راضي عبد الهادي ,أخذته الأماكن المتعددة إلى قمة العطاء



تعتبر نابلس مركزاً إدارياً هاماً في أواخر الحقبة العثمانية، وصلت إلى مرتبة الولاية، وكانت تتبع لها مناطق واسعة، من بينها متصرفية الكرك، وقد زخرت بالحياة الناشطة، وشهدت حراكاً تجارياً واسعاً، وتمكنت من بناء علاقات تجارية مع مدن الساحل الفلسطيني، ومدن الداخل الأردنية، وقد تميزت الصلة بينها وبين مدينة السلط، فكانتا كالتوائم، جغرافية متشابهة، وتنقلا للبضائع والسلع، واستقرارا لعائلات من هذه المدينة في المدينة الأخرى، مما خلق تواشجا فريدا منذ أواسط القرن السابع عشر، وقد تبع ذلك نهضة علمية، من خلال التوسع في فتح المداس، والإقبال المتزايد في تعليم الأبناء.
ولد راضي عبد الهادي بمدينة نابلس، في عام 1910م، في مرحلة مفعمة بالنشاط والحيوية، وقد مارس طفولته في حارات نابلس وأزقتها، ولعله تمتع بشقاوته كأي طفل نابلسي، ولد لعائلة متوسطة الحال، ومحبة للتعليم، رغم فترة الإهمال التركي الطويلة، والتي تعاظمت بعد وصول جماعة الإتحاد والترقي إلى الحكم، وتبني نهجاً عنصرياً اتجاه العرب، وفي عمر مبكر لم يتجاوز الخامسة التحق بالمدرسة الدرويشية في مدينة نابلس، حيث تلقى فيها دروسه الأولى فيها، وبعد ذلك انتقل من مدرسة الدرويشية إلى مدرسة الصلاحية، التي تعد في تلك المرحلة من المدارس المعروفة، والتي يقوم عليها عدد من خيرة المعلمين، وعلى رأسهم مدير المدرسة الأستاذ عفيف العطعوط، مما وفر تعليماً جيداً لطلبة هذه المدرسة.
بعد حصول راضي عبد الهادي، على شهادة الثانوية، التحق عام 1922م، بدار المعلمين في مدينة القدس، وهو معهد أسهم في رفد المدارس في فلسطين والأردن بالمعلمين، وبعد دراسة دامت حتى العام 1926، تخرج في المعهد وحصل على مؤهل مكنه من الدخول إلى الحياة العملية، بكل ثقة، فلقد دشن عمله الوظيفي، عندما عين معلماً لمادة الاجتماعيات في مدرسة الرملة الثانوية، وقد أحب مهنة التعليم، وأخلص لها، وأعطاها سنوات طويلة من عمره، وكانت الأحوال وقتها تعطي مكانة مميزة للمعلم في الحياة الاجتماعية، تجعل إقبال الشباب على مهنة التعليم لا حدود له.
لقد برزت اهتمامات راضي عبد الهادي بالأدب منذ مرحلة مبكرة، وقد تجلت بعد ذلك بشكل ملموس، مستندة على موهبة حقيقية، واطلاع واسع على الثقافة العربية والعالمية، مما مهد الطريق أمامه لدخول عالم الإبداع من أوسع أبوابه ألا وهو الشعر، وكانت فلسطين والمنطقة العربية تشهد حالة من الاضطراب، وهي ترزح تحت استعمار غربي، يمسك بزمام الأمور لصالح مصالحه وأهدافه، وقد عانت فلسطين من تبعات وعد بلفور، والهجرة غير الشرعية لليهود والعصابات الصهيونية، التي مهدت الطريق بمساندة بريطانيا لإقامة دولة إسرائيل، في تلك الفترة، كانت لراضي عبد الهادي كتابات مختلفة، في الصحافة، خاصة في جريدة ''صوت الحق'' التي تصدر من مدينة يافا، التي يرأس تحريرها الأستاذ سعيد الخليل، الأمر الذي جعله يتردد كثيراً على مدينة يافا، من أجل نشر كتاباته، وبعض الأخبار التي يعمل على جمعها وتحريرها.
