الأردن... قرار سياسي بالسماح بالتظاهرات
الأردن... قرار سياسي بالسماح بالتظاهرات... تمركز لمسافة ابعد عن محور عباس مبارك.. وخطوات متدرجة للرد على العدوان المتدحرج
درس الموقف الرسمي الاردني من العدوان الاخير على قطاع غزة بعناية فائقة وبشكل يراعي كل الاعتبارات بما فيها الامنية والاجتماعية والاهم الاقليمية، بعدما سجل الملك عبد الله الثاني السبق على بقية الزعماء العرب بتحذيره العلني قبل عدة اسابيع من النتائج الكارثية لاي عمل عسكري اسرائيلي في قطاع غزة المنكوب.
وبالنسبة للرسميين الاردنيين لم يكن العدوان الاخير اكثر من محاولة سياسية لفرض وقائع على الارض، لكن الموقف الرسمي سواء في الاعلام او في الغرف المغلقة تميز هذه المرة بالوضوح والمباشرة على امل ان يتمكن اللاعب السياسي الاردني من صنع مسافة واقعية وان لم تكن مكشوفة عن ما اسماه الاعلاميون الاردنيون على هامش لقاء عصف ذهني في القصر الملكي بالمحور المصري الفلسطيني ـ الاسرائيلي المتهم شعبيا الآن برعاية عن بعد لما يحصل.
واثناء رسم ملامح المؤسسة الرسمية لموقفها اخذت بالاعتبار كل التفاصيل وانجزت خطوات عملية على الارض، حيث اضطر حتى الخصوم السياسيين للحكومة الاردنية للاعتراف بحالة نادرة من الانسجام تحققت هذه المرة بين الموقفين الرسمي والشعبي، فعمان السياسية لا تعتقد حتى الآن بأن الحسم العسكري ممكن وتصورها ان ما يجري يخلق مسافات اضافية لابتعاد العملية السياسية والسلمية ولا يوجد ثقة في عمان الرسمية بأن ملف حماس يمكن ان يغلق بعد العدوان الحالي، فالاحتمالات متساوية في النتائج، والانطباع العام ان اسرائيل رتبت الامر مع جزء من منظومة الاعتدال العربي وليس مع المنظومة برمتها.
وصدرت في عمان توجيهات عليا تقضي بالسماح للجمهور بالتعبير عن مشاعره ورأيه ازاء مشاهد القتل والدمار والموت، وعليه انطلقت مسيرات واعتصامات ومظاهرات حاشدة في كل ارجاء المدن والمحافظات الاردنية وفي المخيمات، لم تكن محتاجة هذه المرة للترخيص المسبق فالتوجيهات العليا تقضي بأن يعبر الاردنيون عن موقفهم وبأن تدعم وتحمي الاجهزة الامنية هذا التعبير ما دام لا يتطور الى تطاول على هيبة المؤسسات او حالات اعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.
ومن هنا سارت المظاهرات الصاخبة في شوارع المدن الاردنية بشكل ناعم وسلس ومع الحد الادنى الممكن من الاحتكاكات برجال الشرطة في مثل هذه الظروف المعقدة، ووجود قرار سياسي بالسماح بهذه التظاهرات كان بحد ذاته رسالة سياسية من الاردنيين لكل الاطراف وعلى رأسها الطرف الاسرائيلي، وهي رسالة انجزت بدقة في سياق التصعيد الرسمي الاردني المتدرج الذي يحاول ضبط الايقاع والرد على العدوان الاسرائيلي المتدحرج.
وبطبيعة الحال تبين ان القرار مليء بالحكمة، فالسلطات المحلية تقدر طبيعة الاحتقان في شارع نصفه من الفلسطينيين، وفي عمقه اكثر من ربع مليون مواطن غزاوي، وانشط حلقاته السياسية تمثلها جماعة الاخوان المسلمين البيئة الحاضنة والمتحالفة مع حركة حماس، وبالتالي فايقاع التظاهرات في الشارع الاردني الآن ينطوي على كلفة تتقبلها الحكومة لانها تحتاجها كورقة سياسية وبنفس الوقت تقدرها الاحزاب والقوى النشطة والجماهير فيخرج الجميع راضيا بالنتيجة.
