الكذب.. صراع المنافق إذا حدّث !
نضال حمارنة - الكذب فعل مناف للاخلاق، ينبذه الجميع ، وبنفس الوقت يمارسه الجميع وإن تعددت واختلفت أسبابه ؛ أكان فردياً أو جماعياً ، خاصاً أو عاماً ، بأهداف أو بغير أهداف .
..وهناك «الكذب المؤسساتي» يختلف عن كذب الأفراد وحساباتهم ، وقد ابتدع الكذب بداية بسبب الخوف من قول الحقيقة وأضفي على هذا النوع تعبير (التحايل) لأن الكاذب في هذا المقام يضطر للكذب عن طريق التورية أو ليْ الحقيقة أو نكران معرفتها لحماية نفسه أو حماية مجتمعه الصغير وقوت يومه ، ويكثر هذا النوع من الأكاذيب في المناطق الأكثر فقراً والتي تعتمد على الاقتصاد الجماعي بخاصة الزراعي .
درجات
للكذب درجات كما صنفتها اللغة ، ومترادفات منها التقوّل والإفك والتضليل والخداع والافتراء والإيهام والغش والمخاتلة والنصب والاحتيال والتزوير والتزييف والمكر والدهاء والإيقاع في الأحابيل وغيرها . وهناك الكذب الساذج البسيط ، والكذب المنهجي المبرمج من أجل هدف خفي .
وفي بعض المجتمعات الأقل حظاً ، نلاحظ انتشار الكذب بلا أسباب حتى نحسب أنه أصبح عادة متبعة دون وجاهة أو مأرب أو غاية ، كما نتألم عندما نشاهد طفلاً يغرقنا ويغرق نفسه بأكاذيب لا حصر لها إما من خوف وجبروت ترعرع في جنباته وإما من بيئة ارتوى من أساليبها في التعاطي مع المواقف .
فهل للكذب وظيفة حيوية لحياة الفرد والجماعة ؟.
أو أصبح واقعاً بسبب ما يحدثه من متعة وما يرفعه من قلق ! كونه ينفك عن عالم الضرورة والإكراه بتجاوز ما ينبغي أن يكون . كتب الفيلسوف نيتشه :» بدون المفاهيم الخاطئة ، والصور الخيالية ، والأوهام اللاواقعية ، تبدو الحياة مستحيلة ومقرفة .. بل حتى العلم نفسه غير قابل للتصور بدون أساطير واستعارات .» هنا يتحدث نيتشه عن الخيال والإبداع هذا إذا صحت تسميته كذباً ، فالخيال في الشعر والقص والروايات العلمية ربما لايصنف ضمن مفهوم الكذب كفعل مباشر يطال الفرد والجموع وأهل الكرة الأرضية جمعاء فيدخل ليصبح من صميم حيواتهم ، فيتنفسون كذباً ويئنون تحت وطأة مجافاة الحقيقة .
وللكذب شروط ؛ فلكي يكون الإنسان الكاذب كاذباً عليه أن يعرف الحقيقة ويرفض البوح بها ، أو ينال من موضوعية الحقيقة ويتعمد تشويهها ، أو يختلق حقيقة بديلة لا أثر لها في الواقع ، ومن ثم يعيد تمثيلها على هوى رغباته وأسبابه ، بإخفاء شيء بشيء آخر ، أو إظهار شيء غير موجود أساساً ، أو إنكار شيء موجود .
هناك من يطلب ويلح
هناك علاقة جدلية بين الكاذب والمكذوب عليه ؛ فالكاذب في بعض الأحيان يكذب لأن هناك من يطلب ويلح عليه أن يكذب ( كإعلامي ، أو مسؤول في تنظيم سياسي ، أو مدير علاقات في أحد المصانع أو احدى المؤسسات المالية الكبرى ..) وتكمن الإشكالية في المتلقي ( فرداً كان أو جماعة ) الذي يعرف أن فاعل الكذب يكذب عليه ومع ذلك يستمر في التلذذ بكذبه وقبوله كما لو أنه عين الحقيقة ؛ كأنه ينتشي بالأوهام ، أوهام تدغدغ أحلامه ، كونه يتمناها في قرارة ذاته أن تكون الحقيقة ؛ يحدث ذلك في أحيان كثيرة لدى أحد طرفي حالة العشق ، أو بين السياسي وجماهيره .
الفلاسفة والكذب
الكذب بتنويعاته ؛ اجتماعي أو أخلاقي أو حقوقي أو سياسي فصاحبه مضطر لتقديم الوعود وإخفاء الحقيقة أو تزييفها وإظهارها بمظهر آخر غير الذي عليه لكي يكسب قوة أو شرفاً أو مكانة بين ذويه وأهله . بينما حين تناوله الفلاسفة عبر التاريخ في كتبهم ومقالاتهم من أفلاطون وأرسطو وأوغسطين وميكافيللي وغيرهم ؛ دخلت تحليلاتهم ومواقفهم إما في مجال الأخلاق ، أو في مجال نصائح الحكام ، ومن اللافت أنها جميعاً تمحورت في مجال الكذب السياسي . وكل هؤلاء الفلاسفة كانوا ينظرون لعوام الشعب بصفتهم مسيّرين . أما في الفلسفة المعاصرة فقد كاد ( الكذب السياسي) أن يتحوّل إلى مفهوم نظري مستقل تدور حوله مجموعة من المفاهيم والإشكالات والنظريات والنقاشات ، حتى أضحى الكذب السياسي في نظر هذه الفلسفات جزءا بنيوياً من العمل والفعل السياسي بعامة سواء أكان ديموقراطياً أو استبدادياً أو ليبرالياً أو شمولياً ، تنويرياً أو اصولياً .. فالسياسيون يجدون دائماً من المبررات العملية (الوجيهة) بل والأخلاقية المقنعة لممارسة كذبهم وتلفيقاتهم وهم مرتاحو الضمير ، طالما أنهم يؤمنون بأنهم يخدمون قضية مقدسة . فالسياسي البارز لا تهمه الحقيقة ، بقدر ما يهمه الفعل الذي يحوّل اللاحقيقة أي الكذب إلى حقيقة . كما يلتقي في استعمالاته السياسية والأيديولوجية خصوصاً حينما تتخذ معنى قلب الحقائق وتحريفها عن معناها الأصلي سواء تعلق الأمر بالفكر أو بالعمل ، والدعاية بأنواعها السوداء أو البيضاء أو الرمادية .
