احباب الاردن التعليمي

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 24

الموضوع: ## أشهر جاسوسة عربية للموساد ##

  1. #11
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل التـــاســع

    الأشباح في الزنزانة:

    تقول أمينة في مذكراتها في السادس من سبتمبر 1975 ..
    كنت أحاول أن ألملم ذاتي المبعثرة داخل زنزانة ضيقة حقيرة، مقيدة
    بالجنازير إلى الحائط، عندما انفتح الباب في الصباح، ودخل الحارس
    المسلح ذو الشارب الكثيف يحمل فطوري المكون من
    رغيف وشريحة جبن مطبوخ، وجلس أمامي كالمعتاد
    يتصفح جريدته، ويناولني قضمة بعد قضمة، عندما
    لمحت الخبر بالصفحة الأولى :
    يا إلهي . . إنه موشيه . . نعم موشيه . . صورته تتصدر الصفحة
    ومن تحتها اسمه كاملاً.خيل إلي أنني أحلم . . أطير إلى الأفق وأكبو –
    حلقومي يتشقق ورأسي تتأرجح غصباً عني.
    وكأنني أفيق من غيبوبة الموت، رجوت الحارس أن يقرأ على ما كتب
    فنهرني ساخراً .. لحظتئذ . . صرخت متوسلة إليه أن يقرأ.
    فأغلق فمي بالرغيف ولطمني بقسوة على وجهي وهو يردد:
    مالك والصحيفة أيتها المومس الحقيرة. . ؟
    لفظت الرغيف وابتهلت اليه فبسط الصفحة أمامي على الأرض. .
    فانحنيت أقرأ لا أصدق، حتى انكفأت على وجهي كالمنومة، أعض البلاط . . وألعق الحسرة . . والفرحة، وألعن عمراً ذاب في الإرهاق والغضب.
    ،،
    لست أدري بالضبط كنه تلك الأحاسيس الجياشة التي اجتاحتني، خليط
    عجيب من المشاعر تكاد تعصف بي، وتفتك برأسي.
    كم كنت في شوق لأن أصرخ . . وأصرخ . . وأصرخ .. وأمزق وجهي بأظافري حتى يدمى، لكن يداي مشدودتان بالسلاسل، ولا قبل لي إلا بالصراخ، فصرخت . . صرخت من أعماق شراييني وأنسجتي، وجذبت قوة
    صرخاتي من قلبي وأعصابي، إذ جثم على صدري حمل ثقيل من الندم . .
    ينزف منهم الدم في فورة كالبركان، وينزلق على أرض الغرفة
    فأحس به ساخناً لزجاً، يا إلهي . .
    إنها أشباح عشرات الضحايا الذين قتلتهم بغبائي . . وقذارتي.
    تطوف الأشباح من حولي ، ينبعث منها صوت هدير مخيف، فأضحك . . ثم أصرخ. . وأضرب رأسي في الهواء لأصرف الأشباح عني، وأفيق على
    موشيه الحبيب . . جاء لينقذني من عذاباتي . . وإنحناءات عمري القاتلة
    ،،

    مدرسة أبو داود :