وعلى الارض لم تكن تلك رسالة عمان السياسية الوحيدة فالملك عبد الله شخصيا غاضب كما قال مستشاره الاعلامي وطوال ايام الأزمة الثلاثة لم تجر اتصالات في القنوات الخلفية مع الحلقات الاسرائيلية المعتدية لان عدم وجود هذه الاتصالات بحد ذاته موقف مرسوم من الاردنيين في البعد السياسي، خصوصا وان لدى الاسرائيليين سيناريو جاهز، كما ان الاتصال بهم الان يدفع عمان لدائرة الاتهام بعد ان رصد الجميع مشهدا جديدا ينطوي على اتهام الشارع العربي في كل مكان للقاهرة واستثناء عمان.
وعلى الارض ايضا لا يوجد في دوائر القناة الاردنية اي قناعة من اي نوع بان المشهد في غزة الآن لم يكن سياسيا، فالذرائع الامنية الاسرائيلية لا يثق بها الاردنيون والتشكيك بالموقف الاردني على مستوى الاعلام العربي وحتى على مستوى الشارع في ادنى مستوياته على الاطلاق قياسا بجرائم اسرائيلية سابقة ومشاهد مماثلة مرصودة في الذاكرة، فعلى حد تعبير مسؤول بارز في الاردن اصبحت المسالة واضحة فالمشكلة بالقطاع الجريح والعدو هو اسرائيل والضحية اهل غزة.
وفي القياسات الرسمية ايضا يتم التركيز على اولوية مطلقة بسبب عدم امتلاك ترف الوقت للتحليل والتكهن ومناقشة التمحور وهو ما اعلنه الملك عبد الله رسميا عدة مرات عندما قال بان الاولوية المطلقة الآن لوقف العدوان والقتل والموت مشاركا بحيوية في حملة اتصالات دولية وعربية تستهدف ذلك.
وفي القنوات الداخلية ثمة قناعة الآن بأن ما يحصل في غزة يؤذي الجميع بدون استثناء وبان كل الاحتمالات اصبحت واردة وبان ايا من النهايات لا يمكن توقعها، وبما ان الموقف الاردني في المستوى العربي يتباين عن الموقف الفلسطيني والمصري الرسمي حيث لم تتهم عمان حماس بأي شيء، اصبحت الفرصة مواتية للتاكد بأن عمان السياسية تحقق مكسبا اضافيا بالابتعاد الناعم وغير العلني عن سياسات التمحور وهو ابتعاد يمارس الآن بدقة واناقة وتنتج عنه لحظة ترابط نادرة تقريبا بين الموقفين الرسمي والشعبي.
ومن الواضح ان توقعات الاسوأ اردنيا ينتج عنها في الحلقات الاضيق جاهزية لبرنامج تصعيدي مواز لحجم التعقيد الذي يمكن ان تنتجه اعتداءات اسرائيل على الارض، فقد استدعي الاحد السفير الاسرائيلي في عمان لوزارة الخارجية وسلم احتجاجا رسميا الامر الذي لم تفعله القاهرة، ومطالبات الشارع الاردني باستدعاء السفير من تل ابيب او طرد السفير الاسرائيلي من عمان غير ممكنة التطبيق الآن وتحرم عمان، وهذا الاهم، من اوراق يمكن استثمارها لاحقا في الفكر المتدرج للرد على العدوان الاسرائيلي المتدحرج خصوصا اذا ما اوصلت اسرائيل الجميع لمنطقة المأزق، فالحكومة الاردنية تسعى لممارسة اقصى ضغط ممكن على الاسرائيليين، واهم تقييم للمشهد يجري الآن عبر تداول المسؤولين الاردنيين لعبارة واضحة يقولون فيها بان اسرائيل ادخلت الجميع في المنطقة بأزمة لا احد يعرف كيف ومتى واين تنتهي.
ورغم ان دعوات طرد السفير الاسرائيلي يتردد صداها في كل ارجاء المؤسسات الشعبية الاردنية وتحديدا في البرلمان، الا ان التجاوب مع هذا الشعار المسموح طرحه الآن صعب جدا حرصا على نقطة الافضلية المتمثلة بالسماح للمساعدات الاردنية بالعبور والمرور لانها تحتاج لموافقة اسرائيلية، فتعليمات القصر الملكي لرئيس الوزراء نادر الذهبي تقضي بوضع جميع امكانات الدولة الاردنية في خدمة الشعب الفلسطيني.
المصدر : الحقيقة الدولية – القدس اللندنية 30.12.2008
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ميلانو
المفضلات