كتب د. حسين محمود

في الصغر كانت الكتب تعني فقط كتب المدرسة، ينوء ظهري بحملها، وينوء عقلي بتحملها. لم تكن الأحوال الاقتصادية العسيرة تسمح لنا باقتناء كتب أخرى. ربما كان هذا هو السرّ في تفوُّقي الدراسي، فقد كنتُ أقرأ كتب الدراسة بنهم، سواء أكانت كتب العلوم أم كانت كتب الأدب، رغم أنها كانت جميعاً رديئة الكتابة وقبيحة الإخراج. أحببت كتب الهندسة لأنها لا تعبّر عن نفسها بالكلمات، بل بالقوالب، وكنتُ أفهم الفيزياء والأحياء من الرسومات التوضيحية، وأبتدع لها أنا النص المكتوب.

وفجأةً اكتشفت الأدب. لم تتحسَّن الأحوال الاقتصادية، ولكن ظهرت في الحي الشعبي الذي كنت أسكنه بدعة جديدة بين الجيل الذي يكبرني ببضع سنين، تمثّلت في تبادل الروايات، فكان الواحد يشتري رواية، والآخر يشتري أخرى، ثم ينتهي
كلّ واحد من قراءة روايته ويعيرها للآخر، ويستعير منه روايته. كان هذا سبيلاً للتغلّب على الفقر عن طريق تقليل
النفقات.

سحرني الأدب بلا شك، ولكن الذي ربطني به إلى الأبد هو ما كانت توفِّره القراءة من سمعة وصيت ومقام. اكتشفتُ فتنة أن يقال عني إني «مثقَّف»، واكتشفت أنني أحب أن يقال عني ذلك. التجربة الأولى كانت مشجِّعة للغاية. كان مدرِّس التاريخ في المدرسة الإعدادية يطلب إلينا أن نقوم بتحضير موضوع الدرس القادم، وينتخب منا تلميذاً يحاضر في زملائه
في موضوع الدرس. وكان حظّي عندما اختارني، أنني أعددت موضوع الدرس في مكتبة الحي
(كان لدار الكتب المصرية فرع في كلّ حي، وكانت مكتبة حيّنا تقع في شارع خلوصي)، وقرأت كتابين عن الموضوع في أقل من أسبوع، منهما كتاب لجورجي زيدان. وحاضرت فيما أعددته، وصفَّق لي الفصل كلّه وأعطاني الأستاذ «عاطف» العلامة الكاملة.

كانت القراءات الأولى التي وفَّرَتْها بدعة التبادل بين شباب الحي معظمها لروايات كانت شعبية في وقتها، ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس، وكانت تتسم بلغة سهلة وإيقاع سريع، وإثارة حسيّة، ناسبت فترة المراهقة. ثم جاءت كتب أنيس منصور بما فيها من غموض وأسرار وثقافة قارئ نهم لكتب الآخرين.
رويداً رويداً بدأتُ أبحث عن كتّاب آخرين، فعرفت عبد الرحمن الشرقاوي، وزكي نجيب محمود، وعندما وصلت إلى المدرسة الثانوية درسنا كتباً للعقاد، ولطه حسين.

ربما كان طه حسين هو السبب الذي جعلني أكتشف سحراً آخر في القراءة. كانت لنا زميلة جميلة، ينشد جمالها كل الصحاب، ويتمنّون منها ولو نظرة. وكانت لديها مشكلة واحدة: أنها لا تفهم رواية طه حسين «الأيام» التي كانت مقرّرة على طلاب الثانوية العامة في وقتها. لم أصدق نفسي وأنا أشرح لها هذه الرواية، فقد كنت جالساً على مقعد وثير، وكانت هي جاثية على ركبتيها أمامي تستمع إليّ بانتباه، ثم بسرور، ثم رسمت على وجهها ابتسامة استمتاع، وفي نهاية الدرس شكرتني بكلمات اعتبرتها من روائع قصائد الغزل. لا أذكر كلماتها، ربما كانت كلمات بسيطة لا تحمل كلّ هذه المعاني التي أحسست بها، ولكنها كانت كافية لأن أعود إلى بيتي في ذلك المساء وأنا أكاد أطير فرحاً.

إن كتاباً يمكن أن يصبح مفتاحاً لقلب امرأة ، هو السرّ الذي ربطني دائماً بالقراءة.

العلاقة العاطفية تبدأ بنظرة، فابتسامة، ثم كلام في الكتب، أو عن الكتب، أو من الكتب. رأي نقدي، قصيدة، قضية فلسفية. كلّه يصلح. وهكذا لم أفارق الكتاب، ولم يفارقني، وحلمت أن يكون لي كتاب يقرأه الناس فأصبحت لدي عشرات الكتب.

وللكتاب خاصية حيوية، فأنت لا تكتفي بقراءة كتاب واحد، لأن الكتب يشدّ بعضها بعضاً. وبعض الكتب تحمل أسراراً لا يفكّ شيفرتها إلا كتب أخرى. قرأت مسرح الحكيم فقادني إلى مسرح يوسف إدريس، والشرقاوي، وعبد الصبور، ثم عرفت مسرح محمود دياب، ونعمان عاشور، وميخائيل رومان. وقادني صلاح جاهين لقراءة فؤاد حداد، وبيرم التونسي. أحببت الثقافة العربية من قراءة الشعر الجاهلي، وأحببت شعر امرئ القيس على نحو خاص.

ولكن، ظلّت الرواية هي سيدة ما أفضّل قراءته.
وروايات نجيب محفوظ هي التي جعلتني أحب روايات جـــــوركـي ، وديسـتوفـسـكي

منقول