    في الثامن من ستبمبر 1975..
    بعد تسعة أيام من اعتقالها، اقتيدت أمينة داود المفتي إلى مكتب أبو داود حيث جرى استجوابها بذات الأسلوب الذي استخدمه جهاز المخابرات الألماني – الجستابو – مع الأسرى والجواسيس أيام الحرب العالمية الثانية.
    ،،
    وهو أسلوب يعتمد على التوسل بعلم النفس في كسر حدة الخوف
    لدى الجاسوس، دون اللجوء إلى أي وسيلة من وسائل الضغط
    أو التعذيب، مع محاصرته بوابل من المعلومات التي تم
    جمعها عنه وعن رؤسائه، فيضطر مذعناً إلى الاعتراف بكل
    ما لديه حيث يرى أنه لا ضرورة للإنكار، طالما انكشفت كل
    الأسرار التي كان يعتقد أنها مجهولة.
    ،،
    ولكي نشرح أسلوب أبو داوود في استجواب العميلة، علينا أن نقرأ
    الشهادة الرسمية التي أداها الملازم "سكراف" من المخابرات الألمانية، أمام
    هيئات التحقيق الأميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا.
    ،،
    فقد شكلت في أمريكا هيئة للتحقيق مع بضع مئات من الطيارين
    الأمريكيين الذين أسروا في ألمانيا النازية، وكانوا متهمين بالخيانة
    وإفشاء الأسرار الحربية عقب أسرهم، ولكنهم نفوا جميعاً أنهم
    تفوهوا بأي سر، كما أكدوا أن أحداً لم يضربهم أو يمتهنهم، وبالتالي
    لم يحاول أي إنسان أن يرغمهم على الإدلاء بأي أقوال، وقد استدعى الأمر إحضار سكراف للمثول أمام إحدى هيئات التحقيق الأميركية، لاستجوابه في
    شأن التقارير التي كان يرفعها بعد استجوابه لكل طيار أسير.
    ،،
    وقد كان لشهادته هذه أكبر الأثر في تبرئة ساحة هؤلاء الطيارين.
    يقول سكراف:
    خلال سنين الحرب الطويلة المريرة، قمت منتصباً في وضع الانتباه ضارباً
    كعبي أكثر من خمسمائة مرة، مؤدياً التحية العسكرية في أصح أوضاعها
    لضابط طيار أميركي، شاء حظه أن يقع أسيراً في أيدي قواتنا.
    ،،
    وكنت أقدم نفسي للأسير قائلاً في أدب وبشاشة:
    سيدي . . أنا الملازم سكراف .. وأنا مكلف بسؤالكم بضع أسئلة،
    هل لسيدي أن يجلس؟ . . من واجبي أن أذكرك بحقوقك التي تكفلتها لك
    إتفاقية جنيف لمعاملة أسرى الحرب، فلك أن تجيب على
    الأسئلة الثلاثة: اسمك . . ورقمك . . ورتبتك فقط
    ولا شيء خلاف ذلك . .
    سيجارة سيدي. . ؟ ... وهو يمد يده بعلبة السجائر للأسير ...!!!
    ،،
    ويضيف الضابط الألماني:
    مر على مكتبي جميع طياري المقاتلات الأميركية والبريطانية الأسرى، وكالمعتاد فقد أجابوا على الأسئلة الثلاثة عند بدء أسرهم، ثم أرسلوا إلى
    بعد ذلك للحصول منهم على المعلومات اللازمة.
    ،،
    وأستيطع أن أقرر أن كل فرد من الخمسمائة ضابط الذين مروا بغرفتي، قد أدلى بكل المعلومات التي طلب مني أن أحصل عليها منهم، دون إهانة أو
    تعذيب، ذلك أنهم لقنوا عن الطريقة التي يتصرفون بها إذا ما وقعوا في الأسر، واحتمال التعذيب الشديد حتى يرغموا على الكلام.
    ،،
    لكن . .
    غاب عنهم الحالة النفسية التي يكون عليها الأسير بعد اكتسابه لهذه الصفة، لمجرد شعور المرء بأنه أسير تتولد عنده ضغوط شديدة تشعره بعدم راحة الضمير كأنه المذنب، حتى ولو كان أسره خارجاً كلية عن إرادته، فيظل موطناً نفسه على مقاومة كل وسيلة لاستجوابه، وكان علينا أن نستغل هذه الحالة في عملنا، بأن نتصرف في معاملة الأسير على العكس تماماً مما يتوقع.
    ،،

    الحية الناعمة :

    كان أبو داود ضابطاً من ضباط المخابرات الفلسطينية القلائل الذين تميزوا بأسلوب المهادنة في استجواب الجواسيس، وكان يرى أن تلك الطريقة هي
    الأنسب لمعاملة هؤلاء الخونة لإشعارهم بمدى فداحة الجرم الذي ارتكبوه.
    ،،
    ومن خلال المعاملة الحسنة، بدلاً من التعذيب الذي يتوقعونه، يمتلكهم الإحساس بالذنب فيعترفوا. لكن يبدو أن فلسفة الألمان أيام الحرب العالمية الثانية، لم تكن ذات نفع مع جاسوسة محترفة مثل أمينة المفتي، التي دربت على كيفية مواجهة المواقف الصعبة، وترتيب الأفكار بحيث
    لا تخطئ إذا ما اضطرت إلى سرد رواية ما مرتين.
    ،،
    وكانت تمارين الذاكرة التي أجادتها تماماً خير وسيلة لها للتمسك بأقوالها دون تغيير، وبرغم نفاذ صبر أبو داود الذي واجهها بمذكراتها التي كتبتها بخطها وخبأتها في شقتها في فيينا، إلا أن الجاسوسة أنكرت كل شيء.
    ،،
    وعللت كتابة مذكراتها بما تحويه من تفاصيل غاية في الدقة، بأنها
    مريضة بالتوهم Delusion وبأحلام اليقظة، وقد تخيلت نفسها بالفعل
    عميلة إسرائيلية في بيروت نظراً لخيالها الخصب الجامح، ولتأثرها الشديد
    بقصة حياة الجاسوسة الهولندية الشهيرة مارجريت جيرترود "ماتا هاري"،
    وابنتها الجاسوسة باندا ماكلويد.
    ،،
    هذا فضلاً عن رغبتها في الانتقام من العرب لفقد زوجها موشيه، وعجزها عن تحقيق ذلك، مع شعورها المتزايد بالغربة والكآبة، وإحساسها بالاضطهاد Persecution كانت إجابتها المرتبة، وبكاؤها المستمر وتشجنات عضلات وجهها، أمر يدعو إلى الاحساس بالأسف، فهي تخرج من مأزق تلو الآخر وكأنما أيام الاعتقال الانفرادي التسعة، كانت بالنسبة لها الفرصة الذهبية
    لترتيب الأفكار استعداداً للمواجهة المصيرية .
    ،،
    لذلك ..
    كانت شكلاً – في غاية الثبات أمام المحقق..
    أما بالداخل . .
    فهناك عمليات عقلية معقدة تتفاعل . . وتحلل . .
    وتستنبط . . وتختزن . . وتتوهج.
    فتطلب المزيد من الماء بالسكر لتمنح بدنها المزيد من القوة Energy واليقظة

