بحث عن الهجرات العربية - بحث عن الهجرة العربية القديمة واماكنها

ان حضارات الوطن العربي في حدوده المعروفة مازالت اثارها الروحية والفلسفية والكفاحية تتراوح في اهميتها المعاصرة بين التبني من قبل المجتمعات الانسانية التي تضم الأسلام والمسيحية والموسوية وبين اهتمام الدارسين في البحث والتنقيب من قبل المعنيين في جميع ارجاء العالم .

ان تاريخ الحضارة البشرية في المنطقة العربية هو اطول مدى واكثر ثراء وعمقا واتساعا واكثر تسلسلا وترابطا ووضوحا وانسانية كما انه اكثر قابلية للدرس والبحث العلمي (1)

ان الأدوات الحجرية التي صنعها الأنسان والتي اكتشفت حديثا في ( العبيدية ) بجنوب سورية قد حدد تاريخها بأشعاع الكربون 14 بزمن ينحصر فيما بين
35000 – 52000 سنة , في هذه الحقبة الزمنية بالذات كان انسان الهلال الخصيب هو الأول من بني البشر الذي ابتكر فكرة الدفن لموتاه . وقياسا لذلك الزمن السحيق في القدم اعتبره الباحثون في مطاف ارقى الحضارات في عصره (2)

لقد اختلف الباحثون في تعيين المهد الأصلي الذي انطلقت منه الهجرات العربية الى كل من بلاد الرافدين والشام ومصر, و افترضوا مناطق عديدة. من قبيل :

منطقة ارمينيا او شمال غرب افريقيا ا و السواحل الشرقية لافريقيا ا وبابل ا وسورية ا ا وشبه الجزيرة العربية .

اما فيما يتعلق بأرمينية , فقد افترض الباحث – بيتر – بأنها ربما كانت المهد الاصلي للهجرات العربية , بانيا افتراضه على اساس توراتي , فقد جاء في التوراة ( سفر التكوين 8 : 4 ) ان سفينة نوح قد رست بعد انتهاء الطوفان في منطقة منابع نهري دجلة والفرات , و طبقا لما ورد في سورة هود في القرأن الكريم . - نزل من السفينة – حسب رأيه – نوح واولاده الثلاثة سام وحام ويافت , اما حام فقد لعن وطرد , في حين ان يافت ذهب الى بلاد بعيدة , ليكون فيها امة كثيرة العدد , ولم يبقى بجوار نوح سوى ابنه سام الذي انحدر من نسله الشعوب السامية . لكن المؤرخ مسكوني يعترض على هذه الافتراضية ويقول ان هذه الأخبار لم تحدث في زمن قريب حتى ناتي برواية تاريخية كهذه .

اما فيما يتعلق ببلاد الرافدين , فقد افترض العالم الأيطالي – جويدي - ان يكون العراق القديم هو المهد , فقد اهدته دراسته الى لفظة – نهر- الموجودة في اللغات السامية القديمة كالعربية والأرامية والبابلية والأشورية والسريانية . وعلى هذا الأساس استنتج الباحث ان منطقة بابل هي المهد الذي انطلقت منه الشعوب العربية مهاجرة الى شتى الارجاء.

اما الباحث الأمريكي – كلاي – فقد افترض ان تكون سوريا هي المهد كون ان موجات الهجرة التي كانت تصل الى بلاد بابل كانت تأتي من منطقة – امورو – في بادية الشام , لكن هذه النظرية هي الأخرى لم تلقى القبول بدليل ان سوريا كانت المعبر للقبائل النازحة وليست المصدر .

اما نظرية – بارتون – المتعلقة بشمال غرب افريقيا تستند على وجود التشابه في الخصائص الجسدية واللغوية بين الأحباش والبربر والعرب حسبما اعتقده الباحث , و ان القبائل العربية بدأت هجرتها من جبال الأطلس هناك متجهة نحو الشرق , حتى اذا ما وصلت الى الشطر الشرقي للقارة تفرقت , فقسم منها دخل مصر والقسم الأخر واصل السير واستقر في فلسطين وسوريا والباقون عرجوا شمالا ودخلوا العراق القديم واستقروا فيه .

بينما يعتقد الباحث العراقي - جواد علي - ان القبائل العربية كانت في العصر الحجري القديم منتشرة في السواحل الشرقية للقارة الافريقية , ويحتمل انها عبرت البحر الاحمر عبر مضيق باب المندب الى اليمن ومنها تفرقوا الى اتجاهات عدة .

