الجزء الثاني
بابا عمر وماما سارة الحلقة الثانية عشرة
قـالت سـارة:
جلستُ على مقعدي في الطائرة وأنا أتلو آيات قرآنية وأشعر برهبة كبيرة، ولا أتوقف عن النظر إلى ساعتي وإلى خريطة سير الطائرة، وأكاد أستحلف الدقائق أن تمر كي أصل إلى ما حلمت به منذ كنت طفلة .. لا أكاد أصدق نفسي أنـّني بملابس الإحرام وبعد ساعات سألمس الكعبة بيدي ..
أنظر إلى عمر بحب الكون كله الذي أهداني هذه الهدية التي تفوق كنوز الأرض ..
لا أستطيع أن أصف فرحتي منذ رأيت تأشيرة العمرة على جواز سفري، ومن وقتها وأنا أكاد أستوقف الناس في الشارع لأخبرهم أن الله دعاني ضيفة على بيته الكريم .. كم من أغنياء رفض الله أن يدخلوا بيته الكريم وألهاهم في متع الدنيا كي يحرموا من هذا الشرف الرفيع
.. وكم من فقراء لا يملكون قوت يومهم دعاهم الله إلى رحابه الطاهرة .. فنحن لا نذهب إلى الحج أو العمرة بإرادتنا بل الله هو من يدعونا إليه ..
قـال عمـر:
أشعر بنبضات قلبي تعلو على محركات الطائرة وهي تهبط في مطار جدة .. أتحسس ملابس الإحرام كي أصدق فعلا أنـّني لا أحلم ..
سارة تكاد تطير من الفرحة، وكل دقيقة تشكرني على هذه الهدية
.. والعجيب أنـّها لم تفتح أي حوار أو عتاب في مشكلتنا بل وكأنها نسيت كل أحداث العالم وتذكرت فقط أنها ذاهبة إلى بيت الله ..
قـالت سـارة:
هبطنا إلى مطار جدة وحدثت ماما ويحيى في التليفون وبكيت عندما سمعت صوته ولكني لم أستطع ان أصحبه معي لمشقـّة الرحلة .. أول مرة أفارقه منذ يوم مولده، ولكنـّي أفارق إبني لأذهب إلى حبيبي و ملاذي وملجئي ..
قـال عمـر:
ركبنا الأوتوبيس الموصل إلى مكة وركبت سارة بجواري، وأخذت أنظر إلى جميع الركاب وأتأمل وجوههم المشتاقة إلى زيارة بيت الله، وأتأمل الشيوخ منهم وأتساءل كيف سيقدر هذا الشيخ الواهن على أداء المناسك؟ وكيف يجتمع كل هذا الحب في قلوب كل المسلمين إلى شيء لم يروه أبداً ويقضون حياتهم كلها في شوق إلى رؤية بيت الله الأعظم؟
قد تجد من يجادل في أشياء في الدين .. ولكن لا يمكن أن تجد مسلماً قلبه لا يتوق إلى زيارة مكة والمدينة .. ودخلنا أسوار مكة، وأخذت أتأمل شوارعها الواسعة، وأسواقها الكثيرة، وخيرها الذي لا ينقطع .. وأتخيل أنّ مساكن الصحابة كانت في محل الفنادق الفارهة .. وكيف كانوا يتحملون هذه الحرارة العالية التي نشكو منها الآن في وجود المكيفات؟! .. كيف تحملوا العذاب فوق رمال الصحراء كي يتخلوا عن دينهم؟ ونحن لا نصبر على القيام لصلاة الفجر؟!!
قـالت سـارة:
وصلنا الفندق ووضعنا حقائبنا وتوضأنا أنا وعمر، ورفضت تناول أي طعام أو حتى أن أستريح .. وهرولنا لندخل الحرم .. مشينا في الأسواق وأنا لا أكاد أرى البائعين الآسيويين والأفارقة ولا أرى بضائعهم الكثيرة، ولا تحيد عيني عن إتجاه الحرم حتى أخيراً وصلنا الى أبوابه .. وتعالت دقات قلبي وأنا اخلع حذائي وتمس قدمي رخامه البارد دوما وأشعر ببرودته في كل جسدي وقلبي ..
أحاطني سلام داخلي لم أعرفه من قبل وأنا أرى أبواب الحرم الكثيرة وحوائطه الجليلة .. وكأني سائرة داخل حلم لا أريده أن ينتهي .. حتى أخيراً وصلنا إلى صحن الكعبة ورأيتها لاول مرة في عمري .. لم أصدق عينيّ وأحسست أنـّني أحلم، وانتفضت وكأن زلزالاً هزني بقوة ونفض عن قلبي سباته وغفلته الطويلة ليخبره أنـّه قد ولد الآن فقط .. ولم أتمالك نفسي من الخشوع والرهبة فسجدت وبكيت بكاء لم أعرفه طوال حياتي ..