    لكن ضابطاً كفئاً مثل أبو داود لم يكن من السهل أن يقنع
    بصدق إجابتها، فهو رجل حاد الذكاء عظيم الخبرة في تخصصه، حصل
    على دورات تدريبية عديدة على أيدي رجال المخابرات المصرية في تعقب الجواسيس، وقرأ كثيراً في علوم النفس والمنطق والطب العقلي، وتصنيفات الأمراض النفسية، وبرع في كيفية التعامل مع مرضى الخيانة والكذب، واستخلاص النتائج بعد تحليل دقيق للألفاظ والمدلولات.
    ،،
    حتى اشتهر عنه امتلاكه لحاسة شم قوية تجاه الجواسيس، وقدرته الخارقة على اختراقهم والحصول على اعترافاتهم بسهولة، وإن اضطر في بعض الأحيان إلى تغيير منهجه في الاستجواب، بما يتناسب وثقافة المتهم وذكائه وقدرته
    على المقاومة. فهو يستطيع أن يلعب بكل الكرات في تناسق
    وتتابع كأنه فريق كامل في ملعب شاسع.
    ،،
    هكذا تدرب أبو داود وأجاد . .
    وكان عليه أن يحاصر أمينة بأسرع ما يمكن، لكي لا يحس أعضاء
    شبكتها باختفائها الغامض فيفرون إلى خارج البلاد.
    لكنه وقف حائراً أمام تلك المرأة الماكرة، التي استجمعت كل
    قواها دفعة واحدة وقاومته بشراسة لم يعهدها. . كانت تدافع عن
    مصيرها باستماتة من يوشك على الغرق.
    ،،
    فهي تعلم في قرارة نفسها أن مستجوبها أشد منها ذكاءً وحدة . .
    وأشرس منها صلابة وقوة.
    ندان متضادان كل منهما يسعى إلى هدف مغاير للآخر. ثمانية عشرة ساعة متصلة وأمينة لا زالت كما هي . . لم تضعف أو تنهار..
    أو حتى تبدل كلمة واحدة من أقوالها. . وأبو داود يسألها السؤال نفسه عشرات المرات في دهاء وحنكة، وهي تجيب في مراوغة واستبسال.
    ،،
    فكانت إجاباتها كلها متناسقة ماعدا نقطة واحدة لم تكن أبداً مقنعة، ألا وهي
    سم السيانيد، حيث بررت وجوده معها بأنها مصابة بالجنون الدوري Cyclothynia ، وهذا الأمر يسبب لها مضايقات وتشنجات تدفعها
    للتفكير بالانتحار.
    ،،
    ولما كان سم السيانيد غير متواجد بالأسواق أصلاً، وتستخدمه فقط أجهزة المخابرات للتخلص من ضحاياها، فقد كان الأمر مثيراً للشك
    ولا يقبل تأويلاً هشاً كالذي جاء على لسان أمينة.

    ومن هنا . .
    لم تكن أمام أبو داود سوى أساليب الاستجواب المعتادة، بعدما فشل في انتهاج نظرية الجستابو معها، وهي اللجوء إلى العنف والتعذيب، وقد كان كارهاً لذلك جداً إلا أنه اضطر إلى ذلك غصباً عنه، فهو كما قال يتعامل مع
    حية ناعمة الملمس. . كلما حاول الإمساك بها انزلقت من بين أصابعه هاربة.
    وأناب عنه زميله "أبو الهول" للتحقيق معها.

    ،،
    انتهى
    الفصل التاسع

  2. #12
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل العاشر
    قنبلة من الغضب :