اما النظرية المتعلقة بشبه الجزيلرة العربية فقد لاقت قبولا منقطع النظير من قبل معظم العلماء امثال – سبرنجر – وموسكاتي – وماير – وفيلبي – فهي التي اخذ بها واعتبرت المهد الارومي الاصلي لهجرة القبائل العربية. ( 3 )

اما اسباب هذه الهجرات حسبما اعتقد الباحث – جورج شايلد - فتعزى الى الجفاف التدريجي الذي حل في المنطقة العربية . اذ ان الشواهد والدراسات العلمية اكدت ان هذه المنطقة كانت مطيرة خلال عصر البلايستين قيل ثلاثين الف سنة . ومنذ ذلك الحين اخذ مناخها يتجه نحو الجفاف التدريجي ابتداء من العصر الحجري القديم حتى نتج من جراء ذلك اختفاء الكثير من الأنهار والأبار والواحات في المنطقة العربية مما خلقت ظروف اقتصادية خانقة اجبرت السكان المحليين الى ترك مناطق سكناهم والنزوح الى مناطق الهلال الخصيب الزاخرة بالانهار الكبرى .

ويضيف الباحث - شايلد - في كتابه – الشرق القديم – في ذلك الحين كان شمال اروبا ووسطها حتى جبال الهارتس والالب مغطاة بالثلوج . وكانت انهيارات الجليد تنحدر على السفوح في بطء لكي تذوب مياهها في قيعان الاودية . وكانت العواصف الثلجية التي تمر اليوم بأروبا تثور بصورة مستمرة فوق البحر الابيض المتوسط .

وكانت السحب المحملة بالماء تظلل اراضي افريقيا وجزيرة العرب وتهطل امطارا غزيرة على هذه المناطق طوال السنة . وكانت هذه الاراضي القاحلة اليوم اراض مكتظة بمزارع الخضر واشجار الثمر لكن الظروف المناخية تغيرت تغيرا جذريا , واجبر السكان ان تنزح شمالا بعد ان ضربها الجفاف , فكانت بداية الهجرات الجماعية
اما سبب تغيير مناخ المنطقة العربية يعود الى انحسار الجليد عن اروبا في عصر البلايستين , فقد كان الضغط الكبير فوق القطب الشمالي قديما يجعل الأعاصير الحاملة للمطر والقادمة من المحيط الأطلسي و التي تهب حاليا على القارة الاروبية , كانت تتخطى المنطقة الاروبية وتتجه نحو الجنوب , مكتسحة البحر المتوسط ومنطقة الصحاري في شمال افريقية و جبال لبنان حتى تصل الى بلاد الرافدين والجزيرة العربية . وهكذا فان الاراضي في بلاد العرب التي تعاني حاليا من الجفاف و العطش , كانت تتلقى في الماضي امطارا على مدار السنة فكانت اراضيها دائمة الخصوبة مغطاة بالعشب الأخضر الطويل , كما كانت تسرح فيها حيوانات مفترسة كثيرة .

يدعم الباحثون نظرية الجفاف التدريجي بتقديم شواهد حية , نشاهدها حاليا في مناطق عدة من شبه الجزيرة العربية اهمها منطقة معان والعلا التي تحولتا بمرور الزمن من مناطق خضراء ذات غابات واسعة الى اخرى صحراوية قاحلة , فمثلا كانت مدينة مكة المكرمة تمون بالأخشاب من غابات الطائف , المنطقة التي كانت تزخر بأشجار الفواكه حتى الى زمن قيام الدولة العثمانية في القرن السادس عشر . نعم لقد كانت الجزيرة العربية تنعم بأنهار كثيرة , تحمل مياه الأمطار العذبة الى المناطق الزراعية الكائنة حول المدن والقرى الزاهرة , مثل نهر الحمث الذي كان احد فروعه يغذي مدينة يثرب التي تغير اسمها الى المدينة المنورة في العام الاول من هجرة رسول الاسلام محمد اليها – كان هذا النهر يتجه غربا ويصب في البحر الأحمر . وكذلك وادي الرمة الذي كان نهره ينبع من موقع كائن قرب مكه المكرمة , يتجه شرقا ويصب في بحر عمان , بالأضافة الى ذلك كانت هناك شواهد تاريخية وجغرافية قدمها الباحث - جواد علي - يدعم بها نظرية الجفاف في تغيير المناخ , قوله : لقد اكتشف عمال شركة ارامكو الأمريكية في مناطق النفط الحالية في كل من نجد والقطيف والأحساء في العربية السعودية على صهاريج ارضية يتصل الواحد منها بالأخر بواسطة انفاق طويلة وعليها فتحات لأستقاء الماء منا . هذا دليل قاطع على ان هذه البقاع كانت في قديم الزمان رياض خضراء تكتنفها اشجار الثمر ( 4 )

