت به نفسه الأمّارة ، حتى جاوز أطواره ، فكلما ذكر له عاص تأفّف ، وكلما سمع بمذنب تأسّف ، وكأنه عبد معصوم ، في حياته غير ملوم ، يحاسب الناس على زلاتهم ، ويأخذ بعثراتهم ، فإذا أراد الله تقويمه ، ليسلك الطريق المستقيمة ، ابتلاه بذنب لينكسر لربه ، وأراه ضعف قوته فيعترف بذنبه، فيصبح يدعو للمذنبين ، ويحب التائبين ، ويبغض المتكبرين .
    ومنها أن كأس الندم يتجرعه جرعة جرعه ، مع انحدار دموع الأسف دمعة دمعه، حينها ينال الولاية ، ويدرك الرعاية ، لأنه عرف سر العبودية ، ودخل باب الشريعة المحمديّة ، فإن ذل العبد مقصود ، وتواضعه محمود ، لصاحب الكبرياء المعبود .
    ومنها أنه يشتغل بالاستغفار ، عن الاستكبار ، فهو دائم الفكر في تقصيره ، مشتغلاً به عن غروره ، لأن بعض الناس لا يرى إلا إحسانه ، ولا يشاهد إلا صلاحه وإيمانه ، حتى كأنه يَمنّ على مولاه ، بطاعته وتقواه ، بخلاف من طار من خوف العاقبة لبه ، وتشعب بالندم قلبه ، فهو كثير الحسرات ، على ما مضى وفات ، وهذا هو حال من عرف العبادة ، وسلك طريق السعادة .
    واعلم أن لوم النفس على التقصير ، والنظر إليها بعين التحقير ، والإزراء عليها في جانب مولاها ، وعدم الرضا عنها لما فعله هواها ، يقطع من مسافات السير ، إلى اللطيف الخبير ، ما لا يقطعه الصيام ولا القيام ، ولا الطواف بالبيت الحرام ، فهنيئاً لمن على ذنبه يتحرق ، وقلبه يكاد من الأسف يتمزّق ، ودمعه على ما فرّط يترقرق .
    وقفنا على الأبواب نزجي دموعنا
    ونبعث شوقاً طالما ضج صاحبه

    أجمل الكلمات ، وأحسن العبارات ، لدى رب الأرض والسموات ، قول العبد : يا رب أذنبتُ ، يا رب أسأتُ ، يا رب أخطأتُ ، فيكون الجواب منه سبحانه : عبدي قد غفرت وسامحت ، وسترت وصفحت .
    إن الملوك إذا شابت عبيدهمو
    وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً
    في رقهم عتقوهم عتق أبرار
    قد شبت في الرق فاعتقني من النار

    عفّر الجبين بالطين ، وناد : يا رب العالمين ، تبنا مع التائبين ، اغسل الكبائر بسبع غرفات من ماء الدموع وعفرها الثامنة بتراب المتاب ، فهذا فعل من أناب ، حتى يفتح لك الباب . تأوّه المذنبين التائبين ، أحب من تسبيح المعجبين ، من قضى ليله وهو نائم ، وأصبح وهو نادم ، أحب ممن قضاه وهو مسبّح مكبّر ، وأصبح وهو معجب متكبّر .
    إذا أردت القدوم عليه ، توسل برحمته وفضله إليه ، ولا تمنن بطاعتك لديه، لا تيأس من فتح الباب ، ورفع الحجاب ، فأدم الوقوف عنده ، واخطب وده ، فإن من قصده لن يرده ، ما أحوج الجيل ، إلى آخر ساعة من الليل ، لأنها ساعة الهبات ، والأعطيات والنفحات ، إمام الموحدين ، يقول :  وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ  ، فجعل غاية مناه ، أن تغفر خطاياه ، وأنت تُصِرّ ، ولا تُقِرّ ، وتحسو كأس الذنب وهو مُرّ ، فأفق من سبات اللهو ولا تكن من الغافلين ، وأكثر من  رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ  .

  4. #24
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة التاريـخـيــــة



     تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا 
    اقرأ التأريخ إذ فيه العبر
    وتأمل كيف أفنى ملكهم
    ضل قوم ليس يدرون الخبر
    من على الملك تولَّى وقهر

    قال أبو كثير ، جرير بن الأثير ، سلوني عن التاريخ ، فإني في علمه شيخ .
    قلنا : يا أبا كثير ، فضلك كبير ، فما هو التعليق ، على أحداث نذكرها لك بالتحقيق .
    قال : تقدموا وتكلموا .
    قلنا : مولد النبي محمد  .
    قال : مولد النور ، وإشراق السرور ، وهو فتح من الله على هذا الكون ، ونبأ عظيم ما سمع بمثله في حركة ولا سكون .
    قلنا : فهجرته إلى المدينة .
    قال : بداية الانطلاق ، وفجر الإشراق ، بها قامت الدولة ، وصار للإسلام جولة، وللحق صولة .
    قلنا : فغزوة بدر .
    قال : إثبات صدق الصحابة ، واجتثاث تلك العصابة ، وقطع الرؤوس الكذابة ، وجلال للدين ومهابة .
    قلنا : فوفاة الرسول  .
    قال : نزفت منها القلوب دما ، وامتلأت النفوس ألما ، وهي دليل على أن لا بقاء إلا للواحد ، وما مخلوق بهذه الدنيا خالد .
    قلنا : فمعركة القادسية .
    قال : مشهد من مشاهد الحق إذا هجم ، ونهاية ماحقة ساحقة لدولة العجم ، وأن من عادى الرحمن فليس له سلطان ، ولا أمان ولا صولجان .
    قلنا : فمعركة اليرموك .
    قال : فرار الروم كالبوم ، ولكل طاغية يوم معلوم ، وإن الدين أمضى سيف للمجاهدين .
    قلنا : فعين جالوت .
    قال : نهاية المغول ، ومأساة حظهم المغلول ، وجندهم المخذول ، على أيدي أتباع الرسول .
    قلنا : في حطين .
    قال : حطين ، تمريغ الباطل في الطين ، وهي يوم جلاء الصليب من فلسطين .
    قلنا : فموت خالد بن الوليد على الفراش .
    قال : دليل على أن الرجل درع حصين ، وموته مصيبة للموحدين ، وفرحة عابرة للكافرين ، وعيد للجبناء الفاشلين . وكأن القتل هاب من خالد ، فأتاه على غرة وهو قاعد .
    قلنا : ففتنة القول بخلق القرآن .
    قال : هي نتاج الفلسفة الشنعاء ، التي زاحم بها المأمون الشريعة الغراء ، ولكن الله نصر الحق وأتباعه ، وهزم الباطل وأشياعه .
    قلنا : أحسنت في هذا الحوار ، فحدثنا عن بعض ما ورد في التاريخ من الأخبار .
    • قال : لما ابتلى المأمون الناس بالمحنة ، قيض الله له بطل السنة ، فكان المأمون رأساً في علوم اليونان ، وأحمد رأساً في علوم السنة والقرآن .
    • أما رأيت الحجاج قتل ابن الزبير ، وذبح سعيد بن جبير ، ووضع إبراهيم التيمي في بير ، ثلاث عورات لكم .
    • قال فرعون ثلاث كلمات مهلكات ، يقول :  مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي  فدس أنفه في الطين ، و أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ  فأخرج منها وهو لعين ، و مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى  فأراهم سبيل الهالكين .
    • علي بن أبي طالب ، مرفوع بين الرافضة والنواصب ، لأنها لا تدخل على المرفوع النواصب .
    • يا لله العجب ، جولدا مائير امرأة ، هزمت رجال العرب ، كيف لو كانت رجلاً ذا شنب .
    • قال جميّل : سوف أبيد إسرائيل ، فألقى على اليمن البراميل ، قلنا : ضللت السبيل .
    • وقال صدام : سوف أحرق اليهود ، فأرسل إلى الكويت الجنود . قلنا : أسد عليّ وفي الحروب نعامة شرود .
    • يوم كانت تركيا تحكم بالشريعة السمحاء ، أرسلت للعالم الزعماء والعلماء والأدباء . فلما حكمت بمنهج الكافرين ، أرسلت للعالمين الحلاقين والراقصين والمغنيين.
    • أخذ العرب في فجر الإسلام قياد العالم ، فلما خفيت عليهم المعالم ، منوا بالهزائم .
    فنقل الله السلطان للأكراد ، لأنهم نصروا رب العباد ، فملّكهم البلاد .
    ثم أخذ الريادة السلاجقة ، وأمم لاحقة ، ثم انتقل مفتاح الأملاك ، إلى الأتراك ، فلما صاروا في ترف وانهماك ، سلب منهم المفتاح ، لأنه لا يحمله إلا من صدق في حي على الفلاح ، واعلم أن في هذا برهان ، على أن الإسلام لا يعترف بالألوان ، وليس لبلد خاص من البلدان . لكنه لكل من نصر الحق ، وأتى بالصدق .
    • أهدت لنا خراسان سلمان ، وأهدت صهيباً لنا الرومان ، فأهدى لهم رسولنا القرآن والإيمان .
    • الجيش إذا لم يصم رمضان ، يهزم في حزيران ، وجيش لا يؤمن بتعاليم جبريل ، لا ينتصر على إسرائيل .
    • التأريخ إن شئت جعلته شريفاً أو سخيفا ، فالتاريخ الشريف : تاريخ الفتوحات والانتصارات ، والنكبات والدروس المستفادات . والتاريخ السخيف : تاريخ القيان، وكيف كانت تضرب العيدان ، وخبر الجواري في قصر السلطان .
    • اشغلونا في التاريخ بأخبار سخيفة ، فقالوا : الجارية غضبت على الخليفة ، فأهداها قطيفة ، فعادت للوظيفة .
    • لابد أن يقرن التأريخ بالأثر ، ويُرَصَّع بالسير ، وتستفاد منه العبر .
    • تاريخ ابن خلدون مقدمة بلا كتاب ، لكنها عجب من العجاب . وتاريخ ابن الجوزي غرائب وعجائب ، كأنه لابد في كل قصة من مصائب . وتاريخ الطبري دقائق ، أشغلتنا عن الحقائق ، وتاريخ ابن كثير ، أحسن الجميع بلا نكير ، لكنّه طول في تراجم الشعراء ، وقصر في تراجم العلماء .
    • الذهبي يكتب بقلم السلف ، فتجده كثير النقد للخلف ، تخرج من مدرسة المحدّثين، فتراه يشن الغارة على الـمُحدَثِين .
    • العظمة في اتباع المعصوم ، لا في المناصب والرسوم ، والدليل على ما أقول ، أن دائرة المعارف البريطانية ، ترجمت بعشرين صفحة للدولة العباسية ، وترجمت لابن تيمية بأربعين صفحة ، لجهوده الإسلاميّة .
    • ألسنة البشر ، أقلام تكتب بها السير ، إذا ذكر عمر بن عبد العزيز قال الناس : رحمه الله ، وإذا ذكر الحاكم الفاطمي قال الناس : قاتله الله .
    • لما تولى بنو أمية الخلافة قالوا : سوف تبقى لنا دواما ، فما أكملوا ثمانين عاما . فلما تولى بنو العباس قالوا : سوف نحكم الأرض بالأثر والنظر ، حتى خروج المهدي المنتظر، فلم يبق الله لهم في الأرض مكانا ، كأنهم خبر كان .
    • من قرأ التاريخ هيجه على البكاء ، والاتساء ، والاقتداء . كم في التاريخ من زفرة ؟ وحسرة وعثرة ؟ لقد كان في قصصهم عبرة .