    كان رجال الموساد في غاية القلق والتوتر، فأمينة اختفت في بيروت
    قبل أن تتمكن من الهرب إلى دمشق.
    لقد كانت غارقة في الذعر والهلع، وهو الأمر الذي يجعل الجاسوس في
    قمة حالات ضعفه وتفككه، فتسهل بذلك السيطرة عليه أثناء التحقيق، ومهما
    حاول التماسك واستجماع جرأته، فهو حتماً سينهار في النهاية
    ويعترف بكل شيء، ويرشد بسهولة عن أعضاء شبكته.
    ،،
    وعندما أكد عملاؤهم في بيروت أن مانويل ومارون وخديجة طلقاء ولم يتم اعتقالهم، كان الأمر بالنسبة اليهم يعني إما أنها لم تعترف بعد، أو أن الثلاثة
    تركوا كشرك لاصطياد كل من يحاول الاتصال بهم. وربما كان الأمر
    برمته مجرد خطة خداعية متعددة الأطراف.
    ،،
    هكذا وقع رجال الموساد في تل أبيب في حيرة بالغة، وأمروا عيونهم في
    بيروت بالابتعاد تماماً عن الثلاثة الطلقاء مهما كان السبب.
    فهم يعلمون مدى شراسة المخابرات الفلسطينية في معاملة الجواسيس الأجانب حين استجوابهم، فما بالك والحالة هنا لجاسوسة أردنية خدعتهم
    وامتزجت بقادتهم، وتجولت بكل الأماكن العسكرية المحظورة في لبنان؟؟
    ،،
    كانت المشكلة عند الموساد أكبر بكثير من مجرد سقوط إحدى عميلاتها، المشكلة الحقيقة تكمن في حالة الهلع التي ستصيب بقية عملائهم في لبنان إذا
    ما نشر الخبر في الصحف، ساعتئذ فقط قد ينكشف آخرون
    أفلت منهم زمام الجرأة وانكسرت صلابتهم..وباتوا عرضة لهدم
    شبكات صهيونية عديدة في بيروت تعمل في أمان بعيداً عن
    الخوف ..الذي هو داء الشجاعة وقاتلها.
    ،،
    إذ عادة ما تكون الشجاعة التي يتحلى بها الجواسيس شجاعة هشة مصطنعة
    لا أرض صلبة لها أو جدران. تماماً هي كالسراب الذي تراه أيام القيظ في الصحراء . . مجرد وهم خادع.
    ،،
    أما أمينة المفتي . . فيالها من امرأة عجيبة . . متماسكة. فبرغم ابتلاعها طعم بقاء موشيه حياً ومبادلته بأسرى سوريين، إلا أن إحساسها بالذنب لم
    يطغ عليها أو يفتك بضميرها.
    ،،
    لقد تقمصت شخصية أخرى أمام المحقق، وبدت بريئة مريضة بالوهم، وما كانت في حقيقتها إلا متخمة بالخيلاء Conceit والعظمة، فسيطرت عليها
    أوهام الانتصار، وترقبت مظاهر البطولة التي تنتظرها في الأرض المحتله، وستراها جلية في عيني زوجها العائد من الأسر.

    كانت تريد أن تؤكد له أنها امرأة أحبت . . وزوجة أدمنت العشق حتى الثمالة . . ومزقها غيابه إلى ألف قطعة، تحولت كل واحدة منها إلى قنبلة من الغضب . . ستنفجر حتماً في جسد العرب.
    ،،
    أما قلبها..
    فكان بركان ينفث حممه في وجه البشر..وصراخ لوعتها عليه
    يصم أسماع الكون ويمزق سكونه.
    وفي حبسها الانفرادي كانت تستعد للمعركة القادمة . .
    وتشحن ذاتها بكل ما تبقى لديها من قوة ومناورة، وتعيد تنظيم
    خطوط دفاعها أملاً في الإفلات.
    ،،
    فقد كانت تعلم بأن أدلة إثبات خيانتها هشة ومن السهل تفنيدها. كذلك لم
    يضبط بعد أحد أعضاء شبكتها فيعترف عليها.لذلك وطنت نفسها على
    المقاومة والاستبسال في الإنكار والدفاع.
    ،،
    فحتماً . .
    سيضيقون بها ولن يكون أمامهم سوى طردها خارج بيروت.
    لكن المفاجأة
    التي لم يتوقعها أحد مطلقاً، أن سلطات الأمن اللبنانية تدخلت، وأجبرت الفلسطينيين على الإفراج عن المعتقلة لتقوم هي بالتحقيق معها.
    ،،

    لقاء في عالية:

