سامح المحاريق - حتى «سلمان رشدي» أو « ثيو فان جوخ « كان يمكن مناقشتهم؛ ولكن الفيلم المجهول الملابسات والظروف «براءة المسلمين» يتجاوز بكثير توصيف «المقزز» الذي أطلقته وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون.
الفيلم ؛ يتصف «بوقاحة اخلاقية» غير مسبوقة، وينضح بالعفن والقيح الفكري، وهذا ليس كلاما مجازيا، أو مرسلا، ولكنه وصف حقيقي للمشاهد التي انتشرت على اليوتيوب، الموقع الذي يتصرف بمنطق غريب أيضا، فيفترض أن يميز السادة القائمون على الموقع ما بين هو نقد مقبول، حتى لو كان متطرفا، وبين ما هو تحريض صريح على الكراهية.
فالفيلم يحرض بوضوح ضد المسلمين، ويدعو للتخلص منهم بالجملة، ولكن ذلك يهون بجانب المعالجة الحقيرة لشخصية النبي الكريم، والتي تقف وراءها شخصيات موبوءة، وأكرر، أنني لا أستعمل أوصافا مجازية، ولكنها أوصاف حقيقية تماما.
..فإذا كانت القضية هي إهانة - حيث كلمة اساءة تبدو متواضعة أمام ما قدمه الفيلم- النبي الكريم، فما علاقة اليهود بهذه المسألة، ولماذا ذلك الرفع من شأنهم مقارنة بالمسلمين، علما بأن الإيمان المسيحي القويم، وقبل تنازلات الفاتيكان في هذا السياق، يتخذ موقفا سلبيا من اليهود، وجموع الأقباط (من غير جماعة المهجر) تأخذ موقفا متشددا من اليهود، فلماذا خلط الأوراق لاستجلاب الفتنة بين المسلمين والأقباط؟
وما هي علاقة الأمريكيين بالقضية؟ وما هي علاقة سفاراتهم بالموضوع؟ أليس ذلك يمثل انسياقا وراء تحديد موعد إثارة الفيلم في الحادي عشر من سبتمبر، وبصراحة، وبعد وقائع الرسوم الكرتونية المسيئة؟ أين ما وعدت به بعض الجهات الإسلامية من دفاع واقعي وعقلاني عن نبي الإسلام، أين الأفلام؟ والكتب؟ والدراسات؟ والمؤتمرات؟ كل ما حدث، للأسف، هو سفر بعض المرتزقة للنقاش حول أمور تافهة على حساب قضايا المسلمين ومشاكلهم.
الآن يمكن الحديث عن الشبهات التي اعتمد عليها النص (الأهبل) للفيلم، وهو قديمة ومكررة، ويمكن اختصارها بالاتهامات التي وجهت للنبي طويلا عبر مؤسسة استشراقية (عرجاء) في مقاييسها وطريقة تعاطيها مع الأمور، وهي، التأثر بالمصادر المسيحية واليهودية في الجزيرة العربية، وخاصة ورقة بن نوفل، والجزية وارتباطها بموضوع أن الإسلام انتشر بحد السيف، وأخيرا زوجات النبي وحياته الخاصة، وأمام ذلك فإن دحض هذه المزاعم يعتمد على وقائع تاريخية واضحة، يغفلها المستشرقون الذين يرون الشوكة في أعيننا ويغفلون عن الخشبة في عيونهم:
فأما التأثر بالمصادر المسيحية واليهودية، فذلك يرفضه المنطق السليم، صحيح أن القرآن أعاد قصص أنبياء بني اسرائيل في سوره، ولكن ذلك أتى مختلفا تماما، ومناقضا، ورافضا، ومضادا لما قدمه العهد القديم (التوراة)، فكانت شخصيات الأنبياء تحظى بتكريم واحترام كبير ينزهها عن الروايات الإسرائيلية التي جعلتها تمارس جميع أنواع الموبقات مثل القتل والكذب والخداع، وما نربأ بقراء الرأي الكرام عن ذكره من اتهامات لا تمس فقط شخصيتهم وإنما كرامتهم وشرفهم، وكل ذلك يرد في التوارة في سرد مسهب، وكأنه احتفاء بجميع هذه النقائص.
القرآن أتى ضمن إطار الرسالات السماوية، وكان طبيعيا أن يعالج القضايا التي وردت بخصوص الأنبياء الذين حملوا هذه الرسالات سابقا، ويصحح المفاهيم ويضعها في مكانها الصحيح، وبالتالي، فإن اليهودي عندما يعلم ابنه أن النبي يعقوب، قام بخداع والده ليحصل على البركة، فإن المسلم يرفض هذه الاتهامات، فأين هو التأثير الذي يمكن أن يكون النبي الكريم أخذه عن ورقة بن نوفل، أو غيره من مسيحي أو يهود أو حتى أحناف الجزيرة العربية.