  5. #25
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19

    المقـامَــــة السُّـلطانيَّـــة




     الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ 
    جانب السلطان واحذر بطشه
    لا تمازح أسداً في غابة
    لا تعاند من إذا قال فعل
    وترفق عند أرباب الدول

    قال عليُّ بن عمران : اعلموا أن السلطان ، ظل الله في الأوطان ،بهيبته تحفظ البلاد وتسعد العباد ، وبعدله تأمن الآفاق ، وتقام الأسواق ، وبسيفه تنصر الملّة ، وترفع الذلّة .
    أما الظلوم الغشوم ، فمجده مهدوم ، وسيفه مثلوم ، وجنده مهزوم . اسمعوا ابن خلدون ، لعلكم تعتبرون . إن السلطان إذا عدل ، شفيت بعدله العلل ، وزال الخلل ، وذهب الزلل ، ونصر الله دولته بين الدول . أما إذا السلطان جار ، ألزمه الله الصغار ، وألبسه العار ، وسلط عليه الدمار ، وجعل مصيره النار .
    قلنا يا ابن عمران : وكيف يكون العلماء مع السلطان ؟
    قال : لا تقابل السلطان بالقوة ، فيلقيك في هوّة ، وكما قالت العرب في الكتب : لا تمازح الأسد ، فإنه أبو لبد . فالعالم لا يخالط السلطان حتى كأنه حاجب ، أو كاتب ، أو حاسب ، لأن الصاحب ساحب ، بل ينصحه من بعيد ، ويزوره كل عيد ،ويدعو له بالتسديد . ولا ينصحه أمام العوام ، لأنهم هوام ، أصحاب طوام ، بل يداريه ولا يماريه، وينكر عليه ولا يجاريه . ويكلمه كلاما بيِّنا ، ويقول له : قولا ليِّنا .
    قلنا : فإن أعطاه السلطان مالا ، وقال يأخذه حلالا ، ويصلح به حالا .
    قال : إن كان هذا المال ليشتري به دينه ، من أجل أن يذله ويهينه ، فالمنيّة ولا الدنية ، وركوب الجنائز ، ولا قبول الجوائز . وإن كان هذا العطاء من بيت المال بلا سؤال ، ولا مكر واحتيال ، فرزق ساقه الله إليك ، سواء كان بنقد أو بشيك ، فهو لك لا عليك .