يؤكد العلامه الامريكي الشهير - صموئيل نوح كريمر - ان تاريخ شبه الجزيرة العربية تاريخ موغل في القدم وان اولى الهجرات العربية التي خرجت منها الى بلدان الهلال الخصيب حدثت سبعة الاف سنة قبل الميلاد اي في عصور ما قبل التاريخ , وان وجود مستوطنات وتحصينات حجرية في المسالك التي استطرقتها الجماعات المهاجرة في كل من فلسطين وسوريا والعراق خير شاهد على ذلك ( 5 ) .

هاجر الأكديون , اولى القبائل العربية من شبه الجزيرة العربية في الالف الرابع ق م الى العراق القديم وامتزجوا فيه بالسومريين وكونوا شعب بابل الذي قدم للحضارة الأنسانية الكثير من ميراثها الثقافي , ثم تبعهم الأشوريون في الألف الثالث ق م , تلاهم العموريون الذين كانت قوافلهم تستهل سيرها من مدينة – مريابة – عاصمة سبأ في اليمن متوجهة نحو الشمال بمحاذات البحر الأحمر في سفر شاق طويل عبر الصحراء العربية القاحلة ذات الجو القائض وتحت اشعة الشمس اللاهبة و لشهور عديدة حاملة معها خطها العربي والهة معابدها حتى اذا ما وصلوا اخر المطاف الى - تيماء – نقطة التفرع , عندها كانوا يتفرقون , فقسم منهم يعرج شرقا بأتجاه مدن تدمر والبتراء ودمشق ويستقر فيها والقسم الأخر يتجه غربا و يدخل مصر عن طريق شبه جزيرة سيناء عبر وادي الحمامات او الطميلات , والباقيون كانوا يواصلون سيرهم شمالا حتى يدخلوا وادي الرافدين ويستقروا فيه نهائيا . اما في الألف الثاني ق م فقد هاجر الأراميون متخذين نفس الطريق المذكور , لكنهم استقروا في منطقة السماوة , المدينة الحالية والكائنة في حوض الفرات الجنوبي لكن قسما منهم كان يتوقف وسط الطريق و يستقر في سهل البقاع . واما الكنعانيون فقد هاجروا الى فلسطين منذ الألف الثالث ق م واستقروا فيها نهائيا وبذلك اصبحت ارض كنعان لهم الوطن الام الى يومنا هذا .

لكن قسما منهم سكن السواحل الشرقية للبحر المتوسط وسمو بالفنيقيين . و ان اولى الهجرات لعرب الجزيرة الى وادي النيل كانت من الشمال عبر سيناء حوالي 3500 ق م , اما الهجرات التي حصلت لهم الى مصر عن طريق الجنوب فكانت خلال الألف الأول ق م استهلها العموريون من اليمن بعد ان عبروا البحر الاحمر عبر مضيق باب المندب الى افريقيا ومن هناك واصلوا سيرهم بمحاذاة الساحل الغربي حتى وصلوا الى دلتا النيل واستقروا فيها , وقد ثبتت هذه الحقيقة التاريخية عن طريق الدراسات الأنثروبولوجية التي اجريت على بقايا الهياكل العظمية للعناصرالعربية التي هاجرت
( 6 ) ,

اما المناطق التي انتشرت فيها القبائل العربية بعد النزوح من موطنها الاصلي كانت مناطق الهلال الخصيب على وجه التحديد , خاصة بادية الشام وبلاد الرافدين , فظهرت مملكة الأنباط في البتراء مثلما ظهرت مملكة الغساسنة في حوران قرب دمشق , كذلك ظهرت مملكة المناذرة في الحيرة بالعراق ومملكة الحضر قرب مدينة الموصل التي اشتهرت في نحت التماثيل الصخرية . كل هذه الممالك برزت في الحقبة الزمنية حوالي 300 سنة ق م .

كما ظهرت في سهول تهامة قبائل عدنانية خلال اعوام 1900 ق م . اشهرها قبيلة مضر التي هاجرت الى نجد والى بادية الشام واستقرت فيهما . وقبيلة ربيعة التي سكنت الحجاز و انحدرت منها قبيلة بني اسد , وقبيلة كنانة التي هاجرت الى مكة المكرمة وانحدرت منها قبيلة قريش , و قبيلة تميم التي نزحت الى بادية البصره واستقرت فيها .

