«كيفــك إنتـــي»
صحيح أن زياد الرحباني بدأ بالتلحين لوالدته في سن مبكرة للغاية، السابعة عشرة من عمره، عندما تصدى لتحلين أغنية (سألوني الناس) سنة 1973، ووقتها كان والده في المستشفى، ولكن ذلك لا يعني أن زيادا كان يستفيد من وضعيته تماما بوصفه الإبن الوحيد للمطربة اللبنانية الأولى، وواحدة من أساطير الغناء العربي، بغض النظر عن كل شيء، هو ملحن موهوب ومن طراز رفيع، ليس على المستوى اللبناني ولكن على مستوى الموسيقى العربية ككل، وإذا كانت المرحلة الأولى التي أسست أسطورة فيروز تنتمي بالضرورة إلى التمازج والتماهي في مشروع الإخوين رحباني، عاصي ومنصور، مع وجود اسهامات لملحنين كبار مثل فليمون وهبي، إلا أن المرحلة الثانية، أو ما بعد (كيفك إنتا)، أثبتت إلى اليوم أنها لم تكن مجرد معابثات لحنية أو تجريبية يتقدم بها زياد الرحباني مستغلا وضعه من السيدة فيروز، وإنما تأسيسا لمدرسة جديدة في الموسيقى والغناء العربي، مدرسة تحتاج إلى مطربين ومؤدين من طراز رفيع، واستثنائي، هي مدرسة قريبة مما قدمه الفرنسيون في الستينيات والسبعينيات، مثل جورج بارسينس، وجلبرت بيكو، جاك بريل، ليو فري،
تيار كامل من التجديد في الجملة الشعرية واللحنية.
فيروز ما زالت تشكل ظاهرة في حد ذاتها، ولا يوجد سوى مغنيتين في العالم العربي تمكنا من حجز مكانة ثابتة وإجماعية في الطقوس اليومية والعاطفية والإنسانية لدى المستمعين العرب، وبينما سيطرت أم كلثوم على المساءات حيث يهبط الليل بكل قدرته على التأثير وتهييج الحنين والشوق وميول العزلة والتوحد، فإن فيروز كانت دائما سيدة الصباحات التي تأتي محملة بالأمل والبراءة، في صوتها كيمياء غرائبية من البساطة والرفعة والشفافية، حساسية مفرطة في أدائها، صوتها وحده يأتي كافيا وفياضا بحيث لا يحتاج إلى محاولات الاستعراض، هي تغني أحيانا وكأنها تتحدث، ويأتي حديثها وكأنه يعرف عنوان كل قلب على حدة، وتفاصيله الداخلية، يعرف أن يستريح، وأن يساوره التعب، يعرف أسماء ساكنيه، والعابرين، والمنتظرين، ويعرف الأمنيات التي تبقى بعيدة في زاوية مهملة كما يضع الناس ذكرياتهم في صندوق صغير في الدرج الأخير من خزانة الملابس، وفيروز تبقى فيروز حتى (لو كحت) كما وصفها أحد الصحافيين في يوم ما، عندما تكاثرت الانتقادات عليها عندما غنت (كيفك إنتا) للمرة الأولى، وكان يراها خروجا عن تقاليدها القديمة وعن المرحلة الرحبانية المؤسسة لأسطورتها، ولكن فيروز تمكنت في مرحلتين من أن تبقى هي نفسها، وأن تعطي لكل شيء من شخصيتها وكأنها روح خام حاضرة لكل تشكل.