    قلت : فما رأيك في الخروج على السلطان ؟
    قال : لا تفعل إلا إذا رأيت كفراً عندك فيه من الله برهان .
    قلت : فإن حرمني وشتمني وظلمني ؟
    قال : حسيبك الملك الديان ، يوم يوضع الميزان ، ويظهر البهتان .
    قلت : فماذا يجعل السلطان من الصلحاء ويحمله على نهج الخلفاء الأوفياء ؟
    قال : إذا شاور العلماء ، وخالف السفهاء ، وجالس الحكماء ، وصاحب الحلماء .
    قلت : يا ابن عمران فماذا يفسد السلطان ؟
    قال : الاشتغال عن الرعية ، والجور في القضية ، وعدم الحكم بالسويّة .
    قلت : فماذا يلزم السلطان حتى يعان ؟
    قال : تنفيذ الحدود ، وتقوية الجنود ، والوفاء بالوعود ، والالتزام بالعهود ، وإكرام الوفود .
    قلت : فماذا يجب للسلطان على الرعية ، من الواجبات الشرعية ، والحقوق المرعية ؟
    قال : الدعاء له بظهر الغيب ، ولا ينشر ما فيه من عيب ، وطاعته إلا في الحرام ، والنصح له في توقير واحترام .
    قلت : أخبرنا بما في سيرة الحكام من العبر ، وما ورد فيها من أثر ، فإن الله ينفع بالسير ؟
    قال : انظروا ما ذكره الله في القرآن ، وما سطره في التأريخ والأعيان .
    قلت : لماذا فسد الحجّـاج ، ووثب على الأمة وهاج ؟
    قال : الرجل بالله مغرور ، غره المدح والظهور ، فأخذ يظلم ويجور .
    قلت : فمن جُلاسـه ؟
    قال : هم ما بين عامّي عري عن العلم ، محروم من الفهم ، أو فاجر مات قلبه ، وتبلد لبه .
    قلت : ولماذا فسد الخليفة الأمين ؟
    قال : أقبل على اللعب ، واشتغل بالطرب ، وأهان أهل الحسب ، وقرب الوشب .
    قلت : فلماذا أيد الله عمر بن عبد العزيز ، وجعله في حرز حريز ؟
    قال : الرجل اتقى ربه ، وخاف ذنبه ، وأصلح ما بينه وبين الديان ، فعمّر الله به البلدان . ركب سفينة السنة ، فأوصلته الجنة .
    قلت : فأخبرنا بصفات تصلح السلطان ، وتوصله الرضوان ؟
    قال : عليه بصدق الصدِّيق ، وعدل الفاروق ، وسخاء عثمان ، وشجاعة عليّ إذا التقى الجمعان .
    قلت : فمن أحق الناس بإكرام السلطان ؟
    قال : عالم عامل ، وعابد فاضل ، وشيخ كبير ذابل .
    قلت : فمن أحق الناس بعقوبة السلطان ؟
    قال : السفهاء ، الذين يحتقرون العلماء ، والمجاهرون بالمعاصي صباحاً مساء . ومن يأخذ حقوق العباد بالاعتداء .
    قلت : فلماذا أحب الناس الخلفاء الراشدين ؟
    قال : لأنهم كانوا صادقين ، وبربهم واثقين ، وبرعيتهم رفيقين .
    قلت : فلماذا سقطت الدولة الأموية ، وقد كانت قوية ؟
    قال : أخّر القوم الصلاة ، وأكرموا العصاة ، وجاروا في الأحكام ، فانقلبت بهم الأيام .
    قلت : فلماذا سقط بنو العباس ، وقد كانوا أهل نجدة وبأس ؟
    قال : هجر القوم المثاني ، واشتغلوا بالأغاني ، وملأوا القصور بالغواني ، وغرتهم الأماني .
    قلت : فلماذا سقطت الدولة العثمانية ؟
    قال : قربوا الصوفية ، وحاربوا الدعوة السلفية ، وأهانوا الرعية ، واشتغلوا بالملذات الدنيوية ، وأهملوا الشعائر الدينية .
    قلت : فما معنى كلام ابن تيمية : إن الله ينصر الدولة الكافرة ، إذا كانت عادلة ويمحق الدولة المسلمة ، إذا كانت ظالمة ؟
    قال : هذا كلام صحيح ، وفهم مليح . فالدول إذا عدلت قرّت ، واستقرت ، وأعطاها الله الأمان ، من روعات الزمان ، ومن مصائب الحدثان . وإذا ظلمت محقت وسحقت ، وتمزّقت وتفرّقت . وهذه سنة ماضية ، وحكمة قاضية .
    قلت : ولماذا قال عمر على المنبر يوم صاح بطنه من الجوع وقرقر : قرقر أو لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع الفقير المقتر ، والشيخ المعسر ؟
    قال : عمر إمام العدالة ، شرح الله بالعدل باله ، صدق الله فأصلح أحواله ، وجعل التقوى سرباله . فسيرة عمر تخوف الظالمين ، وترهب الآثمين ، وهي قصة بديعة في العالمين .
    قلت : ما رأيت الظالم طال عمره ، ولا حماه قصره ، ولا ارتفع قدره .
    قال : أما تدري أن الله أخرج كل ظالم من قصره وجره ، وقطع دابره بالمـرة ، واستنـزله من برجه العاجي كأنه هرة .
    قلت : مثل ماذا يا هذا ؟
    قال : عجباً لك أما تعي ، وأنت بالعلم تدعي . أما أهلك فرعون وخرب داره ، وترك قصوره منهارة ، ودس أنفه في الطين كأنه فارة .
    أما رأيت شاوشيسكوا رئيس رومانيا المهين ، مزقه شعبه وهو لعين ، سحبوه في الشارع كأنه تنين ، فما كان له من فئة ينصرونه وما كان من المنتصرين .
    أما رأيت شاه إيران ، السفيه الغلطان ، الذي كان بكأس الظلم سكران ،أكثر من السلب والنهب ، والضرب والصلب ، فطرده شعبه كالكلب . فمات في مصر مع فرعون ، وكتب في التاريخ الشاه الملعون .
    أما رأيت ماركوس رئيس الفلبين ، أحد الظلمة الكاذبين ، أذاق قومه الويلات ، وأسقاهم كأس النكبات ، فمال عليه قومه ميلة واحده ، فإذا دولته بائدة ، فصار في العالم طريدا ، وأصبح في الأرض شريدا .
    قلت : أرشدتني أنار الله فكرك ، وأعلا ذكرك ، وقد حملت شكرك

  6. #26
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الجـامعـيَّـــة



     وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا 
    اطلب العلم وحصّله فمن
    لا تقل قد ذهبت أربابه
    يعرف المقصود يحقر ما بذل
    كل من سار على الدرب وصل

    بكى زميلي في الجامعة عمرو بن كُلثوم ، كأنه أكل الثوم ، فلما رأيت الدمع ملأ عيونه ، تذكرت قول الشاعر : بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه .
    فقلت : ما لعينك دامعة . قال : من كثرة العناء في الجامعة .
    قلت : من صبر ظفر ، ومن ثبت نبت . فقال زميلي عمرو ، وكأن في قلبه جمر : حدثنا عن دراستك في كلية أصول الدين ، فإني لك بالنصح مدين .
    قلت : كنت أدرس في أبها ، والعلم عندي من الشهد أشهى ،لا أخرج من الحارة، من البيت إلى المنارة ، وقليلاً ما أركب السيارة . كانت الكتب أغلى عندي من الذهب، فإذا تفردت بكتاب ، نسيت الأصحاب والأحباب .
    كنت أصلي الفجر ، ثم أجلس في مصلاي لطلب الأجر ، فإذا داعبني النعاس ، قلت : لا مساس ، فإذا غدا الطير من وكره وطار ، وقضيت وجبة الإفطار ، ذهبت إلى الكلية ، ونسيت الدنيا بالكلية .
    وكأن زملائي أهل جد وجلد ، والكل منهم مثابر مجتهد . ذكرونا بالصحب الأول ، وكانوا من سبع دول ، اثنان من السعودية ، أخلاقهم ندية ، وصداقتهم ودية ، وآمالهم وردية . وأربعة من اليمن ، تشتري صحبتهم بأغلى ثمن ، وأعدّها عليّ من أحسن المنن ، وواحد من أوغندا ، يهد الدروس هدا ، كأنه ليث إذا تبدا ، وطالبان من السودان أعذب من الماء عند الظمآن ، وطالب من دولة بنين ، قوي أمين ، ومن نيجيريا أربعة طلاب ، يكرمون الأصحاب ، ويتحفون الأحباب ، وواحد من الصومال ، من خير الرجال ، مع صبر واحتمال . فإن اختلفنا في الديار ، فنحن إخوة في شريعة المختار .
    فاجتمع في الفصل اللسان ، والألوان ، واللّغات ، واللهجات ، من كل الجهات . فصرت أنا بينهم كسحبان وائل ، ولو أنني أعيا من باقل . فكنا في أحسن زمالة ، لا سآمة ولا ملالة ، ودرّسنا أساتذة ، بعضهم جهابذة ، فكان منهم من يحضر وينظرّ ، ويأتي الفصل وهو مبكر .

    تخاله من ذكاء القلب متقداً

    ومن تلهبه في العلم نشوانا

    ومنهم من كان يقرأ علينا من صحف اكتتبها ، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلا ، فكان يرتل علينا المقرر ترتيلا . وربما تعب فقال لنا : ضعوا تحت هذه الكلمة خط ، ولا يزيد على ذلك قط .
    ومنهم من كان يأخذ ثلث المحاضرة في تحضير الطلاب ، من حضر ومن غاب ، وربما دلسنا عليه الغياب ، وهو لا يدري بدهاة الأفارقة والأعراب . ويأخذ ثلثها الثاني في تعريفنا بشخصه العظيم ، وما حصل له من تكريم ، فهو يردد علينا هذا الحديث السقيم .
    وأما ثلثها الأخير فيشرح لنا المقرّر ، وقد تبلد ذهن كل منا وتحجّر ،مما سمعناه من الحديث المعطر .
    ومنهم من شكانا وشاكيناه ، وأبكانا وأبكيناه ، فمرة يشكونا للعميد ، فنسمع الوعيد والتهديد ، فنسخر ونقول : الحمد لله على السلامة ، أسد عليّ وفي الحروب نعامة ، وربما كتبنا فيه خطابا ، فيملؤنا سبابا ، ويقول : لن أخاف من كيدكم ولا أقلق ، كما قال الأول : زعم الفرزدق .
    ومنهم من عجب من إجابتي ، وكثرة إصابتي ، وأقسم لو جاز أن يعطى فوق الدرجة لأعطاها ، ولا يخاف عقباها ، فأجد الامتعاض من الزملاء ، ثم نعود إلى جو الإخاء . وقد نظمت في الأساتذة بعض الأبيات ، فيقول الزملاء : بهذه الطريقة نلت الدرجات ، فيهمزون ويلمزون ، وإذا مرّوا بنا يتغامزون . وربما أطلقت في الفصل النكات ، فيهتز الفصل من الضحكات .
    أذكر مرّة ، كانت لحظة مسرة ، أن أحد الدكاترة ، وكانت أذهاننا معه فاترة ، قال لنا : إن الغزالي صاحب الأحياء مات والبخاري على صدره ، يقصد كتاب الصحيح، فقلت بلا استحياء : هذا أمر عجيب ، وخبر غريب ، لأن البخاري مات في القرن الثالث ، والغزالي في القرن السادس ، فكيف يكون البخاري على صدر الغزالي .
    فقال الأستاذ : أنت قد بلبلت بالي ، قلت : قصيدة البلبلة لصفي الدين الحلي وهي مهلهلة . ثم أنشدتها بدون استئذان ، حتى أدخلتها الآذان ، ومطلعها :