لقد سببت له كتاباته، التي تعبر عن رأيه المناهض للاستعمار، والمحذر من خطر الهجرة اليهودية وبيع الأراضي، كثيرا من المشاكل، فلقد خضع لمراقبة لصيقة من قبل قوى الأمن، التي كانت تتبع تحركاته، وتعد عليه أنفاسه، وتحاول التضييق عليه، لقيامه بتوعية الناس بالأخطار التي تحيق بفلسطين، وقد مارست بحقه كل أنواع المضايقات والعقوبات الإدارية، حتى يتوقف عن نشاطه هذا، لكنه لم يتراجع قيد أنملة، ونتيجة لذلك نقل عن طريق إدارة المعارف الفلسطينية عام 1929م، إلى المدرسة الهاشمية في نابلس، ولم يمض عليه عام واحد، حتى عملوا على نقله إلى مدرسة الصلاحية الثانوية التي درس فيها صغيراً، وبعد ذلك أي في العام 1934م، عين مديراً ونقل إلى المدرسة الغزالية بنابلس، وبعد أقل من عام نقل من جديد إلى مدرسة خان يونس في غزة، وكان ذلك عام 1935م.
كانت مرحلة مليئة بالمضايقات والتنقلات، التي على كثرتها لم تغير منطلقاته، لم يفت في عضده، فلقد استمر مسلسل التنقلات العقابية، فبعد ستة شهور فقط نقل إلى مدرسة الهاشمية في منطقة البيرة، ولم ينقض العام حيث نقل في عام 1944م، مديراً لمدرسة الخليل الثانوية، وقد كانت المرة الوحيدة التي نقل فيها بناء على رغبته الشخصية، هي في العام 1947م، عندما نقل إلى مدرسة عكا الثانوية بناء على طلبه، لكنه رغم ذلك لم يطل المقام فيها، فخرج منها مجبراً كالعادة، لكن تحت ضغط الظروف السياسية والعسكرية هذه المرة، تلك الظروف التي تفاقمت، وأنتجت النكبة عندما أحكم اليهود سيطرتهم على جزء كبير من فلسطين، عام 1948، عندها أضطر راضي عبد الهادي الخروج من فلسطين والرحيل إلى دمشق، وهناك عمل مدرساً لمادة اللغة العربية في ثانوية ابن خلدون، وفي مدرسة التجهيز الأولى لمدة سنتين.
في العام 1950م غادر راضي عبد الهادي دمشق، ووصل إلى عمان حيث قرر الاستقرار فيها بعد سنوات من التنقل المتواصل داخل فلسطين وخارجها، وعمل عند سكنه في عمان مديرا لمدرسة كلية الحسين التي تعد أول مدرسة ثانوية في المدينة، وكانت ولا زالت تحظى بمكانة وسمعة طيبة في مجال التعليم والتربية، وقد شغل هذا المنصب مدة أربع سنوات متواصلة، حققت له بعض الاستقرار الذي افتقده طوال سنوات طويلة، وكانت هذه الفترة التي قضاها في كلية الحسين أخر عهد له في الإدارة المدرسية، فلقد عين بعدها مديرا لمديرية التربية والتعليم في عجلون، قضى فيها فترة من الزمن، لكنه انتقل بعدها إلى لواء الخليل في الضفة الغربية، التي كانت وقتها تتبع للمملكة الأردنية الهاشمية، وعندما أنهى خدمته في الخليل ووصل إلى القدس مديراً لمديرية التربية والتعليم.
عاد إلى عجلون ليشغل منصب مدير التربية والتعليم من جديد، حدث ذلك عام 1959م، وقد بقي في موقعه هذا حتى العام 1961م، عندما عين وكيلاً إدارياً مساعداً في وزارة التربية والتعليم، لكنة أحدث نقلة كبيرة في مسيرته العملية، عندما خرج من وزارة التربية والتعليم التي أمضى فيها عمراً طويلاً مدرساً ومديراً لمدارس عديدة، ومدير تربية، ومساعدا وكيلا، وانتقل إلى وزارة الداخلية، وعين متصرفاً للواء الكرك عام 1963م، وبعد هذا التعيين بسنة واحد شغل ذات المنصب في لواء البلقاء، وقد شكلت هذه المرحلة من حياته العملية تجربة جديدة وغنية، مكنته من الاطلاع على واقع حياة الناس في المناطق المختلفة، والاضطلاع بمهام حل المشاكل الإدارية والقانونية، والإشراف على النواحي الأمنية، وهي خبرات إضافية تغني سجله الحافل بالتنقل والعمل المتواصل، الذي جعل منه خبيراً في شؤون الناس وأحوال البلدات والمدن.
عاد للعمل في وزارة التربية والتعليم، وشغل المنصب السابق ''وكيل مساعد'' حتى العام 1967م، حيث أحيل على التقاعد، بعد سنوات حافلة بالعطاء والتميز، عبرت عن روح تواقة للعمل المنتج، وعندما توفي عام 1975م، ترك فقده أثراً عميقاً لدى كل من عمل معه أو تعرف عليه، وكان أثره في أجيال من الشباب الذين أسهموا في بناء بلد عصري منفتح الأفق، لذا لن يغيب عن البال ولا عن الذاكرة الوطنية.