كما انتهت الفيلسوفة حنة أرندت إلى تقسيم تاريخ الكذب إلى مرحلتين كبيرتين ؛ المرحلة الكلاسيكية والمرحلة المعاصرة ، التي أصبح فيها الكذب كولونيالياً عولمياً بفضل تقنيات الصورة والتواصل والإشهار والدعاية القائمة على نظريات علميّ النفس والاجتماع .
ففي هذا العصر لم تعد الموجودات هي الموجودات ، ولا الحقائق هي الحقائق « إذ لاشفافية في المعلومات « بل صارت مجرد تأويلات تخدم استراتيجيات مُعدة سلفاً ، إذ لم يعد الإنسان يحب أن يرى الأشياء كما هي ، بل صار يهوى رؤية الأشياء كما يتوهمها ويؤولها من منظوره الذاتي ووجهة خدمة نظرته الخاصة .
مقاصد للكذب
للكذب مقاصد بالذات لدى العشاق ، فهم يظهرون بأبهى صور لهم يقدمون أفضل ما لديهم أو ما ليس لديهم لاستمالة المعشوق /المعشوقة واستدراجه لحالة التعلق القصوى به ، والإحاطة بعواطفه وسكناته حتى الإيقاع بشباكه دون رجعة . وما أن يأمن لجيشان حبه وشدة هواه ويصل إلى مقصده ، نراه يرمي كذباته الصغيرة وتألقه الزائف راجعاً إلى حقيقته التي قد يراها حبيبه مُرّة .
وللكذب السياسي مقاصد متعددة ، فهو ليس موجهاً دائماً لخداع العدو أو الخصم ، بل قد يكون موجّهاً للاستهلاك المحلي أو للدعاية الخارجية أو لخداع المؤسسات التشريعية الداخلية في استصدار أمر بالحرب أو بالسلم أو بالاستسلام ، ويضطر السياسي إلى الكذب لأنه منحاز إلى جهة معينة ، فهو لا يستطيع قول الحقيقة طالما أنه متورط في التزامه بحزب أو بسلطة أو بدولة خارجية .
ولطالما حفلت أمثالنا الشعبية ، وأغانينا الشعبية بصور وتعبيرات تحاور فيها كلمة الكذب وتنوعات معانيها بصيغة كوميدية أحياناً وبحالة ميلودرامية أحياناً أخرى .
وأختم بما كتبه الفيلسوف المتصوف محي الدين بن عربي في كتاب «الفتوحات المكية» : « فإن المفتري صاحب حق خيالي ، لا حق حسي ، فإنه لا يفتري المفتري حتى يحضر في خياله الافتراء والمفترى عليه ويقيمه في صورة ما أفترى به عليه .»
«لا تكذبي»
شعر الشاعر المصري:
محمد عبد الوهاب
لا تكذبي
لا تكذبي ..
إني رأيتكما معاً
ودعي البكاء فقد كرهت الأدمعا
ما أهون الدمع الجسور، إذا جرى
من عين كاذبة فأنكر وادعى
إني رأيتكما ..
إني سمعتكما ..
عيناك في عينيه
في شفتيه ، في كفيه، في قدميه
ويداك ضارعتان
ترتعشان من لهف عليه
لا تكذبي ..
تتحديان الشوق بالقبلات
تلسعني بصوت من لهيب
بالهمس .. بالآهات
بالنظرات .. باللفتات ..
بالصمت الرهيب
ويشب في قلبي حريق
ويضيع من قدمي الطريق
وتطل من رأسي الظنون
تلموني وتشد أذني
فلطالما باركت كذبك كله
ولعنت ظني .
لا تكذبي ..
ماذا أقول لادمع سفحتها أشواقي إليك ؟
ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفا عليك ؟
أأقول هانت ؟
أأقول هانت ؟
أأقولها ..
لو قلتها أشفي غليلي
يا ويلتي .. لا لن أقول أنا ، فقولي
لا تخجلي . لا تفزعي مني فلست بثائر
أنقذتني من زيف أحلامي
وغدر مشاعري
فرأيت أنك كنت لي قيدا
حرصت العمر ألا أكسره
فكسرته
ورأيت أنك كنت لي ذنبا
سألت الله ألا يغفره
فغفرته
لا تكذبي ..
كوني كما تبغين
لكن لا تكوني
فأنا صنعتك من هواي
ومن جنوني
ولقد برئت من الهوى ومن الجنون.
..ويضعنا الفيلسوف الشاعر اللبناني جبران خليل جبران ،امام الحقيقة في مواجهة الكذب :
« إذا كذب الإنسان كذبة لا تؤذيك ولا تؤذي أحداً غيرك فلماذا لا تقول في قلبك:
إن بيت حقائقه لا يسع خياله ولذلك يتركه الى فضاء أرحب؟ «
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو عبد الله محمود
المفضلات