كانت الهة المعابد في البلدان العربية القديمة تتشابه مع بعضها , فألهة نجمة الصباح في اليمن كانت تناظر الهة الأشوريين عشتار , و كان كل من الهة الكنعانيين عشتروت و الهة القمر في حضرموت شبيهتان بألهة القمر عند البابليين . و كانت الهة بابل شمس تشبه الهة حضرموت شمش , ان التشابه بين هذه الألهة كان دليل قاطع على ان المجاميع البشرية العربية المتعددة قد انبثقت كلها من موطن واحد . ( 7 ) وفي سبيل التعرف على الطبيعة الاجتماعية للمنطقة العربية , كان لزاما علينا ان نلم اولا بعاداتها وتقاليدها وتاريخها واقتصادها .


والحدث التاريخي الهام الذي ظهر في منتصف القرن التاسع عشر هو امكانية معرفة الكتابة المسمارية وفك رموزها من قبل علماء اثار اجانب , وعلى اثر ذلك تيسر للمعنيين بدراسة التاريخ القديم للشعوب العربية التعرف على الكثير من الأسرار المبهمة و المتعلقة بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية في كل من مملكة اكد وبابل واشور التي كانت تكتب بهذا الخط . وبعد ان قراؤوها و استوعبوا خفاياها و قارنوها مع كل من اللغة العربية والعبرية والأثيوبية تبين لهم ان اشتقاقات هذه اللهجات تتلاقى جميعها في جذور افعالها . فالفعل في ابسط صوره مؤلف من ثلاثة احرف مثل كتب وقرأ . وكذلك في صيغ النحو و الصرف , و في بنية الكلام وتركيب الجملة كالفعل يسبق الفاعل والصفة تتبع الموصوف . وتبين كذلك ان مخارج بعض الحروف الحلقية مثل العين والحاء متشابهة , مثلما لاحظوا التشابه الواضح في استخدام بعض المفردات والأعداد والأسماء والضمائر .
وعلى هذا الأساس استنتج العلماء ان الشعوب الناطقة بتلك اللغات ترجع في انسابها واصولها الى اصل واحد سموه بالعنصر السامي . كما اطلقوا على اللهجات المتباينة مصطلح اللغات السامية , واخيرا اطلقوا على لغة المنبع التي انبثقت منها اللهجات العربية المختلفة مصطلح لغة الأم . هذا ما يذكره الباحث جواد علي ( 8)

اما من الناحية الأقتصادية فقد اصبح من الثابت ان حالة المناخ كانت تتحكم دوما في مصير الجماعات الصحراوية , فكانوا في الغالب يتركون مناطق سكناهم عندما تتعرض الى الجفاف وينتقلون الى اخرى صالحة للزراعة . هذه نزعة قديمة عند البدو يلمسها المرئ حتى في يومنا هذا .
ان التضاريس الأرضية في شبه الجزيرة العربية تتكون من صحاري , تحيط بمعظمها حافة ضيقة من الأراضي المسكونة المطلة على البحر من جهاتها الثلاثة ولهذا لم يكن للسكان خيارا اخر سوى التوجه نحو الشمال كلما عصفت بهم تغيرات مناخية صاعقة و التي تتبعها عادة ضائقات اقتصادية خانقة ولهذا السبب ظهرت الهجرات العربية منذ اقدم العصور هذا ما يقوله الباحث العراقي طه باقر( 9 )