    هكذا خرجت أمينة المفتي – وكما توقعت - منتصرة من حبسها، وتسلمتها السلطات اللبنانية التي رأت أنها بريئة، وأن الشكوك التي طالتها
    باطلة مجحفة. وأنها طبيبة عربية مخلصة لوطنها العربي أيما إخلاص.
    ،،
    وكان أن خيرتها ما بين البقاء في بيروت أو مغادرة لبنان مع
    وافر الشكر ، فاختارت أمينة أن تغادر إلى فيينا، وطالبت بوثيقة
    سفرها التي احتجزها الفلسطينيون.
    ،،
    لقد رأى أبو إياد وعلي حسن سلامة وأبو داود، أن يسلموا أمينة للبنانيين احتراماً لسيادة الدولة اللبنانية، لكي لا تزداد الخلافات حدة، وتتصاعد في وقت
    كانت فيه الحرب الأهلية مشتعلة وفي طريقها لأن تدمر العلاقات الطائفية تماماً.
    ،،
    لكن . .
    كانت لقاءات عديدة ومطولة قد تمت في عالية بين أبو إياد والشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني، لمحاولة الاتفاق على التعاون الأمني بينهما للحد من جيوش الجواسيس التي تجوب لبنان دون خوف.
    ،،
    وفي اللقاء الأخير...
    كان الوزير يجلس على الأرجوحة في حديقة منزله الصيفي وبيديه مسبحة طويلة يلعب بحباتها في هدوء، وهو يستمع بانتباه كبير إلى ما يقوله أبو إياد:
    إذا لم نتعاون يا شيخ بهيج فهناك خطر يهددنا ويهددكم معنا.
    إن التنسيق بين أجهزة الأمن اللبنانية وأجهزة أمن المقاومة أصبح أكثر
    من ضرورة . . لقد أصبح واجباً وطنياً.
    ،،
    ويوافق الوزير على كلام القائد الفلسطيني . .
    ويتابع القائد:
    نحن على استعداد يا شيخ بهيج أن نضع معلوماتنا بتصرفكم. إن أجهزة رصدنا في الخارج وخاصة في أوروبا قوية، ونستطيع إذا تعاونا معاً أن نفسد أكثر من مخطط. فنحن لا نستطيع أن نعمل بمفردنا في لبنان، وأنتم لا تستطيعون
    العمل بمفردكم...!! علينا أن نتعاون.
    ،،
    ويوافق الشيخ بهيج مرة أخرى ويتابع أبو إياد:
    أعذرني على صراحتي سيادة الوزير، فالقضية خطيرة . . خطيرة جداً وأخطر مما تتصور. فنحن عندما قبضنا بعد عملية فردان 1973، على الفرنسي إيف رينيه دي توريس صاحب مطعم – إيف لي ميشو - كانت معلوماتنا تؤكد بأنه ضالع في العملية، وأنه يعمل لحساب الصهاينة في لبنان.
    ،،
    وبالصدفة . .
    كان ببيروت مخرج جزائري من المتعاطفين مع
    حركة المقاومة اسمه محمد بوضياء.
    ولأن بوضياء يتقن الفرنسية فقد طلبنا منه أن يساعدنا في التحقيق مع الفرنسي. وبعد أن كاد الفرنسي أن يعترف قامت علينا القيامة، واشتد الضغط
    واتهمنا بأننا نمارس سلطات الدولة اللبنانية. فاضطررنا إلى
    إطلاق سراحه، وسلمناه إلى السلطات اللبنانية مع ملفه الكامل لكي تتابع
    التحقيق معه، لكننا فوجئنا بإطلاق سراحه بعد 24 ساعة من
    تسليمه، وبالسماح له بمغادرة لبنان إلى فرنسا.
    ،،
    وبعد شهر واحد تسلمنا رسالة من بوضياء يقول فيها بالحرف الواحد :
    ( ليس من قبيل الصدفة أن أصطدم بالفرنسي دي توريس الذي حققت معه
    في بيروت، في كل مكان أذهب اليه في باريس . . ).
    وبعد يومين من تسلمنا الرسالة، أغتيل بوضياء في باريس بعبوة ناسفة في سيارته.
    ،،
    وقبل أيام . .
    ألقينا القبض على طبيبة أردنية تؤكد معلوماتنا أنها تتعامل مع الموساد،
    ومن جديد .. قامت القيامة فسلمناها مع ملفها إلى السلطات اللبنانية،
    ومن جديد ..سمح لها بمغادرة بيروت إلى فيينا.لكننا. .سيادة الوزير الموقر. نطلب منكم مهلة للتحقيق معها مرة أخرى..مهلة بسيطة لن تستغرق أكثر من
    ثلاثة أيام سنطلعكم بعدها على ما انتهينا اليه.
    ،،
    لقد كان هناك رجل يحمل الأوراق المغربية، اعترف لنا اعترافات كاملة بأنه عميل للصهاينه وجاء للبنان أكثر من مرة للتجسس على أخبار المقاومة.
    ولدينا ملفات عن أكثر من عشرين عميلاً يحضرون إلى لبنان وينزلون في
    أفخم الفنادق على أنهم رجال أعمال، نحن نعرفهم واحداً واحداً، واسماً اسماً، ونعرف أنهم عملاء، ولا نطلب منكم أن تعتقلوهم أو تحققوا معهم، ولكن
    نطلب فقط منعهم من دخول البلاد.
    ،،
    إنه إجراء بسيط سيدي الوزير، فنحن أيضاً لا نريد اعتقالهم حرصاً على
    السيادة اللبنانية، ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نقف
    مكتوفي الأيدي وحياتنا مهددة بالخطر.
    كان الشيخ بهيج تقي الدين يستمع إلى أبو إياد في ذهول. وما أن أنهى القائد الفلسطيني كلامه حتى وافق الوزير فوراً على مطلبه الخاص باعتقال أمينة المفتي مرة ثانية، والبحث في أمر العملاء الآخرين تمهيداً لمنعهم من دخول لبنان.

    وهكذا . .
    عادت أمينة داود المفتي إلى الجانب الفلسطيني، دون تدخل لبناني
    تحت أية ظروف في التحقيق.

    كهف السعرانة:

    حبست أمينة مقيدة بالجنازير داخل زنزانتها الأولى بباطن الأرض، تمهيداً لاستجوابها بأسولب مغاير، يدفعها لأن تعترف بالحقيقة كاملة، وترشد عن
    شركائها في شبكة الجاسوية.

