يفاخر الأردن بموارده البشرية فهي رأس المال الإستراتيجي والحقيقي للدولة والمجتمع في ظل معادلة شح الموارد الطبيعية والاقتصادية التي تفرض نفسها علينا. ولما كان الشباب يشكلون ما يزيد عن نصف عدد السكان فإن الرهان الأردني على الطاقات الشبابية يبرز جليا في مجمل الرؤى والسياسات والاستراتيجيات الوطنية العليا التي تحظى بدعم جلالة الملك ورعايته الحثيثة والشخصية. لذا فإن هذه الطاقات الشبابية الهائلة والهامة تستدعي اعتناء خاصا بها ومتابعة علمية جادة لكل مايتصل بها من تحولات ومايكتنفها من حراك وما تبديه من استجابات وما يصدر عنها من خطاب وما تمارسه من سلوك في المنعطفات الهامة من حياة الدولة والمجتمع والأمة.
ونظراً لما يبديه المجتمع الأردني من تفاعل استثنائي ومشّرف مع الأزمات والأحداث الكبرى التي تعصف بهذا الجزء من الوطن العربي أو ذاك، وعلى وجه الخصوص ما يتصل منها بالعدوان الصهيوني المتواصل على أهلنا في فلسطين، أو بتطورات الملف العراقي المعاصر ،فإن التوقف عند انعكاسات ذلك التفاعل على الشباب الأردني أمر في غاية الأهمية والخطورة.
ففي وقت الأزمة ينخرط المجتمع الأردني بكامل مكوناته وإمكاناتهِ في حالة تثير الإعجاب من الحراك السياسي والإجتماعي والثقافي خاصة عندما تتطابق المواقف الرسمية والشعبية من الحدث أو الأزمة، وهذا ما شهدناهُ في لحظة العدوان الثلاثيني على العراق 1991، وفي هذه الأيام في ظل العدوان الصهيوني الوحشي على غزة، هذين مثلين للصيغة الأردنية الموحدة والمتناغمة والعفوية في طرائق التعاطي مع التحديات والأزمات، في هذه الأزمات عاش الأردنيون حالة من التلاحم الوطني العام تتضافر فيها الجهود الرسمية والأهلية للقيام بالواجب. وكان الشباب الأردني دائما في قلب العملية ويبادر إلى الانخراط في الجهد الوطني العام ولايبخل أبداً في تقديم كل ما يطلب منه أو يوكل إليه من مهام، بل يبادر إلى المطالبة بمنحه شرف المساهمة واتاحة الفرصة أمامه للقيام بالواجب،وتتجلى في هذه الظروف عزائم الشباب، وتبرز مكنوناتهم الحقيقية،وتظهر ابداعاتهم المذهلة، وقدراتهم الخلاقة في التعبير والتحرك والسلوك العفوي الفطري المعبر عما تجذر في أعماقهم من مكونات الشخصية الوطنية الأردنية بأبهى صورها، انتماءً للأمة والتزاماً بدينها وثقافتها وهويتها، وتمسكاً بوحدتها ومصالحها، ورفضاً لتجزئتها،وتعالياً على ما يفرقها، وتفانياً في خدمتها، وتطلعاً لعزتها، وذوداً عن كرامتها، وشوقاً لمكانة تليق بها تحت الشمس.
لكن السؤال الهام والكبير الذي يفرض نفسه علينا جميعا في وقت الأزمات لايتصل أبداً بأهمية الحراك الشبابي والطلابي من عدمه ، ولاينحصر في طبيعة الموقف منه إتاحة وتسهيلاً أو منعاً وتقييداً، بل هو ماذا نفعل؟وماهو العمل ؟ وماذا يمكننا أن نقدم؟وكيف نتصرف؟ هذه الأسئلة الكبيرة تتعدد الإجابات الحائرة عنها لدى الكبار ساسة ومفكرين ومثقفين وإعلاميين وتربويين ،لكن حيرة الإجابات عند الشباب وفيما يخص الشباب تكون أكبر وأخطر! لاشك أن الشباب الأردني بما ربي عليه من قيم ومباديء وما غرس فيه من اتجاهات دينية وقومية ووطنية،يبادر دائما للتحرك العفوي والتلقائي والبريء والطوعي لنجدة أمته في لحظات العدوان عليها، مبدياً رفضه للاعتداءات والمخططات والسياسات الاستعمارية والصهيونية الحاقدة،التي تستهدف الأمة حاضراً ومستقبلاً ووجوداً، والتي تعيدنا جميعاً في كل مرة من حيث نريد أو لا نريد إلى مربع صدام الحضارات، وتجبرنا دائماً على استدعاء الذاكرة التاريخية بكل ما تزخر به من صفحات ملطخة بالدم والظلم والقهر التي تطبع تاريخ الاستعمار والصهيونية.
