سامح المحاريق - أعاد اليهود إنتاج قصة الذبيح، بتغيير بسيط، ولكنه جوهري للغاية، فالذبيح حسب الروايات التوراتية هو اسحق، وليس أخاه غير الشقيق، اسماعيل، والمقصود، أن الذبيح كان يجب أن يكون أحب أبناء النبي ابراهيم لنفسه، لتكون فكرة التضحية كاملة في وجعها وألمها، واستكبرت العقلية اليهودية أن تكون تلك المكانة لإسماعيل الابن البكر لإبراهيم من زوجته المصرية هاجر، وربما يكون ذلك سببا جوهريا أن الدين يورث في اليهودية من جهة الأم وليس الأب، وبذلك تكون وراثة ابراهيم كاملة لاسحق، على أساس أن أمه سارة هي من أقارب ابراهيم، وبذلك فإن اسحق يتفوق على اسماعيل بهذه المرتبة من ناحية الأم، والرواية التاريخية بأسرها أصبحت مرتبطة حصرا بنسل اسحق، تجري التعديلات والتغييرات في تفاصيلها وفق أهوائهم وأمزجتهم، والغاية كانت إزاحة اسماعيل من المشهد ومن التاريخ، ولكن اقصاء اسماعيل لم يكن مجرد رواية تاريخية، فهو عرف الاقصاء من طفولته المبكرة، وربما في الأشهر الأولى من حياته، التقديرات مختلفة ومتباينة، إلا أنه في النهاية استقر في المنطقة التي تعرف ببكة في وسط الطريق بين اليمن والشام، وتحديدا في منطقة قاحلة من بكة، لتبدأ رحلته في تأسيس عرق جديد أخذ ينحدر من نسله ويتكاثر في هذه الأرض.
على الرغم من التوقير المتحفظ لشخصية اسماعيل في العهد القديم، إلا أن ذلك يعود فينقلب نقمة وحذرا من نسله الذين يوصفون بالاسماعيليين، فاليهود كان يتخوفون منهم، ولا يتورعون عن انتقاصهم، ويتنصلون ربما من صلة القرابة التي تربط بينهم، فاسماعيل هو الذي يبقى وحيدا، وتأتي بشارة ملاك الرب في التوراة، لتبشر هاجر بابنها: ((ها أنت حبلى ، فتلدين ابنا وتدعين اسمه اسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك. وإنه سيكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه))، وهذه المقولة لم تجاوز الوضع الذي آلت له حياة اسماعيل الذي واجه الحياة في مجتمع غريب، فهو من وجهة نظر أبناء أبيه، ابن الجارية، وهم أبناء الحرة، منافس لهم يرتقي إلى مرتبة العدو، لا يطمئنون إليه، ولا يثقون فيه، وهو إلى حد كبير، كذلك، بالنسبة للقوم الذين عايشهم بعد ذلك، القبائل القديمة التي سكنت في شبه الجزيرة العربية، أو التي أخذت المقولات التراثية تصفهم بالعرب العاربة، تمييزا لهم عن نسل اسماعيل الذين وصفوا بالعرب المستعربة، ولكن هل ذلك صحيح؟
المرجح أن العرب صفة يجب أن تنحصر في أبناء اسماعيل، حيث أن تسمية العرب وردت للمرة الأولى في القرن التاسع قبل الميلاد في أحد المخطوطات الآشورية، وربما من المرجح أن ذلك الوصف أطلق حصرا على القبائل التي انتسبت لاسماعيل وليس غيرها، وهي القبائل التي عاشت على المقربة من الإمبراطورية الآشورية في شمال الجزيرة العربية، خاصة أن الوصف كان للقبائل بصبغة أنثوية، ويفسر البعض ذلك، ومنهم لويس عوض، بأن المجتمع العربي عاش فترة أمومية كان للمرأة فيها الدور الأكبر، بينما يمكن أن يتم تفسير الأسماء التي أطلقت بصيغة المؤنث على القبائل العربية بأنها تأثير من الثقافة الإسماعيلية التي جعلت الابن ينتمي إلى أمه، للتمييز بينه وبين أخيه الذي حصل على امتيازات كثيرة بناء على نفس المبدأ.
العرب أصبحوا لاحقا أمة مستقلة، ولا يمكن أن تنفصل قصة الإسلام عن تاريخهم، ولعل المدخل الضروري لدراسة تاريخ الإسلام يبدأ من دراسة الإطار العرقي والثقافي والحضاري الذي تنزلت فيه الرسالة الإسلامية، وتحديدا المجتمع المكي ومحيطه من القبائل العربية المختلفة وطبيعة حياتها التي كونت الذهنية العقلية والتصورات العقائدية المرتبطة بها قبل الإسلام.
إضاءات
العاربة والمستعربة
يقسم المختصون في علم الأنساب العرب إلى فئتين، العاربة والمستعربة، ولكن ذلك التقسيم بالرجوع إلى المصادر التاريخية يبدو مصطنعا وغير ضروري، فإن يكن العاربة، وهم سكان اليمن قديما يعرفون بالقحطانيين، بينما المستعربة ينسبون إلى عدنان من أبناء اسماعيل، إلا أن كلتا المجموعتين البشريتين تنتسبان إلى العرق السامي، فالنبي ابراهيم انتقل إلى منطقة الشام من مدينة أور الآشورية، وهي من الحضارات السامية، وتلتقي مع الأنساب القحطانية، فالقضية ليست في الأقدمية، والتمييز القائم بين العاربة والمستعربة لم يكن إلا مولدا للضغينة، وكأن أبناء النبي اسماعيل ملحقين بالعرب وليسوا جزءا أصيلا منها، حيث أن تشكل الوعي العربي أتى تاليا لزمن النبي اسماعيل، ويمكن أن يرصد في بدايات الألف الأول قبل الميلاد، أي بعد أكثر من ألف سنة من زمن النبي اسماعيل، ولا توجد ضرورة بالتالي إلى تقسيم الواقع العربي بهذه الطريقة التقليدية والتي لم تؤد إلى شيء سوى محاولة عزل القبائل العدنانية عن غيرها من قبائل اليمن.
فالقبائل العربية ترتبط بالعرق السامي، علما بوجود أقوام من أعراق أخرى داخل الجزيرة العربية، ولكنها تركزت في الأطراف الخصيبة من اليمن وعمان، وكانت تتحدث بلغات خاصة، وبعضها ما زال يؤثر في لسان المقيمين في هذه المناطق مثل منطقة المهرة في جنوب الجزيرة العربية، وبعامة وقف الإسلام ضد هذه التقسيمات ليجعل من العمل أساسا للتفاضل، ولكنه استوعب الاعتداد العربي بقضية النسب والانتماء إلى الأصول القبلية.
المفضلات