شارلي شابلن.. الصامت العظيم
شارلي شابلن.. الصامت العظيم
- الأفلام الكوميدية رائجة جماهيريا، والممثلون الكوميديون أصبحوا أكثر مما يمكن إحصاؤه، وكثيرون منهم تحولوا إلى نجوم في مجالاتهم. بعض الكوميديين يعتمد على الكلام، وبعضهم يعتمد على الحركات.
المتابع لمسيرة الكوميديا، يجد أنه ما من كوميدي ابتكر أو أتى بجديد منذ ظهور السينما الناطقة، فكل الكوميديين في العالم يكررون بطريقة أو بأخرى إنجازات كوميديين سابقين عليهم ينتمون إلى عصر السينما الصامتة، وأبرزهم وأهمهم، بطبيعة الحال، العبقري شارلي شابلن.
الجيل المعاصر لا يعرف الكثير عن أفلام شارلي شابلن الطويلة الصامتة الخالدة، مثل السيرك والبحث عن الذهب وأضواء المسرح والأزمنة الحديثة .
كان شارلي شابلن المخرج الممثل والمهرج والبهلوان والمؤلف الموسيقي والكاتب السينمائي الذي حمل لقب فنان كل العصور ، يبدع في زمن السينما الصامتة التي كانت توصف بالصامت العظيم، وكانت أفلامه الصامتة عظيمة كما كان هو نفسه كذلك.
أفلام شارلي شابلن الكوميدية ما تزال تجد مكانا لها ضمن برامج البث التلفزيوني عالميا، لكن ما يعرض في الزمن الحاضر من أفلام شارلي شابلن، خصوصا عبر شاشات التلفزيون، هو أفلامه القصيرة التي صنعها في وقت مبكر من عمله السينمائي، والتي، رغم جرعات الإضحاك الكبيرة فيها، لا تضاهي أفلامه الطويلة، وهي تعرض ضمن البرامج المخصصة للأطفال.
تتوفر في الوقت الحاضر في الأسواق أشرطة دي في دي لمجموعة أفلام شارلي شابلن الطويلة الصامتة، غير أن هذه الأفلام، في نسخها المطبوعة على الأشرطة الرقمية، لا تقدَّم للجيل الجديد المعاصر من محبي الأفلام في حالتها الأصلية الصامتة، بل تتحول إلى أفلام ناطقة بفضل إضافة حوارات وتعليقات لم تكن موجودة في الأصل، وما كان مشاهدو أفلام شارلي شابلن في حينه بحاجة إليها كي يستوعبوا المعاني العميقة ويفهموا ما يحدث.
كانت تكفيهم البراعة الحركية والقدرات البهلوانية التي برع فيها شارلي شابلن ممثلاً، والتعبير البصري اللماح الذي أبدعه مخرجاً، وعمقُ الأفكار والمضامين التي كان يقدمها كاتباً للسيناريو، فيضحكون ثم يحزنون، ثم يضحكون حتى الثمالة.
الأزمنة الحديثة هو أحد أفضل أفلام شارلي شابلن الطويلة وأكثرها عمقا من ناحية المضمون والفكر. وهو فيلم صامت يعود زمن إنتاجه إلى العام 1936، أي بعد ما يقارب السبعة أعوام على اكتشاف السينما الناطقة.
كان يطلق على السينما الصامتة لقب الصامت العظيم ، لأن مخرجيها الكبار، ومنهم شارلي شابلن، استطاعوا أن يكتشفوا وسائل بصرية مبتكرة للتعبير أغنتهم عن الصوت والكلام المنطوق، وحين بدأت السينما تنطق تراجع التعبير البصري خطوات إلى الوراء فوُصفت بأنها بدأت تثرثر، لهذا رفض كثير من كبار المخرجين في حينه، ومنهم شارلي شابلن، الانتقال من سينما الصامت العظيم إلى السينما التي تثرثر.
تعبيراً عن موقفه الرافض للسينما الناطقة، ضمّن شارلي شابلن فيلمه الأزمنة الحديثة أغنية منطوقة أداها بطريقة ساخرة فيما هو يرقص في مقهى، مؤلفة من كلمات عشوائية لا رابط بينها، بل إنه استخدم كلمات من لغات عدة، وبعضها بلا معنى.
التعبير البصري الذي يستفيد من إمكانيات المونتاج الخلاّق والذي سمح للسينما الصامتة أن تنجح جماهيريا وتتطور فنيا في وقت كانت فيه التقنيات السينمائية بدائية، خصوصا بالمقارنة مع التقنيات الرقمية الحالية، وجعلها تستحق عن جدارة لقب الصامت العظيم ، هو أمر مختلف كليا عن المؤثرات البصرية التي أصبحت في عصر التقنيات الرقمية المتطورة ذات أولوية قصوى في توجهات السينما الجماهيرية، حيث صارت الأفلام تمعن أكثر فأكثر في الاعتماد على المؤثرات البصرية التي تفتح أمام صانعي الأفلام الجماهيرية الترفيهية آفاقا غير مسبوقة لتجسيد كل ما يبتكره الخيال البشري من صور غرائبية مبهرة.
التعبير البصري الذي قامت على أساسه السينما الصامتة وأورثته للمخرجين المبدعين زمنَ السينما الناطقة، بعد أن تخلصت هذه السينما من سكرة اختراع الصوت، جعل من السينما فنا مؤثرا ولغة إن صح التعبير.
فالمؤثرات البصرية الرقمية والخدع البصرية صارت تعيد السينما إلى الثرثرة، لكن لا الثرثرة الكلامية فقط، بل أيضا الثرثرة البصرية، فتكثر الصور المتلاحقة والمتداخلة التي تسعى إلى إثارة الدهشة بغرابتها، ويقل التعامل مع الصور الواقعية التي تساعد في علاقاتها المتبادلة على الوصول إلى التعبير البصري الفني ذي القيمة الجمالية.
شاهدتُ مؤخرا فيلم الأزمنة الحديثة من خلال نسخة دي في دي مضافا إليها الكلام المنطوق، بمعية مجموعة من الفتيان. لم أتوقف طوال فترة المشاهدة عن الضحك من أعماق القلب، رغم أنني شاهدت الفيلم سابقا مرارا. أما الفتيان الذين شاهدوا الفيلم معي فنادرا ما كانوا يضحكون، وذلك رغم فضولهم الذي كان يدفعهم لمتابعة أحداث الفيلم الذي حثثتهم على مشاهدته كي يتعرفوا على عظمة شارلي شابلن.
حين تفكرت في الأمر بدا لي الوضع طبيعيا، وأدركت أن الطبعات الجديدة المضاف إليها الكلام المنطوق من أفلام شارلي شابلن الكوميدية (والأصح، التراجيكوميدية) الصامتة، موجهة لجيل ناشئ لم يعرف هذا النوع من الكوميديا الراقية، وهو جيل لم يعتد فحسْب على السينما التي تثرثر وعلى الأفلام الكوميدية السائدة تجاريا والقائمة أساسا على النكات التي تعتمد على المفارقات اللفظية والحركات التهريجية المبتذلة والمقالب الفجة الخالية من أي ذوق أو خلق، بل ترسخت فيه هذه العادة بفضل إدمان مشاهدة برامج التلفزيون عامة، والكوميدية والترفيهية خصوصا، المليئة بالثرثرة الكلامية التي تغطي على فقر التعبير البصري.
رد مع اقتباس
marble fireplace!
المفضلات