    يا بلي البال قد بلبلتُ بالبلبال بالي

    بالنوى زلزلتين والقلب بالزلزال زالا

    فقال الأستاذ وقد تميز من الغيظ : زدنا يا عائض من هذا الفيض .
    فأنشدت :
    فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشى

    قلاقل عيس كلهن قلاقل

    والطلاب في ضحكهم هائمون . ثم قلت للأستاذ : سامحني يا علم الأفذاذ ، فقد تذكرت بيت الأعشى :
    وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني

    شاوٍ مِشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شَوِل

    وشجعني أن بضاعته من العلم مزجاة ، فقلت : أزجي الوقت كما أزجاه ، وإذا ذهب العلم فليذهب الجاه .
    وكنت أستأذن بعضهم في أول كل محاضرة ، ووجوه الطلاب يومئذٍ ناظرة ، فأنظم أرجوزة ، أبياتها مهزوزة ، فيتركني الأستاذ ولسان حاله يقول : دعوه على حاله ، فالله هو الذي يهب العقول . ولا أفعل هذا إلا مع أستاذ هو كلّ على مولاه ، فأريد أن أجازيه على ما أولاه .
    ومرة ذهبنا في رحلة برية ، فجعلوني رائد السريّة ، فانذهل مني المدرب وتعجب ، واستغرب وتعذب ، فلم أظهر له أنني عنيد ، بل جعلت نفسي كأنني أبله بليد ، فإن صاح فينا : استعد استرحت ، وإن قال : استرح استعديت ، وإذا قال : إلى الأمام سر ، رجعت إلى الورى ، وإذا قال : إلى الخلف در مشيت إلى الأمام ، وإذا طلب منا العد بالأرقام ، قفزت عشرين رقماً للأمام ، فإن كان رقمي عشرة قلت : ثلاثون ، والناس يضحكون ، والكل مرتاحون ، إلا المدرب فقد جف ريقه ، وظهر حريقه .
    وربما تساجلنا في بعض الأمسيات ، فأنظم في الحال الأبيات ، وليس هذا والله من المبالغات .
    وربما أنشد بعضهم نصف بيت سابق ، فأكمله من عندي :
    نحن الذين صبحوا الصباحا

    فقلت :
    وقد أكلنا الموز والتفاحا

    وقال آخر :
    حتى إذا جن الظلام واختلط

    فقلت :
    سمعت صوت القط من بين القطط

    وكان أستاذٌ يلحن في العربية ، فكنت أقول :
    واللحن عند شيخنا يجوز

    كقولهم مررت بالعجوزُ

    وأنشدنا أستاذ الأدب بيت صفي الدين الحلّي
    سل الرماح العوالي عن معالينا

    واستشهد البِيض هل خاب الرجا فينا

    فذكرت حالنا المعاصر ، فقلت :
    سل الصحون التباسي عن معالينا

    واستشهد الرُّزّ هل خاب الرجا فينا

    وأرادوا في الكلية التشجيع ، فجعلوني الطالب المثالي في الحفل الختامي الوسيع ، فجئت لآخذ الجائزة ، والنفس بالفرح فائزة ، فكان العميد يناول الجائزة المسئول ، والمسئول بدوره يناولها الطالب المقبول ، فأخذت الجائزة من العميد في استعجال ، وسلمتها المسئول في ارتجال ، فضجت بالضحك القاعة ، لأنها حركة ملفتة خَدَّاعة .
    وفي المرحلة الجامعية ، كانت زمن الهمة الألمعية ، والعزيمة اللوذعية ، فقد أعانني الرحمن ، على حفظ القرآن ، وجودته على الشيخ الرباني ، عبيد الله الأفغاني ، وحفظت بعض المتون ، في بعض الفنون ، أما القراءة والمطالعة ، فكانت شمسها ساطعة ، فلم يكن لي غير المطالعة عمل ، وهي أحسن قوة لدي وأقصى أمل ، فإذا خلوت بالكتاب ، فقد اجتمع عندي أفضل الأصحاب ، وأحب الأحباب ، حينها لا يعادله عندي روضة خضراء ولا حديقة فيحاء ، فالكتاب أشرف صاحب على الدوام ، وخير جليس في الأنام ، وكنت أتعجب ممن لا يطالع ، أو يقضي وقته في الشارع . وقد أقبلت على علم الحديث بانكباب ، وقبل ذلك كنت منهمكاً في الآداب .
    أما المقرر فلم أذاكره إلا وقت الامتحان ، لأنني أراه أقل من أن يصرف له كل الزمان . وفترة الجامعة ، كانت أخصب فترة عندي لحضور المخيّمات ، والرحلات والأمسيات ، ونظم المقطوعات والأرجوزات ، وما تأثرت في تلك الأيام ، بأستاذ ولا شيخ ولا إمام ، كتأثري بزميلين ، ماجدين ، عابدين ، صادقين .
    أحدهما : النيجيري عبد الرشيد ، وكان عندي من أصدق من رأيت في عبادة الحميد المجيد ، كثير قيام الليل ، بعيد عن القال والقيل ، لا تراه إلا ذاكراً ، أو مذاكرا ، أو شاكرا ، له أذكار وأوراد ، وهو عليها معتاد ، وقد رزقه الله بسطة في الجسم ، وحباً للعلم . وأخبرني بأن جدته دعته إلى العبادة ، حتى صار قيام الليل له عادة .
    والثاني : سراج الرحمن ، من باكستان ، وقد ملأ الله قلبه بالإيمان ، أكثر نهاره صامت ، وبالليل قانت ، متواضع ، خاشع ، طائع ، مضرب المثل في النبل والفضل .
    وكان لي زميل إفريقي درس في باريس ، فكان يلقي الشبه على هيئة التدريس ، وكان مبغضا للعرب ، فلقينا منه العجب ، فكان إذا أورد شبهة انتفض ، وأقوم وأعترض، فربما غضب وأزبد ، وأرعد وتهدد ، فيغضب لي كل الفصل لأنه متطاول متوعد ، وهو مفتون بحب فرنسا ، حب لا ينسى ، وقد أغضبنا بالسفه والطيش ، ولكننا نغصنا عليه العيش . ولما تخرجنا من الكلية ، كانت النتيجة حصلتُ على الأولية ، ومع الامتياز هدية، وألقيت قصيدة عربية منها :


    أيها الخريج يا نجم العلا

    يا شعاع الأمل المرتقب

    قل هو الرحمن آمنا به

    واتبعنا هادياً من يثرب

    من بلادي يطلب العلم ولا

    يطلب العلم من الغرب الغبي

    وبها مهبط وحي الله بل

    أرسل الله بها خير نبي

    فلما انتهيت من القصة ، قلت لزميلي عمرو ، هذا كل ما في الأمر .
    ولك مني الدعاء والشكر .

