الأكاديمي المطلوب حجر الأساس فـي البناء الجامعي التعليمي
ربما ترتبط صورة المعلم في أذهاننا بأرسطو المعلم الأكبر، و هو يمشي في حدائق أثينا تلتف حوله ثلة من محبي المعلم و مريديه، يسألونه فيجيب.هذه العلاقة الطوباوية بين المرسل و المتلقي في فضاء رحب من العلاقة الإنسانية المخلصة ببساطتها و انفتاحها و صدقها تبقى على مر الدهور الصيغة المثلى لعلاقة الأستاذ بالطالب. إلا أن صورة الأستاذ تعرضت إلى الكثير من التغيرات، فلم يعد يتسم بصرامة المظهر و جدية الهيئة، يرفل بالعباءة الجامعية التقليدية التي عرفها دونات أكسفورد و كمبردج و هايدلبرغ،أو بالجبة و العمامة التي عرف بهما شيوخ الأزهر، لم تعد لديه معرفة موسوعية لا تنضب.أما في العصر الحديث فقد أصبح عالمه المعرفي محددا ،تخصصي الطابع، تركيزي البؤرة في عالم المعرفة.و هو أكثر انشغالا من سلفه في أمور المعيشة و رفع مستوى حياة أسرته.
ورغم أن مهام الأستاذ متشعبة و متعددة، فان مهمة التدريس و ما يتصل بها من نشاطات تمثل حجر الأساس في البناء الجامعي التعليمي، فهي المعنية بإعداد القوى البشرية المؤهلة من الشباب و تعريفهم بمسؤولياتهم تجاه المجتمع، و تنمية مداركهم و إنماء آفاقهم الفكرية و غرس المثل العليا في نفوسهم و تدريبهم على التفكير العلمي و تعويدهم على الممارسات الديمقراطية. و لا تتحقق هذه المهمة على أكمل وجه إلا من خلال تفاني الأستاذ في التطبيق الملائم لهذه الأهداف و المثل.
لا يقتصر اهتمام الأستاذ إذا على عملية نقل الحقائق المعرفية إلى الطالب، بل إلى تنمية القدرات الذهنية لديه، و قدح زناد فكره، لكي يتدرب على التلقي الحاذق للمعلومات و التفاعل الذكي معها.ذاك الذي يبدأ بالتدرب على اكتساب التفكير المنطقي و تطبيقه في مختلف مجالات التعلم، و بهذا تتطور قدرات الطالب التمييزية، إلى أن يصبح باستطاعته التفرقة بين الخطأ و الصواب، و التحقق من مصداقية ما يقرؤه.
إن عملية نقل المعرفة التي يقوم بها الأستاذ ترتكز على تداول المعرفة بأسلوب ديمقراطي، يعتمد على الأمانة العلمية و المرونة الفكرية و احترام آراء الآخرين، مما يقتضي أن يثير الأستاذ اهتمام الطلبة و فضولهم في البحث عن الحقيقة، و هو الأمر الذي لا يتأتى إلا بتدريبهم على أساليب تقصي الحقائق و القراءة المتأنية السابرة و الاستخدام التحليلي للمرجع و احترام المنطق العلمي و تطبيقه.
هذا هو الهدف الأسمى الذي يحدد أول علاقة تشاركية بين المعلم و المتعلم، يقبل عليها الطالب كما الأستاذ بعقل متفتح مرن قادر على الأخذ و العطاء، بدون أن يحمل أفكارا متشنجة مسبقة، تكبح الاستجابة لما هو جديد، ترفض الاستنارة بما يمنحه إليه الأستاذ من علم و فكر. إن هذا يتطلب: التوجه المخلص المنفتح من أجل التعلم من قبل الطالب، و المرونة الفكرية و تقبل الآخر و رفض الالغائية من قبل الأستاذ.