لقد ظهرت بعض المراكز التجارية في سواحل شبه الجزيرة العربية في الماضي السحيق اشتهرت بالملاحة البحرية كمملكة مجان على بحر عمان , كانت لها علاقات تجارية مع بلاد الرافدين قبل ظهور الحضارة السومرية فيها . كانت بضائعها المصدرة تشمل فلزالنحاس والذهب والرخام الصلب الذي كان يدخل في صناعة نحت التماثيل للملوك والالهة . هذا ما يذكره الباحث العراقي رفيق التميمي
اما المملكة الثانية فكانت مملكة – تلمون – التي ظهرت على الساحل الغربي لبحر عمان في الالف الثالث ق م , كانت لها ايضا علاقات تجارية مع كل من السومريين والأشوريين والبابليين , فقد ورد في النصوص , ان الامير لجش كان يتقايض مع هذه الممالك , يستورد الحنطة والشعير والجبن وبالمقابل يصدر اليها فلز النحاس .
اما المنطقة الثالثة التي ظهرت فيها الحضارة العربية في التاريخ القديم كانت بلاد اليمن و ممالك المعينيين والسبئيين في منطقة حضرموت حوالي 1300 ق م . التي تميزت بعلاقاتها التجارية مع دول الجوار وكانت سلعها في الغالب تشمل التوابل والبخور والتمر والاحجار الكريمة .
يعتبر القرأن اصدق شاهد واصح مصدر للتاريخ العربي في العصر الجاهلي , ففيه اخبار العرب البائدة كعاد وثمود وملوك اليمن واصحاب الفيل وابرهم الحبشي والسيل العرم الذي سبب خراب سد مأرب , كان احد الاسباب المهمة في هجرة القبائل العربية الى اطراف متفرقة .
لقد ظهرت في مدينة اور في جنوب العراق القديم في المنطقة التي تدعى حاليا مدينة الناصرية على نهر الفرات مستوطنة بدائية تدعى مملكة العبيد – بضم العين – قبل مجيئ السومريين اليها , وكان شعبها يسمون بالفراتيين , كانوا خليطا من اقوام نزحت من بلاد فارس وامتزجت بأخرى قادمة من الجزيرة العربية حوالي 4500 سنة ق م كان قوام هذه المملكة عبارة عن قرى فلاحية بدائية متناثرة تمارس الزراعة و تفوق اهلوها في صناعة الفخاريات الملونة .
ان التاريخ القديم لحضارة جنوب العراق يقسمها العلامة صموئيل كريمر الى قسمين : الاول يبدا من تاريخ ظهور مملكة العبيد وينتهي بقيام الدولة السومرية . والقسم الاخر يبدا بعد قيام الدولة السومرية .
فالسومريون كانوا في بداية عهدهم عبارة عن قبائل بدائية, هاجروا من شمال بحر قزوين ومن منحدرات جبال قفقاسيا الى جنوب العراق القديم زمن مملكة العبيد و مملكة الوركاء واستقروا فيه و تعلموا بعضا من فنون الحرب من الساميين كخفة الحركة عند البدوي مثلا . بعد ذلك اصبحوا قادرين على غزوهم في الربع الأخير من الألف الرابع ق م . و هكذا اصبح العنصر السامي خاضعا لسيطرتهم . لكن هجرة الساميين المتواصلة من شبه الجزيرة العربية جعلت العنصر السامي محافظا على كيانه السامي في المجتمع السومري دون ان يتلاشى , علما ان مجمع الألهه السومري كان يضم عددا من الهة الساميين . كما وان اول جالية سامية في بلاد سومر كانت في مدينة كيش . التي كان ملوكها يحملون اسماء سامية , كما وردت في قواميسهم مفردات سامية ككلمة سلام كما هي في اللغة العربية و التي كانت تقابلها شلام في الأكدية وسيليم في السومرية . فأذا أخذنا كل هذه الثوابت الاثرية والتاريخية بنظر الأعتبار يمكن القول بشكل جازم ان الساميين كانوا قد هاجروا من الجزيرة العربية الى العراق القديم قبل مجيئ السومريين بحقبة من الزمن , ومهما يكن الأمر فالأخصاب الحضاري في جنوب وادي الرافدين قد افرزت عن مدنية راقية تجلت مظاهرها في الحضارة السومرية , اكثر الظن كان العنصر السامي هو الغالب فيها .
و عندما عثر المنقبون على اثار تاريخية تعود الى 3200 ق م في كل من منطقة الوركاء في جنوب العراق وفي نينوى في شماله وفي جمرة نصر في المسيب قرب بابل , يومذاك ادركوا ان هذه البقاع كانت في ماضي الزمان قد شهدت حضارات مزدهرة نسبيا معززة بكتاباتها المسمارية المتطورة لو قيست بالكتابات الهيروغلوفية في مصر الفراعنة .
كما تاكد كذلك ان هناك كانت اوجه شبه بين الحضارتين المذكورتين مصر والعراق في صناعاتها اليدوية , كما ظهرت في اباريقها الفخارية التي كانت بطونها واعناقها متناظرة في الشكل , وكذلك نماذج من خرائط معمارية ورسوم سفن وادوات صوان واواني معدنية و اخرى حجرية ونقوش جدارية واختام الملكية التي يرجع تاريخها الى 3200 سنة ق م , كل هذه الكنوز التاريخية كانت قد اكتشفت في التنقيبات الأثرية في كل من وادي الرافدين ووادي النيل , فقد كانت الدولتان تشتركان بمظاهر الحضارة القديمة بفضل العلاقات التجارية الوطيدة التي كانت تربط المملكتين مع بعضهما منذ الاف السنين . ( 10 )
كانت منطقة الشرق الادنى في هذه الحقبة الزمنية من تاريخ الحضارة البشرية تحتضن اقدم حضارتين انسانيتين على وجه الأرض , اي قبل اكثر من خمسة الاف سنة لا تضاحيها حضارة بشرية اخرى على الأطلاق , هما الحضارة السومرية في وادي الرافدين والحضارة الفرعونية في وادي النيل . والظاهر ان الذي اسرع بتقدم حضارات الشرق الادنى هو قيامها في مواقع جغرافية متوسطة في العالم القديم , فلا بد ان مكتشفات السومريين مثلا كانت تصل الى المصريين القدماء عن طريق القوافل التجارية , والعكس صحيح . فاعطى هذا التبادل الحضاري غير المقصود دفعات قوية لنشوء الحضارتين المذكورتين .