  7. #27
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـشيطـانيـــة



     إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ 
    هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها
    ما بال أشيب يستهويه شيطان

    قال عبد الله بن آدم : حاورت الشيطان الرجيم ، في الليل البهيم ، فلما سمعت أذان الفجر أردت الذهاب إلى المسجد ، فقال لي : عليك ليل طويل فارقد .
    قلت : أخاف أن تفوتني الفريضة .
    قال : الأوقات طويلة عريضة .
    قلت أخشى ذهاب صلاة الجماعة .
    قال : لا تشدد على نفسَك في الطاعة .
    فما قمت حتى طلعت الشمس . فقال لي في همس : لا تأسف على ما فات ، فاليوم كله أوقات . وجلست لآتي بالأذكار ، ففتح لي دفتر الأفكار .
    فقلت : أشغلتني عن الدعاء . قال : دعه إلى المساء .
    وعزمت على المتاب . فقال : تمتع بالشباب .
    قلت : أخشى الموت . قال : عمرك لا يفوت .
    وجئت لأحفظ المثاني ، قال : رَوّح نفسك بالأغاني .
    قلت : هي حرام . قال : لبعض العلماء كلام .
    قلت : أحاديث التحريم عندي في صحيفة . قال : كلها ضعيفة .
    ومرت حسناء فغضضت البصر ، قال : ماذا في النظر ؟
    قلت : فيه خطر . قال : تفكر في الجمال ، فالتفكر حلال .
    وذهبت إلى البيت العتيق ، فوقف لي في الطريق ، فقال : ما سبب هذه السفرة ؟
    قلت : لآخذ عمرة .
    فقال : ركبت الأخطار ، بسبب هذا الاعتمار ، وأبواب الخير كثيرة ، والحسنات غزيرة .
    قلت : لابد من إصلاح الأحوال .
    قال : الجنة لا تدخل بالأعمال . فلما ذهبت لألقي نصيحة ، قال : لا تجر إلى نفسك فضيحة .
    قلت : هذا نفع للعباد . فقال : أخشى عليك من الشهرة وهي رأس الفساد .
    قلت : فما رأيك في بعض الأشخاص ؟ قال : أجيبك عن العام والخاص .
    قلت : أحمد بن حنبل ؟ قال : قتلني بقوله : عليكم بالسنة ، والقرآن المنـزل .
    قلت : فابن تيميـة ؟ قال : ضرباته على رأسي باليومية .
    قلت : فالبخـاري ؟ قال : أحرَق بكتابه داري .
    قلت : فالحجـاج ؟
    قال : ليت في الناس ألف حجاج ، فلنا بسيرته ابتهاج ، ونهجه لنا علاج .
    قلت : ففرعـون ؟ قال : له منا كل نصر وعون .
    قلت : فصلاح الدين ، بطل حطين ؟ قال : دعه فقد مرّغنا بالطين .
    قلت : محمد بن عبد الوهاب ؟
    قال : أشعل في صدري بدعوته الالتهاب ، وأحرقني بكل شهاب .
    قلت : فأبو جهـل ؟ قال : نحن له إخوة وأهل .
    قلت : فأبو لهـب ؟ قال : نحن معه أينما ذهب .
    قلت : فلينين ؟ قال : ربطناه في النار مع استالين .
    قلت : فالمجلات الخليعـة ؟ قال : هي لنا شريعة .
    قلت : فالـدشـوش ؟ قال : نجعل الناس بها كالوحوش .
    قلت : فالمقاهــي ؟ قال : نرحب فيها بكل لاهي .
    قلت : ما هو ذكركم ؟ قال : الأغانـي .
    قلت : وعملكـم ؟ قال : الأمانـي .
    قلت : وما رأيكم في الأسـواق ؟ قال : علمنا بها خفّاق ، وفيها يجتمع الرفاق .
    قلت : فحزب البعث الاشتراكي ؟
    قال : قاسمته أملاكي ، وعلمته أورادي وأنساكي .
    قلت : كيف تضل الناس ؟
    قال : بالشهوات والشبهات والملهيات والأمنيات والأغنيات .
    قلت : وكيف تضل الحكام ؟
    قال : بالتعطش للدماء ، وإهانة العلماء ، ورد نصح الحكماء ، وتصديق السفهاء .
    قلت : فكيف تضل النساء ؟
    قال : بالتبرج والسفور ، وترك المأمور ، وارتكاب المحظور .
    قلت : فكيف تضل العلماء ؟
    قال : بحب الظهور ، والعجب والغرور ، وحسد يملأ الصدور .
    قلت : فيكف تضل العامّـة ؟
    قال : بالغيبة والنميمة ، والأحاديث السقيمة ، وما ليس له قيمة .
    قلت : فكيف تضل التجّـار ؟
    قال : بالربا في المعاملات ، ومنع الصدقات ، والإسراف في النفقات .
    قلت : فيكف تضل الشباب ؟
    قال : بالغزل والهيام ، والعشق والغرام ، والاستخفاف بالأحكام ، وفعل الحرام .
    قلت : فما رأيك في إسرائيل ؟
    قال : إياك والغيبة ، فإنها مصيبة ، وإسرائيل دولة حبيبة ، ومن القلب قريبة .
    قلت : فالجاحظ ؟ قال : الرجل بين بين ، أمره لا يستبين ، كما في البيان والتبيين.
    قلت : فأبو نواس ؟ قال : على العين وعلى الرأس ، لنا من شعره اقتباس .
    قلت : فأهل الحداثـة ؟ قال : أخذوا علمهم منا بالوراثة .
    قلت : فالعلمانيــة ؟
    قال : إيماننا علماني ، وهم أهل الدجل والأماني ، ومن سمّاهم فقد سماني .
    قلت : فما تقول في واشنطن ؟
    قال : خطيـبي فيها يرطن ، وجيشي بها يقطن ، وهي لي موطن .
    قلت : فما تقول في صَـدَّام ؟
    فهتف يقول : بالروح والدم نفديك يا صدام ، يسلم أبو عدي على الدوام .
    قلت : فما رأيك في الدعاة ؟
    قال : عذبوني وأتعبوني وبهدلوني وشيبوني يهدمون ما بنيتُ ، ويقرؤون إذا غنيتُ ، ويستعيذون إذا أتيتُ .
    قلت : فما تقول في الصحف ؟
    قال : نضيع بها أوقات الخلف ، ونذهب بها أعمار أهل الترف ، ونأخذ بها الأموال مع الأسف .
    قلت فما تقول في هيئـة الإذاعـة البريطانيـة ؟
    قال : ندخل بها السم في الدسم ، ونقاتل بها بين العرب والعجم ، ونثني بها على المظلوم ومن ظلم .
    قلت : فماذا فعلتَ بالغـراب ؟
    قال : سلطته على أخيه فقتله ودفنه في التراب ، حتى غاب .
    قلت : فما فعلتَ بقـارون ؟
    قال : قلت له : احفظ الكنوز ، يا ابن العجوز ، لتفوز ، فأنت أحد الرموز .
    قلت : فماذا قلتَ لفرعـون ؟
    قال : قلت له : يا عظيم القصر ، قل : أليس لي ملك مصر ، فسوف يأتيك النصر.
    قلت : فماذا قلتَ لشارب الخمر ؟
    قال : قلت له : اشرب بنت الكروم ، فإنها تذهب الهموم ، وتزيل الغموم ، وباب التوبة معلوم .
    قلت : فماذا يقتلك ؟
    قال : آية الكرسي ، منها تضيق نفسي ، ويطول حبسي ، وفي كل بلاء أمسي .
    قلت : فمن أحب الناس إليك ؟
    قال : المغنّون ، والشعراء الغاوون ، وأهل المعاصي والمجون ، وكل خبيث مفتون .
    قلت : فمن أبغض الناس إليك ؟
    قال : أهل المساجد ، وكل راكع وساجد ، وزاهد عابد ، وكل مجاهد .
    قلت : أعوذ بالله منك ، فاختفى وغاب ، كأنما ساخ في التراب ، وهذا جزاء الكذاب .

  8. #28
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الأبــويَّـــــة



     يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى
    مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ 
    يا كوكباً ما كان أقصر عمره
    جاورت أعدائي وجاور ربه
    وكذا تكون كواكب الأسحار
    شتان بين جواره وجوار

    هذه المقامة ، لأبنائي وصية ، وهي أعظم هديَّة ، وإنما العمل بالنية .
    اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فمن فعل ذلك فإن الله ظهيره ونصيره . وكل ما سمعتم حديثاً لصاحب الشفاعة ، فقولوا : سمعاً وطاعة .
    وأوصيكم ببر الآباء والأمهات ، وأنهاكم عن منعٍ وهات ، وتضييع الصلوات ، واتباع الشهوات . والله الله في تدبر المثاني ، وهجر الأغاني ، وترك الأماني .
    واعلموا أنها قامت عليكم الحجة ، وبانت المحجة . وأوصيكم بتوقير شعائر الدين ، فإنها تقوى رب العالمين . واستعدوا للرحيل ، إلى الملك الجليل ، فإنكم قادمون إليه عما قليل . وإذا سمعتم الأذان ، فأجيبوا داعي الرحمن ، فليس بعد الأذان أعمال ولا أشغال ، بل ذهاب إلى بيت ذي الجلال .
    وقد دعيتم فأجيبوا الداعي ، بقلب واعي ، فإني أخشى على من تهاون بتكبيرة الإحرام ، مع الإمام ، أن يحرم التوفيق على الدوام ، وأن لا يبلغه الله المرام .

