السلطان العادل عبد الحميد الثاني رحمه الله


السلطان العادل الحميد الثاني رحمه الله


إن الدارس للتاريخ الإنساني عامة والمتعمق في تفاصيله وشؤونه والمقارن بين تواريخ الأمم والشعوب، يقف مشدوهاً حائرا أما تاريخنا العظيم وماضينا المشرق، فلم يقيد الله جل وعلا لأمةٍ من الأمم ولا لحضارة أو شعب ما قيده لهذه الأمة الإسلامية المباركة من الشخصيات البارزة والقادة الميامين والعلماء الربانيين وأصحاب المواقف الساطعة في سماء هذا العمر المديد... أمةٌ حازت قصب السبق في كل ميادين الرقي والتقدم وأهمها صناعة القادة وإعداد العظماء...

والتاريخ العثماني ليس خارجاً عن هذا السياق بل يمضي في سيرورته ونسقه فظهر لدينا الكثير من الأعلام في الحكم والسياسة والعسكر والعلم مثل السلاطين أبايزيد الأول "بايزيد" الصاعقة (ت ٨٠٥ هـ) ومحمد الفاتح (ت ٨٨٦ هـ) وآق شمس الدين (ت ١٤٥٨ م) والقانوني سليمان (ت ٩٧٤ هـ)... المعمار سنان باشا (ت٩٩٦ هـ) العلامة مصطفى صبري (ت ١٩٥٤ م) رحمهم الله جميعاً والكثير الكثير... دولة عظيمة بقيت حكمت أكثر من ستة قرون وظللت راياتها أراضي امتدت بين القارات القديمة الثلاث... قوةٌ طرقت قلب أوروبا وحوّلت في مرحلة ما البحر المتوسط لبحيرة إسلامية...

ولكن شخصيتنا قد أثير حولها الكثير من الشبهات وطارت بها الأقلام إما تشويها وقذفاً بقلم يتساقط الحقد منه فيقطر سماً زعافاً أو موضوعية قاتلة جعلته كأي حاكم عادي مع ما له من فضل وألمعية وللدولة العثمانية من أهمية ودور...
حاكم استطاع بما لديه من حنكة سياسية وبعد نظر أن يُبقي على وحدة الدولة العثمانية التي اعتلى سدة الحكم فيها وقد تآكلت أركانها واختل توازنها وأصبحت في نظر ملوك وحكام أوروبا ذلك الرجل المريض الذي اقترب وفاته وحان ميعاد السيطرة على ميراثه ولكنه حال دون ذلك سنين طويلة...

عرف عن السلطان عبد الحميد الثاني محامد كثيرة فهو الخطاط البارع الذي خط لوحات ذات قيمة فنية عالية واتقان يضاهي كبار خطاطي الدولة وهو النجار الذي ظل زمناً طويلاً يتكسب من عمل يديه في النجارة وكان على دراية عالية بها صانعاً أجمل التحف والنفائس...
كل هذه الجوانب وغيرها الكثير ليست مدار كلامنا اليوم، بل سنركز على جانب العدل في حياة هذا السلطان المظلوم، حيث ألصق به الكثير من التهم الباطلة والأوصاف الخيالية فمن السلطان الأحمر وتلذذه بالدماء إلى رمي معارضيه في البوسفور والكثير الكثير مما لم يثبته التاريخ أو يقيده معاصروه والقريبون منه في مذكراتهم وكتبهم...

كيف يمكن لحاكم له صلاحيات مطلقة والقدرة على القضاء على كل معارضيه وخصومه أن لا يوقع خلال أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً إلا على أحد عشر حكماً للإعدام والتي لم تطاول إلا مجرمين يستحقون شرعاً هذه الأحكام ولم يمس أي خصم له من وزراء أو صحفيين أو شخصيات كانوا رأس الحربة في الهجوم عليه "وكان عفوه يطال مرتكبي الجرائم السياسية"...
ولا أدل على ذلك أنه لم يقم بقتل "مدحت باشا" الصدر الأعظم السابق والمتهم الأساسي بقتل عمه السلطان عبد المجيد الثاني رحمه الله بل قام بسجنه في مدينة الطائف حيث مات فيها.
وتذكر ابنة السلطان الأميرة عائشة عثمان أوغلي في مذكراتها كيف تحول "الحرملك" السلطاني في قصر يلدز خلال الحرب العثمانية الروسية إلى مشغل لخياطة ألبسة الجنود الجرحى وتقص في مذكراتها كيف يمر السلطان عليهنّ يومياً وهن الأميرات في خدورهنّ يشجعهن على العمل ويشد من أزرهنّ ويمنيهنّ الأجر في هذه المهمة المباركة.
وقد كان من عادته رحمه الله أن يشارك من ماله الخاص في كل مشاريع الأمة التي يطرحها ومن أمثلة ذلك عند إنشاء خط الحديد الحجازي الذي يربط الحرمين الشريفين بدمشق وبالعاصمة اسطنبول وقد افتتح باب التبرعات بنفسه بمبلغ خمسين ألف ليرة عثمانية من ماله الخاص وقد انهالت من بعد ذلك التبرعات من مختلف أقطار العالم الإسلامي حتى أُنشأ هذا المشروع الهائل بأموال المسلمين فقط من دون الحاجة للاستدانة من دولة أوروبية.



وقد أولى السلطان عبد الحميد الثاني اهتماما كبيرا في أعمال الخير وسد حاجة الفقراء والمحتاجين خصوصا في ليالي الشتاء الباردة حيث أمر السلطان بشراء ٥٠ طناً من الفحم تم توزيعها على الأهالي المعدمين في اسطنبول.
وكان له عطية أخرى مهمة وهي عمليات فك الغارمين من سجونهم بأداء الديون عنهم غير أن عبد الحميد رحمه الله لم يكن يبدي شهامته من خزينة الدولة، بل كان يخصص كل عام منذ طفولته مبلغاً من المال يسد به ديون الغارمين الذين اقتيدوا الى السجن لعجزهم عن سدها.
هذه بعض جوانب العدل والرحمة في حياة هذا السلطان العظيم الذي اعتبره كثير من المؤرخين آخر السلاطين العثمانيين العظام وعلم الجامعة الإسلامية والوحدة في زمن انتشار القوميات المقيتة، حامي القدس الشريف وفلسطين الأبية من غدر يهود...
سلام على العهد الحميدي إنه *** لأسعد عهد في الزمان وأنعم.