إن الأستاذ مطالب بتدريب الطالب على تجنب التحيز و محاولة رؤية كل مسألة و تقييمها من أكثر من منظور، إلى أن تتطور ملكاته الفكرية و تتماثل مبادئه التي تعتمد على الدراية لا على التقبل الأعمى.إذ أن من أهم مسؤوليات الأستاذ تطوير قدرات طلبته على الاستنارة بالأطروحات الفكرية المختلفة، كي يتمكنوا من استخلاص أهم أفكارهم و الاستفادة منها، بما يخدم مصالحهم و مصالح المجتمع الذي ينتمون إليه
و لكن هذا الذي نطالب الأستاذ أن يفعله، يحتاج إلى القدرة على الاستثارة لدى الأستاذ، و هي تقتضي منه أن يكون شغوفا بما يعمل مؤمنا به، و يقتضي أن يكون الأستاذ قد اختار العمل بالتدريس لا كاختيار يضمن دخلا ماديا مناسبا و مكانة اجتماعية مرضية، و إنما كان الاختيار أساسا لحياة أكاديمية يكرس نفسه فيها لإثراء المعرفة و لمساعدة الآخرين على اكتسابها.
و لا ينسى الأستاذ انه ربما يغدو نموذجا يحتذى من قبل طلابه، و ربما يؤثر على اتجاهاتهم في الحياة فيما بعد.إذ قد يثير الأستاذ اهتمام طالب في اختيار تخصص معين. و لعل العلاقة القائمة بين الطرفين على الاحترام و الثقة هي التي تدعم هذا الاتجاه وإخلاص الأستاذ في عمله و تواضعه مع طلابه.على العكس مما يتوهم البعض من أن الطلبة يقدرون الأستاذ الذي يسخو بالدرجات و يقلل من الصفحات المطلوبة بالامتحان و يقصر من مدة المحاضرة و يتكرر اعتذاره عن المحاضرات.
ان معرفة الأستاذ بطلابه شخصيا تجعله مقدرا لإمكانياتهم الفردية و و موجها لهم في تسخير ملكاتهم للتحصيل المعرفي و توظيف قدراتهم الذهنية،و هذا إن حصل يكون الأستاذ قد قدم خدمة جليلة لطالبه يستفيد منها على الدوام و تغني خبراته باستمرار. وهذا ما تؤمنه طبيعة الصفوف محدودة العدد من الطلبة و المحاضرة القائمة على الحوار و المشاركة الفاعلة المقدرة و المشجعة من قبل الأستاذ و الإرشاد الأكاديمي الواعي البعيد عن المجاملات.
زد على ذلك أن ثورة المعلومات و الانفجار المعرفي و تسارع التقدم العلمي و التقني، تفترض وظائف جديدة للأستاذ في الجامعة تناسب هذه المرحلة الحضارية، مثل: - تأمين مشاركة أكبر من الطلبة، قد تستدعي الانتقال من القاعة التقليدية إلى وسائط نقل المعرفة المتطورة و إلى المكتبات الإلكترونية و إلى المختبرات التجريبية المتطورة، -عدم الاستمرار بالمحاضرة التقليدية التلقينية الإملائية، و الانتقال إلى أسلوب حلقات البحث للكشف عما توصل الطلاب إليه بأنفسهم، -يصبح الأستاذ في ضوء ما سبق مستشارا موجها خبيرا منسقا.
تبعا لذلك أظهرت الدراسات الحديثة أدوارا حديثة للأستاذ بلورتها في الأدوار التالية:
1-خبيرا: يحافظ على خبرة موثوق بها، و يطور المهارات المتصلة بها.
2-مصمما: يصمم المقرر الأكاديمي، و يحدد مستلزماته و فعالياته.
3-ناقلا: ينقل المعرفة و الأفكار إلى طلابه باستمرار.
4-مقوّما: يقوم عمله بالاستفادة من التغذية الراجعة من الطلبة.
5-محفزاً: يحفز الطلبة على التفكير و التعلم و يشجعهم على تحمل المسؤولية؟ 6-معلما: يعلم الطلبة بمعلومات دقيقة، و يربطها بمجريات الحياة.
7-موجها: يوجه الطلبة إلى مسار البحث العلمي الحر و يدربهم على تقنياته.
8-محققا: يحقق ذاته العلمية، ليتطور كمثقف و عالم و مدرس.
9-مراقبا: لأدائه التدريسي مستفيدا من تقييم الطلبة له.
10-مشاركا:يشجع الحوار و المشاركة من قبل الطلبة.
رد مع اقتباس
المفضلات