هل أستحق أن أكون هنا يارب العالمين؟
لقد أخطأتُ كثيراً وأذنبت كثيراً ويملؤني الخجل من أن أقف ببيتك الكريم وأنا لا أستحق هذا الشرف ..
أرى بيتك بعيني وقد أخطأت عيني كثيراً ..
أطوف حول الكعبة بقدمي وطالما عصت قدمي ..
ما هذه الرحمة؟ إنها لا تكون إلا من رب رحيم عظيم ..
أطوف حول الكعبة ولا أشعر بالزحام، ولا أشعر بافتقادي لإبني ولا أشعر بزوجي بجواري .. عرفت الآن لماذا النظر إلى الكعبة عبادة .. رؤيتي لها تغسل قلبي وروحي من دنس الذنوب وتفاهة الدنيا وصراعاتها الشرسة .. إنـّه ليس فقط إحساس، ولكنه تغيير داخلي يحيطني ويشعرني أنـّني أولد من جديد ..
قـال عمـر:
أمسك بيد سارة كي لا تتوه مني في الزحام، وأراها وهي لا تتوقف عن البكاء من خشية الله، وأشكر الله على هذه الزوجة الصالحة التي لولا فضل الله ثم وجودها بجواري وصبرها على لم أكن لأحقق أي نجاح .. لا أعرف لماذا أشعر بنوع جديد من الحبّ تجاهها وُلد هنا .. هل هو الحب في الله جمعني بها غير حبي لها كزوجة وأم إبني؟ اللهم اجمع قلبينا على حبك فهذا الحب لا يمكن أن يموت ..
وصلت للشوط الأخير من الطواف وأنا أتصبـّب عرقاً ودموعاً .. دعوت دعوات كثيرة، وبكيت بين يدي الله أكثر، وتذللت بين يديه أن يبدأ حسابي من يوم دخلت بيته .. شكرت الله على نعمه التي أغرقني بها ولم أشعر بها إلا عندما سمعت دعوات المجاورين لي والتي يشكو كل منهم حاله وابتلاءه الى الله ..
قـالت سـارة:
صلينا ركعتين في مقام إبراهيم ثم طاب لنا أن نصلي أكثر وأكثر، ولم نشعر بالوقت وقلوبنا ساجدة في رحاب الله الطاهرة، وحمام الحرم يطوف حولنا وكأنه سعيد بضيوف الرحمن ..
ذهبنا إلى المسعى بين الصفا والمروة وبدأنا السعي ونحن نذكر الله ونبتهل في دعائه .. لم أعرف في البداية المسافة التي يجب أن نهرول فيها حتى وجدناها محددة بضوئين أخضرين، وهرولتُ مع عمر تيمناً بالسيدة هاجر .. حتى لفتت نظري سيدة فاضلة أن الهرولة للرجال فقط في هذه المسافة ..
قـال عمـر:
وصلنا إلى الشوط الخامس وأنا لا أقوى على السير، فالمسافة طويلة جداً .. وتعجبت كيف لامرأة ضعيفة مثل السيدة هاجر أن تهرول كلّ هذه المسافة 7 مرات بحثاً عن ماء لوليدها ونحن الرجال لا نقوى على السير مع وجود الأرض الرخامية والسقف الواقي من لفحة الشمس؟!!
سارة أنهكت وانبحّ صوتها من فرط الدعاء والبكاء بين يدي الله .. وأخيرا انتهينا من السعي وأجلست سارة تستريح وتدعو على جبل الصفا وذهبت أحضر لها ماء زمزم .. وأصريت أن أسقيها بنفسي، وشربت معها حتى ارتوينا ..
أخذنا ندعو سوياً أن يحفظ الله إبننا يحيى ويجعله من حفظة القرآن .. وندعو أن لا يكون هذا آخر عهدنا بالبيت وأن يأتي بنا الله في هذه الزيارة الكريمة مرات ومرات ..
قـالت سـارة:
نظرتُ إلى عمر وكأنـّني أراه لأول مرة في عمري كله ويملؤني إحساس أن قلبي مليء من ناحيته بحب من نوع جديد .. حب في الله ..
حب أقوى وأعمق مئات المرات من حبي له كرجل أو كزوج، فهذا ممكن أن يضيع أمام أي مشكلة، أما أن أشعر أنـّني أرضيه لأنـّني أرضي الله فيه وأحبه لأنـّني أحب الله فيه فهذا لا يمكن أن يضيع .. ولا يمكن أن ينتهي ..
دعوت الله أن يحفظه لي ويجمع قلبينا سوياً حتى نهاية العمر في زمرة المتحابين في جلاله ..
اللهم احفظ علينا نعمتك التي لا تمنحها إلا للقليل من عبادك .. وعلمنا شكرها وحق رعايتها ..
اللهم أدم علينا الحب فيك .. ومنك .. وبك يارب العالمين ..
المفضلات