قصة شموخ وعز وفخر :
قصة عبد الله بن حذافة مع قيصر الروم روى أهل السير: كـالذهبي وابن حجر وغيرهم: أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم ما أذهله وما أدهشه من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل هو عبد الله بن حذافة السهمي ، فجاءوا به لقيصرهم. فلما نظر إليه قيصرهم رأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه. فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني. فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت. عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ، وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فقال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة ، فجيء بها وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ فأدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء ، وقالت هيت لك ، قال: معاذ الله، وأغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، فأخذت تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله حتى يئست منه ، وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني ، فأخرجوها قد تغير لونها، إذ قد فشلت مهمتها، فسألوها ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر. قالت: والله ما أدري أأدخلتموني على بشر أم على حجر، ولا أدري أأنثى أنا أم ذكر!!!
هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك.
فقال رضي الله عنه: أنت وما تريد.
افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى. فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه.
التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية ؛ فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله. عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
فقال له القيصر معجباً بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك ؟ فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ قال: وعن جميعهم. فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى. وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال:
(حق على كل مسلم أن يقبل رأسك )

للمزيد من القصص انقر هنـــا