    ولقد نصحت ولي تجارب جمة

    ولقِيت كل معلم مأمـون

    فإذا النعيم وكل ماجد زائل

    يفنى ويبقى سعيكم للدين

    واعلم أن من صحب الفسّاق ، ونقض الميثاق ، ابتلاه الله بالنفاق .ولا تقولوا نحن في عصر الصبا ، وكم من سيف نبا ، وجَواد كبا ، فهذا كلام من غره بالله الغرور ، حتى فاجأته قاصمة الظهور ، وطرح في القبور ، وتذكروا ليلة صبحها يوم القيامة ، فما أكثر الأسف فيها والندامة . وتذكروا أول ليلة في القبر ، فلا إله إلا الله ما أعظمه من أمر ، ليلة ليس فيها جليس ولا أنيس ، يرتجف لها القلب ، ويذهب من هولها اللب ، ليس معكم فيها صديق ولا رفيق . تخلى عنكم الأحباب وترككم الأصحاب ، وجردوكم من الثياب ، ووسدوكم التراب . الأموال بعدكم قسمت ، والبيوت سكنت ، والزوجات نكحت ، فأين قلوبكم والعقول ، ما لكم في ذهول ، وأنتم في نقول .
    فارقعوا بالاستغفار ما مزقته أيادي الذنوب الكبار . واغسلوا بدمع العيون غبار الذنوب ، وتولوا إلى علام القلوب ، وعليكم بالسكوت ، ولزوم البيوت ، والرضا بالقوت ، فإنه كاف لمن سيموت . والحرص على تكبيرة الإحرام ، وسلامة الصدور من الآثام ، وإطابة الطعام ، وحسن الخلق مع الأنام ، عربون صادق لدار السلام . وطهروا القلوب من الإحن ، وألزموا السنن ، وفروا من الفتن ، تجدون عونه عز وجل وقت المحن، مع إسباله عليكم ثوب المنن .
    وأشرف تاج تاج الديانة ، وثوب الصيانة ، والصدق والأمانة ، والوقار والرزانة . وثوب الرياء ثوب مخرق ، ورداء الكبر رداء ممزق . والعمل بالسُّـنَّة ، أقرب طرق إلى الجنة ، ومرافقة الأشرار ومصاحبة الفجار ، هي الخسار والبوار ، وهم الدعاة إلى النار ، ومن ألان كلامه ، ووصل أرحامه ، وبذل طعامه ، ونشر سلامه ، أكرم الله في الجنة مقامه . وويل لمن كان خصمه لسانه ، وأشهد على نفسه إخوانه ، واستشار في أمره شيطانه وأرخص للشهوات إيمانه . وخلوة بكتاب ، ودمعة في محراب ، وتواضع للأصحاب ، خير من القصور والقباب . وما أقبح ممن ناداه ربه إلى المسجد ، فتبلد وتردد ، ومن عود لسانه الذكر ، وقلبه الشكر ، وعقله الفكر ، وبدنه الصبر ، نال أعظم الأجر ، وحط عنه الوزر .
    وكل لباس يبلى إلا لباس التقوى ، ومن كان في دنياه شقياً ، بمخالفة مولاه فهو في الآخرة أشقى ، والمأسور من أسره هواه ، والمخذول من عصى مولاه ، والمفلس من خاب مسعاه . وعليكم يا أبنائي بالصبر على المصائب ، والتجلد للنوائب ، ومجانبة الغضب ، والإجمال في الطلب ، والإخلاص في الطاعة ، والزهد والقناعة .
    واعلموا أنه ليس معكم في شدائد الزمان ، غير الواحد الديَّان ، فلا يغرركم كلام الإخوان ، فإن الناس في وقت العافية أعوان ، واستنطقوا الذكر الحكيم ، واتبعوا الرسول الكريم ، وألزموا الصراط المستقيم .
    واعلموا أن للذنوب كَفّارات ، وإن الحسنات يذهبن السيئات ، وأنه لا أنفع من الصالحات ، ولا أضر من الموبقات . وللذنب من الله طالب ، وعلى الضمائر مراقب ، وللأعمال محاسب . واعلموا أن شرفكم صدق اللسان ، ونسبكم الإحسان ، وكنـزكم الإيمان . ولن ينقذكم من النار ، إلا طاعة العزيز الغفار ، واتباع المختار . واطلبوا الكفاف، واستتروا بالعفاف ، وخذوا وأعطوا الإنصاف ، فإن الحق كاف واف .
    واسلكوا من الطرق الوسط ، ودعوا الغلو والشطط ، والتهور والغلط . واسمعوا مني نصيحة . اعلموا أن الدنيا لا تساوي تسبيحة ، ولو كانت مليحة ، لجعلها الله لأوليائه مريحة . وصونوا أنفسكم من سؤال الناس ، واستغنوا عما في أيديهم باليأس . واطلبوا العلم فإنه أجل المطالب ، وأعظم المواهب ، وهو أرفع من المناصب ، وأكرم من كل المراتب . وزينته العمل ، وخوف الأجل ، والاعتصام بما نزل . والداء العضال معاداة الرجال ، ومن سالم الناس سلم ، ومن صمت غنم . والناس لا يطلبون منكم الأرزاق ، وإنما يطلبون جميل الأخلاق . وأوصيكم بالأذكار ، في طرفي النهار ، فإنها عبادة الأبرار. ولا تهجروا تلاوة القرآن كل يوم . فإنه دواء الهموم والغموم . وركعتان في السحر خير مما طلعت عليه الشمس والقمر ، ووقروا الكبير ، وارحموا الصغير .
    واحذروا أن يكون لسان أحدكم كالمقراض في الأعراض ، فإن هذا من ضعف البصيرة ، وخبث السيرة ، ورافقوا أهل الصلاح، وأحبوا أصحاب الفلاح، ولا تستصغروا شيئاً من المعاصي ، وراقبوا من يأخذ بالنواصي . وقسوة القلب يذيبها الندم ، والدمع المنسجم ، والأسف من الذنب المنصرم . ولا تتنعموا تنعم المترفين ، ولا تزروا بأنفسكم فعل الشحّاذين ، فإن المبالغة في الزينة للنساء ، والوقاحة للإماء ، والشره للسفهاء ، فكونوا أنتم العلماء الحكماء . وأدمنوا الاستغفار كل حين ، فإنه مفتاح رضى رب العالمين ، وهو قوة وتمكين ، وعلى كل كربة معين . ومن لم يراقب الحسيب ، ويردعه الشيب ، ويخاف العيب ، فليس له في الفضيلة نصيب . وويل لمن غرته دنياه ، وخدعه مناه ، وصرعه هواه . وطوبى لعبد إذا أنعم عليه شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا أذنب استغفر . وعليكم بتوقير الصحابة ، وحب القرابة ، مع لزوم مذهب السلف ، فهم أعلم وأحكم من الخلف . حفظكم الله بالدين ، وعصمكم من نزغات الشياطين .

  9. #29
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    المقـامَــــة الـصَّحفـيـــة



     يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا 
    طوى الجزيرة حتى جائني خبر
    حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
    فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
    شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