فيروز صامتة وبعيدة، عملت دائما على أن تنأى بالتصريح عن أي موقف في بلد يعتبرها أيقونته، وكان كافيا لفيروز أن ترتكب خطيئة التعبير عن رأيها وعن مواقفها لتحدث الإنقسام، ولتتحول أغنياتها إلى طبول للحرب، ولكنها بقيت في معزلها تغني للوطن بأكمله، دون تفاصيل كثيرة، تغني للناس الذين هم أصلا أشرار أو أخيار وفق خيارهم الشخصي، وليس وفق ما يرثونه عن آبائهم أو أجدادهم، سواء من الثروة أو الثأر، ذلك لا يعني أن الفنان يجب أن يكون بدون شخصية، كثير من المغنين والملحنين والشعراء كانت لهم مواقف سياسية، وكانوا ملتزمين بها، ويرون العالم من خلالها، ولكن أحدا منهم لم يكن بقيمة فيروز، أو مكانتها، فهي ارتفعت بحيث لا تمسها الأيدي، ولا تنتزعها نحو الأرض التي يتصارع عليها الناس، فيروز صوت أثيري، شفيف، عادته دائما أن ينطلق إلى السماء مثل بالونات ملونة يطيرها الأطفال ويبقون مبتسمين.
السيدة، تلك، التي تستثير فينا حصاد الطفولة المتبقي في الروح، على الرغم مما وضعته الحياة من بصماتها عليه، لا يمكن أن تختزل في موقف سياسي أو فكري، هي فقط ترى وتتأمل وتعبر عن نفسها ببساطة ودون تكلف، وفيروز لم تكن في حياتها كلها، بالنسبة لمستمعيها وعشاقها، ظاهرة من لحم ودم، لو أن الناس تعاملت مع فيروز بوصفها امرأة في الأساس وقبل أي شيء، لما عشقتها حد الجنون والإدمان، بقيت بعيدة بحياتها الشخصية ما استطاعت، ولم نكن يرغب العشاق في أن ينزلوا الأيقونة ليضعوها على كرسي الاعتراف، أو سرير التشريح، بقيت بالنسبة لهم غير ملموسة، غير محاطة بالإدارك العادي واليومي، بقيت غائمة وضبابية، مثل جميع المدن الحزينة في الأرض، وجميع القرى التي تنام مبكرا.
لا يمكن أن تتحول فيروز إلى موضوع للجدل والخلاف والانشقاق، هي التي دائما ما جعلت الناس يتناسون هذه النزعة الذاتية في أنفسهم، ويعودون إلى منابع الوجود الإنساني، حيث الإنسان بريء من التفاصيل الصغيرة، وكأنه يبصر لحظته الأولى على الأرض، فيروز كانت تعطي لكل يوم شخصيته وكأنه يوم جديد تماما، مع أننا نعيش في حلقة مفرغة من الأيام المتشابهة والمكررة، وكلنا مربوطون إلى نفس الدائرة المفرغة، فيروز كانت في مركز تلك الدائرة من الناحية المعنوية والنفسية والعاطفية، ولا يمكن أن تستقطب إلى أي من زواياها، مع أن الدائرة تفتقد لفكرة الزاوية، أو تحققها بصورة مبالغ فيها، فيروز التي تطرفت بالجميع ليروا العالم بريئا وبسيطا وفي متناول اليد كما يعتقد جميع الأطفال في العالم، لا يمكن أن تدفعهم إلى زاوية ضيقة من الاختلاف والتصارع عليها وحولها ومن أجلها.

كيفك أنت - زياد رحباني

بتذكر آخر مرة شفتك سنتا
بتذكر وقتا آخر كلمة قلتا
وما عدت شفتك
وهلّق شفتك
كيفك إنت ملّا إنت
بتذكر آخر سهره سهرتا عنّا
بتذكر كان في وحدة مضايق منّا
هيدي إمّي
بتعتل همّي
منّك إنتا ملّا إنتا
كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد
أنا و الله كنت مفكّرتك برّات البلاد
شو بدّي بالبلاد
الله يخلّي الولاد
إي كيفك إنت ملّا إنت
بيطلع عبالي
إرجع أنا وياك
إنت حلالي
إرجع أنا وياك
أنا وانت ملّا إنت
بتذكر آخر مرة شو قلتلّي
بدّك ضلّي بدّك فيكي تفلّي
زعلت بوقتا
وما حلّلتا
إنو إنت هيدا إنت
بترجع؟ ع راسي
رغم العِيَل والناس
إنتا الأساسي
وبحبك بالأساس
بحبك إنت ملّا إنت

عن الرأي .. سامح المحاريق