    لكن . .
    كانت هناك رؤية أمنية تحبذ نقلها إلى خارج بيروت، بعيداً عن رحى الحرب الأهلية المشتعلة، وتحسباً لأية نوايا صهيونية خاصة بعد عملية فردان المشؤومة، واستغرق التفكير في مكان حجزها ساعات طويلة من الليل، ضمت أبو إياد، وعلي حسن سلامة، وأبو داود، و أبو الزعيم - في اجتماع خطير
    لتحديد مصير العميلة الخائنه .
    ،،
    لقد جلس أبو إياد صامتاً كعادته يشعل سيجارة من أخرى، تنتقل عيناه
    بين الرجال الثلاثة وهم يتجادلون، ويستعرضون الأماكن التي
    تصلح لإخفاء العميلة الماكرة.
    ،،
    كان علي حسن سلامة يرى أن إبقاءها في المكان نفسه هو الأصوب، حيث تحيط بالمبنى الأسوار العالية، ومباني منظمة التحرير الفلسطينية في حي الفكهاني، لكن أبو الزعيم تشكك في كون المكان آمناً بالدرجة الكافية، فقد تخطط الموساد لاختطاف أمينة لرفع معنويات جواسيسها في لبنان، وللانتقام من علي حسن سلامة - الأمير الأحمر الذي أمرت الشمطاء جولدا مائير بإعدامه ثأراً لعملية ميونيخ، وأيضاً . . لاغتيال الفدائيين الثلاثة - عدنان وجمال الجاشي،
    وأبو العيسى - أبطال مذبحة ميونيخ الذين بقوا على قيد الحياة، ويقيمون تحت حراسة مشددة بمقر الجبهة الديموقراطية المحاور.
    ،،
    أما أبو داود فقد اقترح أن يتم نقلها فوراً إلى وادي البقاع حيث لن تستطيع الموساد التوصل إلى مكانها، ويكون الأمر محاطاً بالسرية المطلقة تحسباً للوشايات، وبعيداً عن الخونة الذين يضعفون أمام الاغراءات الصهيونية
    من بين صفوف الفلسطينيين أنفسهم.
    ،،
    وعند هذا الحد من الحديث نطق أخيراً أبو أياد وقال إن الأمر لا يستدعي كل هذا الخلاف، فعملية نقل أمينة من حبسها الآمن في بيروت إلى مكان آخر ليس الغرض منه الخوف من الصهاينة ، فهم لن يجرأوا على القيام بعملية
    كوماندوز أخرى مشابهة لفردان، لعلمهم بأننا اتخذنا شتى التدابير الأمنية
    لحماية منشآتنا ومقار إقاماتنا، وعيونهم التي تجوب شوارع بيروت
    بمختلف الجنسيات تنقل اليهم تلك الحقيقة وتؤكدها.
    ،،
    إنما التفكير في عملية نقل أمينة لجهة أخرى يرجع إلى كونها امرأة استشعرت الأمان في محبسها الحالي، ووضعت خطط دفاعها أمام مستجوبيها، ونقلها لمكان آخر أمر في حد ذاته محير بالنسبة لها: وسيشعرها بالخوف لأنها
    تجهل ما سيحدث معها وطالما هي خافت فقد فقدت تركيزها.
    ،،
    وأرى أنه للوصول إلى اعترافات سريعة منها، يجب نقلها إلى مكان موحش وليكن كهف من كهوف الجنوب، فالتمسك بالحياة حتماً يدفع المرء لأن
    يضحي بكل ثمين. واعترافها بالتجسس لصالح اليهود لن يكون أبداً أثمن عندها
    من حياتها. ففكروا معاً في أي كهف ستأخذونها اليه.
    ،،
    عندئذ . .
    تهللت الوجوه استحساناً لرأي القائد، وجيء بخارطة كبيرة للجنوب اللبناني انكبوا عليها يفحصون عدة مواقع، إلى أن انتهوا إلى موقع كهف يقع إلى
    الشرق من جسر القاسمية بين صيدا وصور، يبعد عن ساحل
    البحر المتوسط حوالي تسعة عشر كيلو متراً. أطلق عليه سكان المنطقة اسم "كهف السعرانة"، وتقع بالقرب منه بعض معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية.


    انتهى
    الفصل العاشر

  3. #13
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الحادي عشر
    مقابل شربة ماء :