    قال سعيد بن شهاب ، كنت في الشباب ، أسكن في حارة العزاب ، فتعلمت الثقافة ، ودرست اللقافة ، وقلت : أعمل في الصحافة . فذهبت إلى السكرتير ، فقال : عليك بالمدير ، فذهبت إلى المدير ، قال : عليك بالوزير ، فذهبت إلى الوزير ، فقالوا : عفواً هو في اجتماع مع السفير ، فكاد قلبي أن يطير . فقالوا : ما عنك يا شاب ، وفقت للصواب .
    قلت : أريد أن أعمل لديكم مراسلاً للأخبار ، في بعض الديار .
    قال : لابد أن تنقل لنا المصائب ، والعجائب والغرائب . فلا نريد منك أن تقول: فلان حفظ القرآن ، وانتصر الأفغان ، وأعلن فوزهم الشيشان ،فهذا كلام مستهلك من زمان . نريدك تقول مثلاً : تحطمت طائرة اليابان ، وسقطت عمارة في لبنان ، وانفجرت قنبلة في اليونان ، وماتت نعجة في السودان ، وانكسرت رِجْل قطة في باكستان .
    وعليك بتهويل الخبر ، حتى يذاع وينشر ، فمثلاً إذا سقطت طائرة فقل : تناثر حطام الطائرة تناثراً عجيباً ، وخلف وراءه لهيباً ، وارتطمت بإحدى العمارات ، مما سبب كثيراً من الانفجارات .
    قلت : فإذا لم نجد الأخبار ، ماذا نكتب للقراء الأخيار ؟
    قال : من جد وجد ، وعليك بأخبار البلد ، فقل مثلاً : طلّق اليوم أبو سرور زوجته أم مستور ، لخلاف نشب بينهم قبل شهور ، بسبب غلاء المهور .
    وترقى أبو شريف ، إلى رتبة عريف ، بعد جهد عنيف ، وصبر منيف . وافتتحت اليوم بقالة ، في بلدة أبو عقالة ، صاحبها مبروك بن مرزوق ، خلف ظهرك إذا دخل السوق . وشاهد الناس اليوم شيئاً في السماء ، كأنه زخات ماء ، فشعروا بالخطر ، وإذا هو زخات مطر . وطارد أحد المواطنين فارة ، حتى أخرجها من الحارة ، فماتت عند الإشارة .
    وتخرج الطالب سليم بن هذلول ، من أول ابتدائي بتقدير مقبول .
    ورسب الطالب خلف بن عسعوس ، في سبعة دروس ، وخيرها في غيرها .وانتطح ثوران ، في بيت الجيران ، ومر على هذا الحادث شهران .
    قلت : فإن لم نجد أخبارا ، فهل تجد لنا أفكارا ؟
    قال : عليك بأخبار الطقس ، فإنها خفيفة على النفس ، فقل مثلاً : هبت رياح شرقية غربية ، متجهة إلى المنطقة الجنوبية ، أحياناً تثير غباراً ، وأحيانا لا تثير غباراً . ترتفع في المرتفعات ، وتنخفض في المنخفضات . والبحر يميل إلى الحمرة ، تعلوه عند الغروب صفرة . إذا هبت عليه الرياح هاج ، وإذا سكنت ماج .
    قلت : فإن لم أجد عن الطقس ما أقوله ، ولا أجد أخباراً منقولة ؟
    قال : عليك بالتاريخ ، ولو عن البطيخ .
    قلت : مثل ماذا ؟ قال : انقل لنا الأخبار الخفيفة ، الطريفة ، مثل : دخلت رمانة جارية هارون الرشيد ، وفي يدها عقد فريد ، فقال : ما هذا يا رمّانة ؟ قالت: هذا عقد أخذته من قهرمانه . قال : ومن قهرمانه ؟
    قالت : جارية مولاتي عبدانه . قال : ومن عبدانه ؟ قالت : هي التي تسكن في الزوراء ، ويعرفها الفقراء ، فتعجب الخليفة ، من ذكاء رمانة ، وخاطب إخوانه، وقال : يا غلام أعط رمانة ألف دينار ، واجعلها من أهل الدار .
    قلت : فإن لم أجد عن التأريخ ؟
    قال : عليك بعلم الآثار ، فإنه قرة الأبصار ، وفيه العظة والاعتبار .
    فحدثنا عن لجام بغلة ابن مقبول ، الذي وجد في استنبول ، أو الحذاء المرقع المدفون، في عهد المأمون ، أو عمامة أبي دلامة ، المدفونة في كنيسة القيامة ، أو عصا حماد الراوية ، التي كسرت في قرية الزاوية .
    قلت : فإن لم أجد ؟ قال : فحدثنا بما هبَّ ودبّْ عن الطبّْ . مثل أن تخبرنا بفوائد شحم الثعالب ، إذا أذيب في قوالب ، ثم مزجت به طحال أرنب ، مع مرقة فأر مركب ، ثم طليت بها الحذاء ، فإنها تشافي من داء الإعياء . أو خبر اكتشاف دواء ضد الموت ، في بئر هوت ، الذي اكتشفه دكتور برازيلي في الأرجنتين ، عثر عليه في بريطانيا بعدما وجده في إيطاليا ، وبحث عنه في ألبانيا ، وأجرى عليه تجارب في بلغاريا ، وهو الآن جاهز للاستعمال في هنقاريا .
    قلت : فإن لم أجد ؟ قال : عليكم بالسياسة ، فإنها الطريق إلى الرياسة ، فحدثنا عن غزو أوغندا لبولندا ، وهجوم هولندا على راوندا ، وحاول أن تأتي بأسماء مجهولة ، لأن عقول الناس معقولة ، وإذا لم تجد أخباراً عربيّـة ، فاسرد علينا أخباراً غربيّـة .
    فقل مثلاً : ماتت اليوم الآنسة سوزا ، مع كلبها كوزا ، في قرية شمال غرب نوقوسا، وسقط مدير شركة هوندا ، المستر برندا ، فمات قبل أن يتغدا . والظاهر أن الشيشان ، لهم نية في غزو داغستان .
    قلت : الآن عرفت سر المهنة الشريفة ، فأنا من اليوم مراسل الصحيفة . ولكن لماذا تجرّون المرفوع ، وتجزمون المنصوب والنحو أمامكم موضوع .
    قال : نحن في زمن كم من مرفوع جَرّه ، وكم من مخفوض رفعه بالمرة ، وكم من مجزوم نصبه لكل مسرّة ، فنحن نعرب الكلام ، على حسب حركات الأيام .
    والسلام ختام .

  10. #30
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Sun Mar 2008
    الدولة
    ஓஓمقبرة العيزريه ஓஓ
    العمر
    39
    المشاركات
    2,985
    معدل تقييم المستوى
    19
    مقـامَــــة الـقلــــم



     ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ 
    أنصت لميمية جاءتك من أممِ
    واكتب به أحرف العلياء إن له
    مدادها من معاني نون والقلمِ
    نوراً من الحق يمحو حالك الظلمِ

