قال سمو الامير الحسن بن طلال في مقالة بعنوان “الاستقلال المجيد … ذكرى عطرة … الدلالات والدروس المُستقاة لصنع مستقبل أجيالنا” ان ذكرى الاستقلال تحمل معانٍ ودلالات تَفرض علينا التوقف عندها لاستكمال الأهداف الحقيقيّة لأولئك الذين ضحوا بالغالي والنفيس لإنجاز الاستقلال وان هموم المواطن وأحلامه التي نشترك بها جميعاً، ينبغي أن تكون هاجساً جماعياً في معالجة المشكلات التي نواجهها؛ كالفقر والمساواة والمشاركة والإنصاف والعدالة الاجتماعيّة وغيرها.

وفيما يلي نص مقالة سمو الامير الحسن:


مرت أول أمس ذكرى الاستقلال الأردني المجيد. وبقدر ما لهذه المناسبة من احترام وإجلال لدى أبناء المجتمع الواحد، فإنها تحمل معانٍ ودلالات تَفرض علينا التوقف عندها، كي لا يُقتصر الاحتفال بهذه المناسبة على الجوانب الرمزية التقليدية فقط، وإنما إعطاء المناسبة القيمة التي تستحقها واستخلاص الدروس التي تُعيننا على رسم مستقبلنا، بهدف استكمال الأهداف الحقيقيّة لأولئك الذين ضحوا بالغالي والنفيس لإنجاز الاستقلال.

لقد كان يوم 25 أيار/ مايو 1946 مناسبة وطنية شهدت صياغة وتوقيع وثيقة إعلان الاستقلال من قبل مؤسسي الدولة الأردنية الحديثة، إذ كان الاستقلال وقتها يعني لنا التحرر من سيطرة الآخر، والتحرر من التبعية، أو وطأة نفوذ الآخرين، وأن نعفي أنفسنا من زل الاعتماد عليهم، وإدارة شؤوننا الخاصة دون أي تدخل، وأن نسخر كافة الوسائل للحصول على سبل العيش بكرامة. وهذا هو السبب الذي يدعونا لاستدعاء هذه المناسبة ونسميها “يوم الاستقلال”، ونجعلها عيد نحتفل به كل عام.

إنها ليست فقط في الخامس والعشرين من أيار/ مايو، إنها ليست مجرد تبادل التهاني والتبريكات، إنها ليست فقط في اليوم الذي نأخذ فيه عطلة رسمية عن العمل، إنها عيد الاستقلال، وقد سميت بهذا الاسم لأنه في هذا التاريخ من عام 1946، تحقق حلم الحرية. وهو لم يكن فقط تاريخا لولادة للحرية في ذلك اليوم، بل كان تاريخ ولادة الحرية في جميع الأيام. وهذا هو السبب الذي يجب علينا تأكيده عندما نتداعى للاحتفال بهذه المناسبة، مع ضرورة إبراز التجليات الحقيقية لمعاني هذا الاستقلال في حياة الناس.

إن الاستقلال يعني الاختيار الحرّ لتمكين أنفسنا من أداء الواجب، وأخذ الحقوق، والحفاظ على الحرمات، ويعني أن لدينا حرية في المشاركة ومتابعة الخيارات الشخصية، بقصد التعلم، والنمو، واكتساب الحكمة، مع الاستعداد الكامل لمواجهة النتائج المترتبة على تلك الخيارات، أي أن الاستقلال يعني جدية السعي الفردي والجماعي لخلق مجتمع تتوفر فيه شروط العدل وقيم المساواة، لأن الاستقلال الحقيقي يعني الإعتراف بأن كل واحد منا لديه الحق في التفكير والمعتقد، ولديه الحق في التعلم، لتقديم أفضل ما عنده لمصلحته ورفاه المجتمع من حوله.

والحكمة تقتضي أن علينا اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تعزيز استقلال بلادنا من خلال تحرير أنفسنا من سجن الفردانية وتبني الحقائق الجامعة، وبالتالي تحرير أنفسنا من قيود الخلاف. لأن الاستقلال يعني الحرية في فصل أنفسنا عن الأطماع الشخصيّة، وتحدي أنفسنا فكريا لمعرفة النطاق الكامل للواجبات المنوط بنا إنجازها من أجل إيجاد حلول حقيقيّة بالنسبة للحاضر والمستقبل، وعلى أساس ما فيه خير المجتمع كله.

ولعل من محاسن الصدف أن تتزامن ذكرى الاستقلال مع انعقاد مؤتمر “منتدى غرب آسيا وشمال إفريقيا الذي سيبحث يومي 29-30 من هذا الشهر، وبمشاركة منتدى الفكر العربيّ، موضوع الهوية والمواطنة. فلا شكَّ أن الاستقلال والمواطنة صنوان لا ينفصلان، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الاستقلال وديمومته دون تحقيق مفهوم المواطنة التي تشكل حاضنة رصينة للهوية.

وعند الحديث عن الاستقلال الوطني فإننا نعني به الاستقلال في إطار النهضة في مختلف ميادين الحياة، وكما كان يراها روّاد النهضة الأوائل قبل 150 عاماً، وقبلهم أب الثورة العربية الإسلامية الأولى سيد الكائنات محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم.

ولكي نُعين أنفسنا على استذكار ما ينبغي التوقف عنده من معاني ودلالات الاستقلال، الذي كان ثمرة الثورة والنهضة التي لا تغيب عنا، فإن هموم المواطن وأحلامه التي نشترك بها جميعاً، ينبغي أن تكون هاجساً جماعياً في معالجة المشكلات التي نواجهها؛ كالفقر والمساواة والمشاركة والإنصاف والعدالة الاجتماعيّة وغيرها. فهذه الهموم كانت نفسها التي ثار من أجلها ثوار النهضة وقادتها لبناء أمة عربيّة بهويّة واحدة جامعة… هوية حاضنة للمواطنة التي يتساوى فيها الجميع في إطار دولة القانون والمواطنة، مهما تعددت أطياف المجتمع دينيّة كانت أم عرقيّة أو مذهبيّة. وهنا أستذكر مقولة كان يرددها أخي الراحل الكبير الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، في تفسيره لسورة النصر: بسم الله الرحمن الرحيّم “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.” صدق الله العظيّم. فالنّاس هنا لا يتشاركون في الإيمان وفق أسس ومعايير حزبيّة، وإنما على أسس إنسانية رحبة لا تُفرّق بين بني البشر عامة، فكيف يكون الأمر عندما يتعلق بمصير ومستقبل أبناء الشعب الواحد الذي يشتركون في المنابت والأصول ويتساوون في الحقوق والواجبات.

إنه ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن عندنا المناسبات السعيدة، التي تترابط كل معانيها وجميع مغازيها لتأكيد معنى الاستقلال، لنرى نحن في المملكة الأردنية الهاشمية دولة مستقلة كاملة الإرادة، يشعر فيها المواطنون بأنهم أحرار في وطنهم، خاضعون لإرادتهم، ويحتكمون لقوانين الأرض التي يتساوون فيها بغير عزل أو تمييز. وإنه إذا كان لنا أن نتعلم شيئا من هذه المناسبات الوطنية العزيزة على نفوسنا، فهو معنى الحرية ومغزى الكرامة. ومثلما استطاع أجدادنا وآباؤنا نيل الاستقلال بجهدهم وتضحياتهم، فإن فرصنا في إحداث تغيير حقيقي يعتمد على ما نستطيع بذله من جهود وتضحيات من أجل تحسين واقعنا وضمان رفاهية مستقبلنا.

إذا كان أجدادنا وآباؤنا سيعودون لرؤية حال بلادنا، وهي تسعى جاهدة لاستكمال معاني الاستقلال السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، باعتماد مناهج التصويب واتخاذ سبل الإصلاح، سيسعدهم أنهم ضحوا من أجل قضية، وأن الاستقلال الذي سعوا إليه يستحق المعركة التي خاضوها، والمهج التي قدموها. وسيطمئنهم أكثر أننا ما زلنا على الرباط؛ استعداداً دائماً للتضحية بكل رخيصٍ وغالٍ من أجل ترسيخ مبادئ الحرية وتأكيد معاني الاستقلال.

ومثلما حَرصَ ثوار النهضة الأوائل على ترجمة منظومتنا القيميّة العربيّة الأصيلة وحفظ الاستقلال الذي نحتفل به اليوم، فإن رسالة هؤلاء العظماء لم تكن محدودة في قطر عربيّ واحد بل كان فضاءهم الأمة العربيّة بكل أقطارها ومكونات شعوبها، فلم يُقيدهم المكان الجغرافي الذي كانوا يتواجدون فيه، بل عملوا من أجل المساواة والعدالة ومجتمع الكفاءة ومحاربة الفساد وإنجاز الحياة الدستوريّة التي تكفل مفهوم المواطنة في كل رحاب العالم العربي من المحيط إلى الخليج.

وبحكم التزامنا بما بدأه الرواد الأوائل، فإنه من الواجب تأمين الترابط في السياق التأريخي بين الماضي والحاضر والحاضر والمستقبل، وفي فضاء عالمنا العربيّ لمواجهة التحديات والمحافظة على وحدة الدول العربية أرضاً وشعباً. ولعل ما تواجهه بعض الدول العربية من تحديات ينبغي أن تكون لها الأولوية، لكي نحافظ على أمننا القوميّ العربيّ المشترك، وذلك مواصلة للدور الهاشمي في بداية القرن الماضي في بلاد الشام وتحديدا العراق وسوريا، فضلا عن التضحية التي قام بها قائد الثورة العربية الشريف حسين بن علي عندما ضحّى بمُلكه وانتقل الى القدس ليلاقي أجله من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

وفي هذا السياق، فإن نُخب المجتمع وعلى رأسهم القيادات السياسيّة، تتحمل مسؤولية خاصة في تحقيق ما نقوله، وهو ما يدعونا إلى الاهتمام بوضع معايير واضحة في إسناد المسؤولية على أسس الكفاءة والأمانة والنزاهة. وعليه فقد دعونا في أكثر من مناسبة إلى تأسيس نظام للنزاهة يكفل حماية مجتمعاتنا ويصون مصالحها الفرديّة والجماعيّة. وبالطبع فإن نظام النزاهة الذي ندعو إليه، ينبغي أن يكون في إطار أوسع، وكما أوردناه في مشروع الميثاق الاجتماعيّ العربيّ، الذي نعمل لاعتماده في القريب العاجل، بهدف بلورة الفضائل وتأسيس دولة تحفظ الحقوق والواجبات وتنظم العلاقة بين المواطن والقيادات الحاكمة.

وتحضرني هنا، رؤية العالم العربي الجليل أبو نصر الفارابي رحمه الله للمدينة الفاضلة، التي يراها من منظور الإنسان في تناسقه الجسماني وتعاون أعضائه، وبالتالي يؤمن الفارابي بإمكانية تطبيق هذا التناسق على منحى أكبر وأشمل، ويعني به المجتمع الواحد، إذ جعل للمدينة الفاضلة رئيساً موصوفاً بصفات الشرف والعلو، فضلاً عن التعاون مع كل من يتولى المسؤولية معه، وصولاً لتنسيق وتنظيم أركان المدينة. فالرئيس عند الفارابي يُقابل القلب في الجسم الحيواني، لما له من الشرف والعلو والتأثير على سائر الأعضاء تنظيماً ومحافظةً على حياة الجسم.

إننا، وعندما نتحدث عن المدينة الفاضلة، نَعي الصعوبات والمحددات التي تجعلنا بعيدين عنها، وبالتالي فإننا لا نطرح وصفاً أو نظرية بعينها للسعادة، مثل ما طرح الفارابي ومن سبقه وتلاه، كما أننا لا نبغي من استحضار هذه الأمثلة لأهداف ثقافيّة أو تنظيريّة، وإنما لنقول أن مبدأ ومفهوم المسؤولية واحد في كل زمان ومكان، وإن من يقبل تحمّل عبء المسؤولية عليه أن لا يَنظر إلى الموقع وفق ما يوفره له من هيبة أو كسب، بل بقدر ما يقدمه المسؤول للنّاس من خدمة وتفاعل واستجابة مع حاجات وآلآم أبناء المجتمع.

ولعلي أتحدث هنا عن المسؤولية التشاركية التي يشترك فيها جميع أطراف المسؤولية، وأعني بهم أطراف الفضاء الثالث، التي يُشكّل الإنسان محوراً وأساساً لها، ألا وهي القطاع العام والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، وبذلك يكون “الإنسان أغلى ما نملك”، كما وصفه أخي المغفور له الحسين، وأضيفُ، إن كان لي الأنسان “المعطاء”.

لا نختلف بأن هناك مشكلات عديدة تكتنف محاولات القراءة الصحيحة والكلية لمنجز الاستقلال، إلا أن هناك تنبيه مستحب، أو لنقل ملاحظة ضرورية على المستوى المعرفي، تدعونا لاستثمار التجربة التاريخية بربطها بفكرة المواطنة، وترسيخها برابطة الهوية الجامعة، التي تتضمن تفعيل كل قيم الحرية، والعدل، والإحسان، والإنصاف، وسعة المشاركة، وإحياء روح التكافل، ومنع كل أشكال التمييز، وإعلاء الفضائل، واعتماد النزاهة، ومحاربة الفساد. لأن هذه هي ذات الشعارات التي نادى بها الأباء والأجداد، الذين أتوا إلينا بالاستقلال، غير أن متعلقاتها تتجدد بتجدد الزمان، وتتطور بتطور الأحوال.

وإذا كان الاستقلال هو عيد الجميع، فلنتخذه مناسبة لتجديد قناعاتنا بما هو مشترك بيننا، وأن نقف معا على حقيقة أن وحدة الأصول الجامعة بيننا قد تأتت من وحدة المنابت، فهي كالكلمة الطيبة والشجرة الطيبة التي قال الله تعالى عنها: “كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ”. صدق الله العظيم.

الحسن بن طلال منتدى الفكر العربي عمان 26 أيار/مايو 2012 ميلادية الموافق 5 رجب 1433 هجرية