عملياً، بدأت الانتفاضة في بنغازي منذ سنة بقيادة رمزية من محاكم المدن، عندما فرض القضاة والمحامون حصاراً دام أسابيع حول المبنى احتجاجاً على غياب سلطة قضائية مستقلة تخضع للإصلاح… لكن أين هي العدالة في ليبيا الجديدة؟
للمرة الأولى منذ سقوط نظام القذافي، افتُتحت محكمة بالقرب من بنغازي لمحاكمة مدنيين متهمين بدعم النظام السابق، كذلك، اتُّهم عشرات المدنيين بمساعدة المعتقلين “الموالين” على الهروب من محتجزيهم “الثوريين”.
افتُتحت المحاكمة العسكرية ثم أُجّلت سريعاً في مقر قريب من بنغازي، فاتهم فريق الدفاع المحكمة بقلة الكفاءة وطالب بنقل القضايا إلى محكمة مدنية، فلم يكن أيٌّ من المتهمين يواجه تهماً متعلقة بجرائم الحرب أصلاً.
لا بد من التساؤل عن طبيعة العدالة التي سيضمنها أسياد ليبيا الجدد وعن طريقة تحقيق العدالة وحمايتها بما أن الأمن مفقود والأبرياء يُقتَلون يومياً، بينما يقبع الآلاف داخل السجون في أنحاء البلد من دون محاكمة أو القدرة على الاستعانة بالمحامين أو الاتصال بأقاربهم، ومن دون اللجوء إلى جماعات حقوق الإنسان حتماً.
تشكك بعض جماعات حقوق الإنسان الدولية بكفاءة النظام القضائي الليبي وبمدى جاهزيته لتولي هذا النوع من القضايا. عملياً، بدأت الانتفاضة في بنغازي منذ سنة بقيادة رمزية من محاكم المدن، عندما فرض القضاة والمحامون حصاراً دام أسابيع حول المبنى احتجاجاً على غياب سلطة قضائية مستقلة تخضع للإصلاح.
لقد مرت سنة على تلك الأحداث تقريباً ونشأت الحكومة الموقتة منذ أقل من ثلاثة أشهر. لكن لم تنفذ هذه الحكومة وعدها بإصلاح النظام القضائي وتحقيق ما يسمى بـ”العدالة الانتقالية”. تتم جميع المحاكمات الراهنة وفق النظام القضائي القديم الذي حارب الثوار ضده.
في غضون ذلك، تواجه ميليشيات الثوار في مصراتة وسرت وطرابلس تهماً بارتكاب جرائم القتل والسطو المسلح وانتهاك الحقوق الأساسية. مع ذلك، لم تُقدِم الحكومة على اعتقال أي شخص متورط في تلك القضايا، وبالتالي لم تبدأ أي محاكمات بعد.
لقد اختفى عشرة من أصدقائي على الأقل منذ ذلك الحين. أعرف أن ثلاثة منهم قُتلوا بدم بارد بينما يقبع اثنان آخران في السجن، لكني لا أعلم شيئاً عن الخمسة الآخرين. تتوق عائلاتهم إلى الحصول على أي خبر عنهم وهي لا تكف عن سؤالي عن أحدث المعلومات عنهم.
لقد جرب الأهالي جميع الطرق الممكنة لمعرفة ما حصل لأحبائهم، لكن من دون جدوى. من أصل الأشخاص العشرة المفقودين، كان ثمانية منهم أساتذة جامعيين وكانت جريمتهم الوحيدة الظهور على شاشات التلفزة مباشرةً للحث على إنهاء الحرب في الصيف الماضي. نحن نتشارك جميعاً القيم نفسها، ويشعر الليبيون الحقيقيون بالقلق حول كيفية إعادة بناء بلدهم بعد سنوات من العيش خارجاً.
لم يتضح بعد عدد المعتقلين في ليبيا “الجديدة”، إذ تتحدث جماعات حقوق الإنسان (منها الجماعات التي تمثل الأمم المتحدة) عن احتجاز 7 إلى 10 آلاف شخص، لكن يؤكد شهود العيان والسجناء السابقون وجود ثلاثة أضعاف ذلك العدد، كذلك، تكثر التحذيرات الآن من انتشار أعمال التعذيب على نطاق واسع.
أخبرني صديق لي تحرر من السجن حديثاً أنه احتُجز لأكثر من أسبوع وصادر الحراس أدوية السكري الخاصة به، لقد اغرورقت عيناه بالدموع عندما وصف ما كان يحدث في ما سماه “معتقل مصراتة”، حيث يُحتجَز شبان لا يتجاوزون الخامسة عشرة من العمر وراء القضبان ولا يُسمح لهم بتلقي الزيارات من أقاربهم ولا الاستعانة بالمحامين.
لا شك أن ظروف العيش داخل تلك السجون مريعة. يرتفع عدد الوفيات بسبب التعذيب في أنحاء البلد، لكن تصدر أشهر قصص التعذيب من مصراتة.
في طرابلس، يختفي الناس أحياناً من دون ترك أي أثر، فمنذ أقل من شهر، خرج دبلوماسي معروف ومرموق، هو عمر بريبش (سفير سابق إلى فرنسا)، من مكتبه لإجراء مقابلة مع أعضاء من الميليشيات، وكان يعرف بعضهم شخصياً، فاصطحبوه إلى مكتبهم الموقت خارج طرابلس ثم اختفى، وبعد يومين تقريباً، وُجدت جثته وعليها آثار التعذيب في غابة في غرب طرابلس.
في مقالة حديثة، وصفت أرملة بريبش الوحشية التي عومل بها زوجها، حتى إنها ذكرت أسماء بعض المعتدين، ثم استُدعي ابنه البكر لاستلام منزل والده ولكنه لم يعلم بمقتل بريبش حتى شاهد الجثة.
على صعيد آخر، تتعرض النساء أيضاً لسوء المعاملة، فبعد دخول “الثوريين” إلى مدينة سرت، عمدوا إلى ترهيب قلة من النساء اللواتي بقين في المدينة من خلال اصطحابهن إلى مصراتة. كل امرأة حاولت حماية أولادها أو مقتنياتها واجهت الترهيب نفسه.
في الوقت نفسه، رفضت الحكومة الموقتة الاعتراف بفشلها في حفظ السلام أو جمع الأسلحة من الشعب، وبالتالي لم تنجح في إثبات فاعليتها. في طرابلس اليوم، حيث فشلت الحكومة في فرض سيطرتها، تُرتكب أعمال وحشية على يد الميليشيات المسلحة وتسيطر كل ميليشيا منها على جزء من المدينة.
في ثلاث مناسبات على الأقل، دعت الحكومة الموقتة الميليشيات إلى مغادرة المدينة لكن من دون جدوى. يخضع مطار طرابلس لسيطرة ميليشيا الزنتان التي قدمت عرضاً في شهر أكتوبر الماضي عندما قطع رئيس المجلس الوطني الانتقالي، مصطفى عبدالجليل، شريط الافتتاح في إشارةٍ إلى “فتح المطار من جديد”، لكن لا تزال الميليشيا تسيطر على المكان.
فشل المجلس الوطني الانتقالي والحكومة الموقتة في عقد مؤتمر المصالحة الوطنية الموعود الذي كان يمكن أن يبدأ بمعالجة إخفاقات النظام القضائي. في أي مجتمع قبلي مثل ليبيا، لا يمكن تحقيق العدالة من دون عقد مصالحة وطنية وستبقى جميع المحاكمات التي تحصل اليوم محط تشكيك دائم.
نقلا عن ايلاف
رد مع اقتباس
المفضلات