    يا أيها الذي جمع الحكم ، أما سمعت نون والقلم ، إن القلم شأنه عجيب ، ونبؤه غريب ، نحيف الجسم ، عظيم الاسم ، جميل الرسم ، إن خط في القرطاس ، أنصت له الناس ، بالقلم تجهّز الجنود ، وترفع البنود ، وتوثق العقود ، وتحل العهود، بحروفه تقضي المحاكم ، وترد المظالم ، وتقطع الجماجم ، وتعقد المواسم ، إن غضب فجر الدماء، وأباد الأحياء ، وأشعل حرباً شعواء ، وإن رضي منح المواهب ، وأعطى الرغائب ، وأهدى المناصب ، من حروفه يجنى العسل ، وتسل الأسل ، إن شاء فمداده سم الحيات ، وأم النكبات ، وسبب البلايا الموجعات ، وإن أراد جعل سطوره نورا ، وصيرها سرورا ، وملأها حبورا ، ونمقها حسناً منشورا ، هو رسول القرون الأول ، وخادم الدول ، وحافظ الملل والنحل ، إذا سال لعابه ، كثر صوابه ، وحضر جوابه ، وتزاحم عبابُه ، لا تسمع له كلاما ، ولكنه صار للحكمة إماما ، وللمعارف قائدا هماما ، لفظه أغلى من الياقوت ، به خط الوحي في الملكوت ، وهو الذي أخبرنا بطالوت وجالوت ، وهو أسحر من هاروت وماروت ، مصيبة القلم أنه يذيع الأسرار ، ولا يكتم الأخبار ، ولا يقر له قرار ، إذا تشجع ملأ الصفحات ، وعبأ المجلدات ، وبسط المختصرات ، وإذا جبن ألغز وأوجز ، وطلسم وأعجز ، وإن تحامل همز ، وغمز ونبز ، كتب به اللوح المحفوظ ، وسطر به العلم المحفوظ ، وقسم به رزق المنحوس والمحظوظ ، تخاطب به الملوك ، أهل الآفاق ، وتقطع به الجبابرة الأعناق ، ويخوف به الفسّاق ، ويحذر به أهل النفاق والشقاق، وسوء الأخلاق ، بالقلم يقضى الأمر ، ويقع القتل والأسر ، وينصت له الدهر ، وتسطر وقائع العصر .
    أمضى من الألسنة ، لفظهُ ما أحسنه ، يخبر عن من مات من ألف سنة ، به تسطرّ كل سيئة وحسنة .
    تصبح الأوراق به في حسن الرياض ، ويسّود به البياض ، ويذب به عن الأعراض، وبه تشفى الصدور ، من العلل والأمراض .
    فتاك سفاك بتاك هتاك . كتوم غشوم ظلوم عزوم
    هو الذي كتب رسائل الصفاء ، وهو دبّج أسطر الوفاء ، وهو سجل أخبار الخلفاء، دون السؤال والجواب ، والشكوى والعتاب ، والخطأ والصواب، وما كنت تتلو من قبله من كتاب ، بريشته تحل المعضلات ، وتشرح المشكلات ، وتصان المأثورات ، وتبقى المحفوظات . يخطب بلا صوت ، ويأكل بلا قوت ، ويجمع بين الحياة والموت ، به يرسم الهجر والوصل ، والولاية والعزل ، والجد والهزل .
    به يقع العدل والحيف ، والحق والزيف ، وهو القاضي على السيف ، به تنسخ المعرفة ، وتنقل الفلسفة ، وتخط الزخرفة . يسفسط ويقرمط ، وينسج ويدبّج ، يهدم بكلمة بناء عام ، ويلغي بجملة كيد أقوام ، له غمغمة ، وهمهمة ، وتمتمة .
    كم من عقل قلقله ، ومن قصر زلزله ، ومن بال بلبله ، ومن كيد أبطله . برسائله عرفت الأرض والسماء ، وعلى رسمه خلدت آثار الحكماء ، وبِتَصرفه سفكت الدماء ، وعلى حركته نسجت مآثر العلماء .
    أفصح من اللسان ، وأحفظ من الإنسان . إذا حملته الأصابع ، فانتظر القوارع ، وارتقب الفواجع . له أزيز كأزيز المرجل ، ودبيب كدبيب الأرجل ، وحصاد كحصاد المنجل . عار من اللباس ، دقيق الرأس ، قوي البأس ، عظيم الأثر في الناس .
    يشرب ولا يأكل ، ويجيب ولا يسأل . إن عبأته مدادا ، أحال بياضك سوادا . إذا غلط غطش ، وإذا احتد بطش . عقله مرهون ، وخصمه مغبون ، وعذابه غير مأمون .
    إن خط بالأحمر قلت : هذا شفق ، أو دم على ورق ، وإن نسخ بالسواد ، صار المداد كنون عيون العباد . وإن كتب بالأخضر قلت : هذه طلعة بستان ، أو بهجة أفنان .
    إذا سها رجع القهقرى ، وإذا شك مشى إلى الورى ، له رأس بلا عينين ، ولسان بلا شفتين ، وصدر بلا يدين ، لا يتكلم حتى يشبع ، ولا يخطب حتى يرضع، ولا يسكت حتى يوضع ، ولا يكتب حتى يقرع .
    إن سلطته على مختصر شرحه ، أو على غامض أوضحه ، أو على سر فضحه ، أو على عاص نصحه .
    إن كنت عربياً فهو أفصح من سحبان ، وإن كنت أعجمياً صار أنطق من الهرمزان، يسمعك وليس له أذنان . إن نمت نام ، وإن قمت قام ، وإن جوّعته صام ،وإن أهملته هام
    متحذلق يقظ فإن أرسلته
    بتار أعناق الأنام بلفظه
    أجرى لعاب رحيقه من صدره
    سلاب أفئدة الملوك بسحره

    والقلم بيانك ، وهو طوع بنانك ، وهو حاضر الفكر ، كثير الشكر ، صاحب ذكر ، إن حمله اللوذعي ، وكتب به العبقري ، سالت أودية بقدرها ، وانبجست عين من حجرها ، وإن صحبه البليد ، وخط به الرعديد ، كثر عثاره ، وتبلد حماره ، وحجب عيونه غباره ، يوافق المزاج ، في الاستقامة والاعوجاج ، والثبات والارتجاج ، مسدد إلا إذا غضب ، ومليح إلا إذا عتب ، وفصيح إلا إذا حجب ، إذا انتهى زاده ، ونفذ مداده ، وقف جواده ، هوّنوا عليه اللوم وأقلوا ، فانه لا يمل حتى تملوا ، إن لقنته حكمة وعاها ، وإن أرسلته إلى ذاكرةٍ أخرج منها ماءها ومرعاها ، وهو الذي سطر الحكمة تسطيراً ، فلم يغادر منها قليلاً ولا كثيراً ، ولا صغيراً ولا كبيراً ، وإن قصد أحداً بالأذى فلن تجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، يرقص على نبضات قلبك ، فإن أوقفت الإملاء نادى اذكرني عند ربك ، فذكرك غذاؤه ، وكفك حذاؤه ، ومدادك ماؤه ، وجيبك وعاؤه ، يعرف طريق النجاة ، وهو عظيم الجاه ، يعذر ولو جئنا ببضاعة مزجاة ، إن غلطت غلط ، وإن جهلت ركب الشطط ، لا يغفل الشكل والنقط .
    صمت الخطباء وما صمت ، وسكت الشعراء وما سكت ، ومات الملوك ولم يمت ، حذر به المصطفى الأكاسرة ، وأنذر به القياصرة ، وخوّف به الجبابرة ، صدر به قتل الحسين ، وخط به خلع الأمين . وسطر به الوحي في طور سينين ، وروى لنا الجمل وصفين ، يشعل الحرب ولا يحضرها ، ويستودع الأسرار فينشرها ، يتململ في كفك تململ السليم ، ويتقلب تقلب السقيم ، ويبكي بكاء اليتيم ، خط به أفلاطون كتاب الجمهورية ، وأقام به المعتصم وقعة عموريَّة ، ونمّق به ابن تيمية الواسطيَّة ، والحمويَّة ، والتدمريَّة ، نقل لنا سيرة ابن إسحاق ، وحديث عبد الرزاق ، وعجائب الآفاق ، وأخبار العشاق ، نقض الصعلوك ، ودفع الشكوك ، ونادم المملوك ، يفهم بالإشارة ، ويرسم العبارة ، إن كتب به الأحمق تدفق ولم يترفق ، وضل ولم يوفق ، وإن كتب به الرجل الرشيد جاءك بالقول السديد ، والعلم المجيد ، والنقل الحميد .
    يطير العلم من الرأس ، فيقيده القلم في القرطاس ، وإذا حمله الأمي قال لا مساس ، مَؤدّب لا ينتقد ، و مقلّد لا يجتهد ، يسهر بلا قيام ، ويجوع بلا صيام ، له كل يوم شجون ، وعنده من الحكمة فنون ، يخون الحفظ وهو لا يخون ، صغير الجرِم ، كبير الجرُم
    واسمع أبا تمام يصف الأقلام في أبدع كلام :
    لك القلمُ الأعلى الذي بشباته
    لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُهُ
    لهُ ريقةٌ طلٌّ ولكنَّ وقعَها
    فصيحٌ إذا استنطقتَهُ وهو راكبٌ
    إذا ما امتطى الخمسَ اللطافَ وأُفرغت
    أطاعتهُ أطرافُ القنا وتقوَّضت
    إذا استغزر الذهنَ الذكيَّ وأقبلت
    وقد رفدتهَ الخنصرانِ وسدَّدت
    رأَيتَ جليلاً شأنُهُ وهو مرهفٌ
    تُصابُ من الأمر الكُلى والمفاصلُ
    وأَرْيُ الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ
    بآثارهِ في الشرقِ والغربِ وابلُ
    وأعجمُ إن خاطبتهُ وهو راجلُ
    عليهِ شعابُ الفكرِ وهي حوافلُ
    لنجواهُ تقويضَ الخيام الجحافلُ
    أعاليه في القرطاسِ وهي أسافلُ
    ثلاثَ نواحيهِ الثلاثُ الأناملُ
    ضنىً وسميناً خطُبهُ وهو ناحلُ

صفحة 3 من 7 الأولىالأولى 12345 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. اطلب ثوابك من ربك د. عائض القرني
    بواسطة عزتي احرقت جمر الاشواق.. في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-12-2010, 08:05 AM
  2. الشيخ عائض بن عبدالله القرني
    بواسطة القيصر السليطي في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 12-04-2010, 12:53 AM
  3. حسرات للشيخ عائض القرني
    بواسطة زهر الربيع في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 13-02-2010, 12:25 AM
  4. لا تحزن للدكتور عائض القرني
    بواسطة رنين الاصوات في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 11-02-2010, 09:19 AM
  5. خواطرللشيخ عائض القرني
    بواسطة Full MooN في المنتدى المنتدى الاسلامي العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 08-03-2009, 12:12 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك