لم توصف اللغة العربية بأنها اللغة الفصيحة وإن كانت تطلق عليها أحياناً في إشارة إلى لغة معينة وليس على الإطلاق كقولهم (وتكلم بلغة فصيحة) وإنما توصف بأنها اللغة الفصحى، وهذا يعني أن هناك لغات عربية عديدة فصيحة وهذه اللغة هي الأعلى مقاماً وهي اللغة النموذجية التي اصطلح عليها باللغة الفصحى أي الأكثر فصاحة، وقد انتخبت من لغات عديدة للعرب كلها فصيحة في مقابل لغات أخرى غير فصيحة، ولذلك قال أبو عمرو بن العلاء: (أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم)، وعندما سأل الكسائي الخليل بن أحمد: من أين علمك هذا؟ أجاب: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، وعندما سئل أبو عمرو بن العلاء عما وضعه مما سماه عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ وكيف يصنع فيما خالفته فيه العرب وهم حجة؟ قال: أقيس على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات، واللغات في مصطلح القدماء تطلق على ما نعرفه اليوم باللهجات، فهناك لغة قريش ولغة هذيل وتميم وأسد وثقيف وهوازن وغيرها. ومن هذه اللغات الفصيحة انتخبت اللغة الفصحى، وهذا يعني أن علماء اللغة الأوائل والأفذاذ اشتغلوا على جمع اللغات ودراستها ووضع أصول لها وقواعد أصبحت حجة إلى نهاية القرن الثاني الهجري في الحواضر والقرن الرابع في البوادي.
ومع امتداد الزمن وتعاقب القرون واستخدام الأجيال لم تعد الفصحى هي الفصحى ولا اللهجات أو اللغات هي اللغات، وكثيراً ما تخيل الناس لو أن امرئ القيس ركب مكعب الزمن وجاء إلى زمان الناس هذا كيف يتلقى اللغة وما مقدار فهمه من حديثهم وإن كان بالفصحى، أو لو أن طالباً من طلاب المدارس أو الجامعات انتقل عبر آلة الزمن إلى العصر الجاهلي كيف يتواصل معهم والخطاب الذي يتوسله في الحديث إليهم، ثم دخلت لغات غير عربية ضمن نسيج العرب المتحدثين فهناك بقايا السومرية في بعض قرى العراق، وأطراف من السريانية في قرى متفرقة من سوريا ولبنان، وقليل من الحميرية في بلاد اليمن، والسواحلية في أطراف من السودان والصومال وإريتريا مختلطة باللغة الأمهرية، وجميعها تشترك مع العربية في الأصل السامي ومنها العبرية التي انتشرت في فلسطين المحتلة ثم الانتشار الكبير للأمازيغية في بلاد المغرب العربي حتى انتقلت هذه اللغات من ثقافات ولغات شفوية إلى لغة مكتوبة كلغات الدنكا والنوير في جنوب السودان والكردية في شمال العراق وسوريا.
ووسط هذه الأمشاج المتنافرة والمختلفة من اللغات السامية والحامية والآرية تسير اللغة العربية مثقلة بخليط من المعرب والمولد والدخيل وسط جهل أبنائها بلغتهم وعجز علمائها عن النهوض باللغة ونشرها والحفاظ على فصاحتها، وكأن الأمور متروكة لعاديات الزمن وتغول اللغات الأخرى واللحن على اللغات الفصيحة بعامة واللغة العربية الفصحى خاصة.

منقول
الأربعاء : 04/12/2013
الكاتب : د. عثمان بن محمود الصيني