وأما الحديث عن الجزية فذلك كلام مغلوط تماما، وللأسف يشجعه بعض المسلمين بطريقة خاطئة، فالزكاة، التي تعادل ربع العشر من الثروة المتراكمة للمسلم، ليست هي الفريضة المالية الوحيدة التي كانت تضعها الدولة الإسلامية على مواطنيها، وكان ما يصنف ضمن الخراج يصل إلى ما يتراوح بين عشرين وثلاثين بالمائة من الدخول المتحققة للمسلمين، وهو ما يزيد عمليا عن مبلغ الجزية التي كان يتوجب على النصارى واليهود دفعها للدولة الإسلامية، فالزكاة هي فريضة دينية تصرف في أوجه محددة حسب النص القرآني، ولكن الواجبات المالية التي أداها المسلمون كانت تفوق كثيرا ما يدفع كجزية، وطالما أن أهل الذمة تمتعوا بالمرافق التي أسستها الدولة الإسلامية، وكانوا تحت حمايتها في سفرهم وتجارتهم، فإن ما يدفعونه هو للدولة في الأساس، كما يدفع أي مواطن الضريبة في أي دولة يقيم فيها، وأما مبرر أنها كانت أقل من بقية الواجبات التي يدفعها المسلمون، أن بعضا من وجوه صرف الدولة الإسلامية في تلك المرحلة كان لرعاية التعليم الديني والأمور الشبيهة بذلك التصنيف، مما لا يستفيد منه أهل الذمة عموما، كما أن حالات كثيرة شهدت أن يستفيد أهل الذمة من بيت المال كما يحدث في الظروف الاستثنائية مثل المجاعات والأوبئة.
وأما ما يتعلق بالنبي الكريم وزوجاته، رضي الله عنهن، فإن ذلك كان الأمر الطبيعي في السياق التاريخي، ولماذا يتغاضى صناع الفيلم عن تشنيعات العهد القديم في هذه المواضيع تجاه النبي داود والنبي سليمان ويتخذونها ثغرة لهجوم مستفز وغير أخلاقي على النبي الكريم، وللتوضيح، فإن العرب كانوا يعيشون في فوضى .. لما انتقلوا من حياة البادية المنعزلة إلى حياة المدن التجارية، مكة والطائف ويثرب، قبل الإسلام، وكان النبي يصحح بعضا من المفاهيم في إطار الزواج الشرعي، تجاه تفريغ العادات العربية من مضمونها، وكذلك أسهم النبي الكريم في التقريب مع أهل الذمة بزواجه من السيدة صفية والسيدة ماريا، فلم تكن الآية القرآنية كافية لتقنع العقلية العربية المتعالية باتخاذ زوجات كتابيات، طالما أن العرب في فورة قوتهم كان بإمكانهم أن يتخذنهن كجوار، هذه أحد الأمثلة، وتوجد أمثلة كثيرة، أما زواج النبي من السيدة عائشة، فهو لا يتناقض مع معدلات العمر في الزواج في الجزيرة العربية وغيرها من الأماكن، ولماذا يعتبر موضوعا للأخذ والرد، بينما يغضي التاريخ الذي يكتبه الغربيون، عن زواج كليوبترا السابعة من شقيقها ذي العشرة أعوام، علما بأن ذلك حدث في عهد البطالسة ورثة الحضارية الهيلينية التي يفتخر بها الغربيون.
ما يحدث في تفاصيله هو محاولة وقيعة بين المسلمين والمسيحيين من جهة، وبين المسلمين والأمريكيين، نعم، الأمريكيون، وذلك لسببين، الأول، التقدم الذي يحرزه الإسلام في الولايات المتحدة، وتمكن المسلمين من التعافي جزئيا من الآثار السلبية لأحداث سبتمبر 2001، واستعادة مشاركتهم الفاعلة في المجتمع الأمريكي، والثاني، التغطية على الخلافات بين الرئيس أوباما ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فيما يتعلق بمسألة ضرب ايران في هذا التوقيت، ومحاولة الضغط على الأمريكيين لدعم المغامرة الإسرائيلية ضد ايران وتفجير المنطقة، وعرقلة ما تبقى من الربيع العربي تحت وطأة موجة جديدة من الفوضى الخلاقة.
يجب على الأمريكيين أن يتحركوا جديا تجاه صناع هذا الفيلم، وأن يبحثوا عن مخرج قانوني لمعاقبتهم بصورة جدية، وليس الاكتفاء بالرطانة الزائدة عن حرية التعبير، فما يحدث لا يمكن أن يصنفه أحد تحت بند هذه الحرية، وكم من الخطايا أصبحت ترتكب تحت باب حرية التعبير؟!.
رد مع اقتباس
المفضلات