    لمسافة ثمانين كيلو متراً أو يزيد، انطلقت في الليل السيارة الجيب التي تقل
    أمينة المفتي إلى محبسها الجديد. كانت الأسيرة المغماة متهالكة تماماً لحرمانها
    من الطعام طوال يوم كامل، وما إن غادرت السيارة يتأبطها جنديان مفتولا العضلات، أحست بقشعريرة مخيفة تسري بأوصالها.
    ،،
    فالمكان شبه خاو بلا حركات، صوت الأقدام الصاعدة وهي ترتطم بالصخور والحصى يزيدها هلعاً. قالت في وهن أنها جائعة فقيل لها أن لا طعام لديهم.
    كان الصعود شاقاً والأعصاب مرهقة تنبض بالتوتر، ونادراً
    ما تنامت إلى مسامعها أصوات غريبة.
    ،،
    لكن هيئ لها أن هناك أياد أخرى عديدة ساعدت في صعودها إلى المرتفع.
    حتى إذا ما وصلت إلى نقطة ما. . أزالوا الكيس الأسود عن وجهها،
    لتصطدم بعدد جرار من الضباط والجنود واقفين في جمود
    وامتعاض تتدلى الرشاشات من أكتفاهم.
    ،،
    وعندما اقتادوها إلى الداخل أدركت رغم الإضاءة الباهتة أنها
    بداخل إحدى المغارات. لكنها فشلت في تخمين موقعها . .
    أفي الشمال هي أم بالوسط أو بالجنوب؟
    كانت تحس بدوار عنيف كمن فقد اتجاهه واتزانه، واستسلمت للأيدي التي تدفعها بقسوة إلى عمق الكهف الممتد بباطن الجبل تتدلى صخوره كالأشباح المعلقة، وتبدو نتوءاته في ظلال الضوء المتحرك كجنيات الأساطير المرعبة. .
    ،،
    وفجأة . .
    شق الصمت القاتل المحيط بوقع الأقدام صراخاً مريراً..
    كأن هناك من يقد اللحم من جسد حي. وكلما اقترب مصدر الصراخ ابتعدت إرادة الأسيرة وذهب عقلها. فتصبب منها العرق المالح . .
    وارتعد الجسد الناعم المنهك السخي بالأنوثة . .
    ففقدت إلى الأبد بصيص أمل في النجاة، وبينما يتشقق حلقومها الجاف المر الرضاب، انطلق بولها غصباً عنها ساخناً يزيد الجسد جفافاً وانطفاء، ويولد لديها أقصى مشاعر الرعب والهلع، عندما وقفت أمام مشهد مروع أطلقت المرأة صرخة سحبتها من جذور أظافر أصابعها حتى شعر رأسها.
    ،،
    مشهد هو بحق أفظع من وصف مذبحة بشرية حية. فقد رأت أمينة المفتي فتاة علقت من ساقيها إلى الحائط، تمتد خيوط الدم من كل موضع في جسدها لتتجمع في النهاية في بقعة متجلطة أسفل رأسها، وشعرها الطويل المدلى يصل حتى لقرب البقعة تفور منه صنابير الدماء المتفجرة. .
    وأفاقت أمينة على صوت القائد كأنه الصاعقة:

    أيتها العاهرة . . ارتدي البنطلون والسترة.
    "هكذا ترتدي النساء المعتقلات، لكي لا تظهر عوراتهن أثناء التعذيب"
    وأشار إلى أحد الجنود: حل قيودها حتى تبدل ملابسها.
    سخرت أمينة في حسرة من نفسها . .
    فقد كان جسدها العاري لوقت قريب يذيب العقول. الآن تقف عارية
    وعشرات الأعين ترقبها، لكنها تنظر إليها باختلاف عما اعتادته
    هي من نظرات الجوعى.
    ،،
    "يالكم من رجال أغبياء لا تدركون لسع أنوثتي .. وجحيمها.
    لو أنكم مائة رجل لأسلمت لكم نفسي . . طواعية . . طواعية . . مقابل
    شربة ماء. . وشريحة خبز صخري أسود".
    هكذا قالت في داخلها . . وهي تقف مسلوبة الإرادة بالملابس العسكرية التي ارتدتها، ترمقهم في انكسار وهم يدقون الحلقات الحديدية
    بالجدار ليعلقوها كزميلتها.
    ،،
    لكن القائد الصارم الوجه قال بحسم:
    كبلوا يديها ورجليها على خلاف حتى يجيء أبو الهول " ضابط مخابرات فلسطيني محترف ترأس بعد ذلك مخابرات فتح"
    هكذا ربطت أمينة بالجنازير إلى الحائط، وحمل الجندي في تأفف ملابسها الداخلية المبتلة، في ذات الوقت الذي وصل فيه الطبيب لتضميد جروح زميلتها.
    ،،
    وما هي إلا دقائق حتى انصرف الجميع، وخيم الصمت والظلال على
    المكان الموحش فازداد وحشة. وكان أنين الفتاة الأخرى هو مرآة الرعب بعينيها، وصدى الخوف في كهف السعرانة الذي تحال من حوله قصص خرافية،
    عن امرأة عقرها كلب مسعور فطفقت تجوب الوديان والجبال مسعورة،
    يطاردها الناس بالعصى والحجارة حتى التجأت إلى الكهف الذي
    سُمي باسمها ووجدت به ميتة.
    ،،
    السقوط في الفخ :

    كان الوقت قرب الفجر عندما أفاقت الفتاة، وأخذت تهذي باللغة الفرنسية التي كانت أمينة تجيدها فانتبهت الأسيرة إليها وقد خرجت عن محيط الهلع الذي غلفها، لقد حاولت أمينة طوال ساعتين أن تتحدث مع الفتاة دون جدوى.
    وما إن نطقت الأخيرة ببضع كلمات حتى صاحت أمينة بالفرنسية:

    عزيزتي . . حسبتك عربية مثلي.
    كان الظلام شديداً جداً بداخل الكهف.
    وبرغم ذلك كانت أمينة تتجه بوجهها ناحية الفتاة وتبحلق في انتباه،
    وجاءها صوت ضعيف واهن تمتزج به حشرجة تتأرجح على اللسان في صعوبة:

