راكان السعايدة- بين السياسي والدبلوماسي فواصلٌ وحدودٌ تتيح للأول ما لا تهيئه للآخر، وبينها لم يتُه عبد الاله الخطيب، ظل ممسكاً بالحدود والفواصل، يرسم خطوط العلاقة بين المهمتين بإتقان وحرفية، فتميز وأبدع في كلا الأمرين.
طوّر ذاته، علماً وقيماً على ثوابت وطنية عروبية.. وبنى وعيه على فهم وتبحر في لعبة السياسية وأعراف الدبلوماسية فكان خياراً أممياً مبتعثاً إلى ليبيا في عزّ أزمتها ومأزقها ليسهم في صنع المخرج، غير أنه لم يأخذ فرصته كاملة بفعل تجاوز الدم حاجز السياسة، فانتهى إلى ما انتهى إليه حال ليبيا.
وما كاد المشهد الليبي أن يكمل انزلاقه إلى أتون الفوضى، حتى صار المشهد السوري أكثر سوداوية وأكثر دموية، فقلّبت الجامعة العربية نظرها ذات اليمين وذات الشمال تبحث عن مبعوث موثوق يدخل بين الفرقاء لعل الحل يأتي بالسياسة فكان الخطيب، مرة أخرى، هو الخيار.
لكن الخطيب بحنكة السياسي ووعي الدبلوماسي نأى بنفسه عن المهمة معتذراً، وهو وإن أبقى روافع اعتذاره طي الكتمان إلاّ أن من يقرأ ما بين سطور كلامه يدرك أن الرجل أيقن منذ البدء أن مهمته بلا ملامح، وكأنها متطلب شكلي لا قيمة فيها للمضمون.
هذا الموقف سجله سياسيون للرجل، وأخذوه دليلاً يقينياً على أن «خطيبنا» ليس هاوياً للمهمات الغامضة بحثاً عن نجومية إعلامية أو مكان في ساحة السياسة، فالقناعة واليقين والإمساك بكل الخيوط أساسيات في قبوله أو رفضه المهمات، إن في شأن وطني أو عربي أو أممي.
عبد الاله الخطيب، ليس جدلياً ولا إشكالياً، تقل حوله الملاحظات متصالحاً مع نفسه ومنسجماً مع ذاته، اختط طريقاً متماسكاً، لم يبدل ولم يتبدل، برغم «عضات» البعض ممن ساءتهم فرادته وصلابة موقفه عند المفاضلة بين قيم ومبادئ، وذاتية نفعية شرطها القفز فوق كل قيمة.
صقل وعيه بأن درس السياسة في اليونان فنال البكالوريوس من جامعاتها أتبعها الماجستير تلو الماجستير في الاقتصاد الدولي (جون هوبنكز) والاتصالات الدولية (الجامعة الأميركية في واشنطن).
تنقل الخطيب من غير أن «يتعرقل» بين مناصب عدة، منها لا كلها، وزيراً للسياحة ثم للخارجية وقبلها مديراً للمكتب الخاص في «الخارجية» ومبعوثاً للأردن في الأمم المتحدة، وعضواً في مجلس الأعيان، وترأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي يبحث، بتركيز، في الفقر والبطالة لينتج حلولاً ممكنة.
تمرّس في السياسة وعرف شروطها واستحقاقاتها، واتقن الإدارة وعرف فنونها ومتطلباتها، وفي كل موقع حلّ به أو ارتحل عنه ترك بصمة صعبة المحو وسيرة عطرة تلمسها عند من عرفه وزامله.
ظلَّ الخطيب ملتزماً وفياً لقناعاته، حافظا لارثه الشخصي، حريصاً على ألا تشوب سجله شائبة أو يعتريه شك.. ألم يقل بعيد تحميله مسؤولية الهيئة المستقلة «لن أرضى أن تشوه سمعتي..».
ذلك كله يستحضره الرجل، بذاته ولذاته، وهو يرأس الهيئة المستقلة للانتخابات في أكثر المحطات الوطنية حساسية وصعوبة (...) مدركاً أن الرهان عليه كبير وأن مهمته الوطنية في الإشراف وإدارة الانتخابات النيابية المقبلة لا تحتمل الخطأ.. لأن الخطأ هنا يساوي الخطيئة تماماً.
فأسس تصديه للمسؤولية المفصلية الملقاة على عاتقه، بضمانتين، إحداهما قانونية والأخرى سياسية، في الأولى، ضمن الاستقلالية بالقانون ليمنع عن «الهيئة» تدخلات ومداخلات تنزع عنها الصدقية وتلقي عليها عباءة الشك.
وفي الأخرى، ضمن إرادة سياسية من رأس الدولة وصانع قرارها جلالة الملك حمى بها «هيئته» من العبث الممكن والاستقواء المحتمل.
فكان لأبي مناف ما أراد من ضمانات يعلم أهميتها وضرورتها لإنتاج انتخابات نيابية نزيهة، وموقناً، وجداناً وعقلاً، أن الوطن لا يحتمل فشلاً إشرافياً وإدارياً لانتخابات يرصد دقيق تفاصيلها، الداخل كما الخارج.
لذلك يحرص الخطيب على إمساك «الهيئة المستقلة» بالانتخابات من ألفها إلى يائها وتسييرها بلا ملاحظات وتشوهات، إن أصابت منتجها، لا قدر الله، لا تعني غير فشل المهمة وولوج المنزلق..
الخطيب، الدمث وحسن المعشر، على المحك.. ليس أمامه إلاّ إنجاح المهمة، مكسباً ذاتياً يضاعف رصيده، ومصلحة وطنية لا تقبل الانحراف أو التفريط..