ان اولى الهجرات العربية التي انبثقت في صدر الأسلام من الحجاز الى الأطراف الشمالية لشبه الجزيرة العربية كانت تشمل جنود جيش الأسلام وقد رافقتها اعداد كبيرة من المدنيين زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) متوجهة الى العراق عام 636 م والى مصر عام 639 م , بغية نشر الأسلام فيهما .
ثم تبعتها هجرات جماعية متناثرة الى بلاد الرافدين الى ان اطل القرن الرابع عشر الميلادي حتى اشتد زخم الهجرات لتشمل قبائل المنتفك العدنانية وقبائل الزبيد القحطانية ثم عشائر الخزاعل وبنو لام وفرازه وعقيل ونمير وغشير , ثم تبعتها قبائل ربيعة والعبيد والحميرية وصائح وشمر الطوقة ثم لحقت بها بعد حقبة زمنية عشائر بني تميم وعنزة والظفير وحرب وجبور وشمر الجربة , وفي اواخر القرن العشرين وصلت الى العراق اخر مجموعة من عشائر البو محمد واستوطنت مناطق الاهوار في محافظة العمارة واستقرت فيها نهائيا وبهم انتهى تاريخ الهجرات العربية لبلاد الرافدين بشكلها الجماعي , هذا ما يذكره المؤرخ حنا بطاطو.
والجدير بالذكر ان اسباب الهجرات العربية الأخيرة التي حدثث خلال القرن الثامن عشر اختلفت في جوهرها عن سابقاتها , كون ان الأولى كانت تكمن في تغييرات المناخ وما يعقبها من حالة الجفاف والتصحر , بينما اسباب الهجرات في الثانية كانت تكمن في ظهور الحركة الوهابية في الحجاز بقيادة محمد عبد الوهاب الذي استعمل اتباعه اسلوب العنف في تغيير معتقدات المسلمين مما حدى بجماعات كثيرة من السكان المحليين الى ترك مناطق سكناهم حفاظا على ارواحهم والألتجاء الى البلدان الأمنة في الشمال كان العراق في مقدمتها .
ان القبائل العربية التي هاجرت الى العراق عبر تاريخه الطويل قد دونت اسمائها وتاريخ وصولها في السجلات الرسمية لدى الحكومات العراقية المتعاقبة وهي التي شكلت في النهاية البنية التحتية لخارطة سكان العراق الحديث , وان الذين يدعون بحداثة شعب العراق ادعاء باطل تدحضه الثوابت التاريخية هدفهم النيل من عروبته .
( 11 ) .
لقد هاجر الى بلاد النهرين بعد الفتح الأسلامي المبين جماهير غفيرة من الصحابة واعلام الفكر ساهموا في توطيد حضارته الموفورة بعدما قاموا بتصحيح اللغة العربية طبقا للغة القرأن البليغة , وبذلك غدت العربية اكثر كفاءة على المناورة وامضى قدرة في التعبير مما كان له اكبر الأثر في انشاء مدارس النحو في كل من الكوفة والبصره التي ساهمتا في تنشيط الحركة الأدبية والدينية والفلسفية التي لامسنا ثمارها الحلوة وتجلياتها الأبداعية في الأحتفالات السنوية المشهودة في مهرجان المربد كان معظمها مزيجا من الأدب في اروع صوره او في العلوم العقلية في ابهى مظاهرها