وتظهر في مثل هذه اللحظات حيرة الشباب، وهي جزء من حيرة أكبر هي حيرة الأمة، وتتفرع أمامهم الدروب والمسالك،وتتعدد الخطابات والرؤى والإجتهادات والتصورات والبرامج، وللأسف فإن جلها لا يؤدي إلى الهدف المنشود،ولايقدم الإجابات الصحيحة،ولاينطلق من موقف علمي دقيق ، ولايستند إلى فهم حقيقي للواقع، ولايحتكم إلى برنامج متكامل، ولا يعلي من شأن الصالح العام، ولايقدم الاستراتيجي على التكتيكي، ولاينظر نظرة شمولية متكاملة للأزمة، وسبل حلها، ووسائل التعامل معها، ومحددات التصرف حيالها.
وفي ظل الأزمة تتفجر أزمات الأمة كلها، وفي مقدمتها الخطاب السياسي والفكري المأزوم الذي قد تقدمه أنظمة أو قوى أو أحزاب أو مؤسسات أو مجتمعات مأزومة، ومكمن الخطورة في أن الجزء الأكبر من الخطاب المأزوم ،يستهدف الشباب والطلبة أولاً، ويتطلع إلى تأطيرهم أو تجييشهم أو تجنيدهم أو أدلجتهم، أو تسخيرهم ، أو استغلالهم، أو العبث بعواطفهم وبراءتهم ودائماً تكون الفئة الأكبر والشريحة الأهم المتلقية للخطاب السياسي الأكثر صخباً واشتعالاً والمتأثرة به هي فئة الشباب والطلبة.
وهنا تبرز الحاجة إلى الحذر من مخاطر التيه والتخبط والضياع والتبديد للجهود والطاقات والامكانات والأوقات الثمينة فيما لايجدي. ففي ظروف الأزمة تتوفر البيئة المثالثة لتجنيد الشباب واستثمار اندفاعاتهم العاطفية وتوجيههم في دروب التيه والضياع الفكري والعقائدي، وتتاح الفرصة لإعلاء أصوات التطرف والرفض والتمرد والتهور والإندفاع نحو المجهول،أو تتاح الفرصة لممارسة طقوس جلد الذات وإشاعة ثقافة الهزيمة والإنكسار ،والإستسلام لمشاعر اليأس والإحباط،والارتهان لسيكولوجيا العدمية وفقدان الثقة بالذات والوطن والأمة، وهنا تتضح الحاجة إلى تقديم خطاب وطني عقلاني نابع من قيم الأمة وثقافتها ومنطلق من حقوقها وثوابتها ومنسجم مع مصالحها وآمالها، ومستجيب إلى تحديات الواقع الذي تعيشه الأمة واللحظة التي تحياها، خطاب يعظم الجوامع ويهون من الفوارق ويتعالى على الصغائر ويتطلع إلى المستقبل ويوجه طاقات الشباب نحو الإسهام والمشاركة في الشؤون العامة لوطنهم وأمتهم، ونحو تقديم حراك شبابي وطلابي حقيقي وعملي ومبدع وخلاق وعصري، بعيداً عن ثقافة الانسحاب والإحباط، أو التهور والاندفاع.
وهذا يتطلب حواراً وتواصلاً مع الشباب،وثقة بهم وبقدراتهم وبوطنيتهم وبصدقيتهم، ويذكرنا هذا بخطورة المسؤولية التي يحمل عبئها الكبار،وتتولاها الأسرة والمجتمع والمؤسسات الرسمية والأهلية، بما يكفل احتضان الحراك الشبابي والطلابي وتفهمه،وضبط إيقاعه. وهذا يضع قدرات المؤسسات الشبابية والتعليمية تحديداً على المحك لجهة قدرتها على ترشيد الحراك الشبابي والطلابي وتوجيهه وضبطه وتحديد مساراته في السياق الوطني العام،ووفقا لخطاب ثقافي وسياسي أردني نابع من الثرى الوطني الأردني،ومنفتح على الآفاق الرحبة للأمة، تؤطره الفضاءات الفسيحة والرحبة المتاحة للسلوك وللتعبير الراشد،الفاعل ،الواقعي والحضاري عن الموقف.
رد مع اقتباس
المفضلات