    أأنت عربية. . ؟
    نعم . . من الأردن . . لماذا يفعلون بك ذلك .. ؟
    حظي المشؤوم يا عزيزتي . . حظي هو الذي جاء بي إلى هنا.
    فرنسية أنت؟
    من شيربورج على بحر المانش.
    لماذا أنت هنا. . ؟
    قصة طويلة لن أستطيع سردها.
    كل ما أطلبه منك أن تحفظي هذا الرقم جيداً، ولا تنسيه أبداً إن أطلقوا سراحك. إنه تليفون أمي في فرنسا.
    أولن يطلقوا سراحك؟
    لا أظن . . فهم أناس متوحشون لا يعرفون الرحمة.
    أرجوك . . ساعديني وقصي علي حكايتك قبلما يجيئون ..
    ما اسمك أولاً يا أختاه . . ؟
    سيمون . . سيمون دوابرفيه . . وأنت . .؟
    أنا أمينة . . أمينة المفتي. طبيبة متطوعة في لبنان. اعتقلوني بتهمة
    التجسس لحساب الموساد.
    أوه . . يالحظك السيىء . .هل فعلوا معك مثلي؟
    من .... ؟
    رجال الموساد هؤلاء الأوغاد الأغبياء. طلبوا مني أثناء سياحتي في
    فلسطين أن أصور لهم ميناء صيدا ومخيمات اللاجئين، ومنحوني خمسمائة دولار مقدماً وكاميرا تلسكوبية.
    وبينما أقوم بمهمتي اعتقلني الفلسطينيون
    وعذبوني لأرشدهم عن بقية أعواني في لبنان مقابل إطلاق سراحي.
    أوأرشدتهم. . ؟
    أقسمت لهم ألف مرة بأنني لا أعرف أحداً بلبنان لكنهم لا يصدقون.
    عشرة أيام هنا في الكهف اغتصبني أثناءها ثلاثون كلباً منهم، وماذقت سوى الخبز الجاف والماء العطن.
    لقد ضيعت نفسي بغبائي وحماقتي وحتماً سيقتلونني هنا.

    "انفجرت في بكاء هستيري" – أرجوك . . أمي ستموت حزناً لأنني وحيدتها.. اتصلي بها واخبريها بما حدث لي "وذكرت رقم الهاتف".
    أنا لا أضمن لك ذلك "بيأس" فمصيري أنا الأخرى مجهول. .
    ومظلم كهذا الكهف الكريه.

    هل يشكون بك أيضاً.. ؟ إنهم أناس مرضى بالشك.
    نعم. . يشكون بي ولا دليل واحد لديهم.
    بهمس..
    أخدعك رجال الموساد مثلي. . ؟ لقد أقنعوني بأن الفلسطينيين أغبياء . .
    وفي حالة انكشافي فلن يتركوني بين أيديهم أبداً، وسيخطفونني كما
    خطفوا إيخمان النازي من الأرجنتين.

    هم قالوا لي أكثر من ذلك "هكذا سقطت أمينة في الفخ" ووعدوني بألا
    يمسني أحد مهما كانت ظروف اعتقالي .
    بهمس:
    لا تعترفي بأي شيء لهم فكلما اعترفتي طلبوا المزيد ...والمزيد واطلقوا
    كلابهم تفتك بك في ضراوة .
    أخشى ألا يرحموني.
    سيعدونك بإطلاق سراحك: لأنك أجنبية، إذ أرشدتهم عن شركائك. لكنهم
    لن يفوا بوعدهم . . لن يفوا أبداً.
    وفجأة ...
    يا الهي . .وبذعر شديد صرخت : لقد ...
    ،،




    فجر الحياة :

    قطع الحوار بينهما وقع أقدام ثقيلة تقترب، وسرعان ما ظهر ثلاثة
    ضباط يتبعهم عدد من الجنود يحملون الكشافات المبهرة، تجاهلوا أمينة واتجهوا إلى الفتاة الفرنسية على بعد أربعة خطوات منها، وكانت المسكينة
    ترتجف في رعب، تلهث عيناها الزائغتين بحثاً عن شعاع أمل
    لإنقاذها، لكن الضابط الكبير الذي كان يبدو متبرماً عجولاً، أمر أحد مرافقيه
    أن يسألها لآخر مرة عن أعوانها في لبنان، ولما أجابت بالنفي أشار بيده
    في حركة ذات مغزى، فاصطف أربعة جنود يحملون بنادقهم الآلية،
    واتخذوا وضع الاستعداد وقد جذبوا أجزاء الرشاشات.
    ،،
    وانطلقت الرصاصات إلى صدر الفتاة فافترشت الأرض كومة من حطام.
    وامتد صراخ أمينة يشرخ جدران الكهف الصخرية، ويتموج ملتاعاً في جوف الليل إلى عنان الفضاء، صراخ هيستيري متواصل يحمل أبشع مشاعرها رعباً وهي التي تعودت التوحش والسادية، وانتزعت ما بداخلها من
    نبضات رحمة وحنان. عندئذ قال أحد الضباط لقائده:

    سيادة العقيد أبو الهول . . ألا نعدمها هي الأخرى؟
    أجاب أبو الهول على الفور:
    لو لم تتكلم قبل منتصف النهار، فلن نجد حلاً آخر.
    ومشيراً إلى الجنود في قرف:
    إرموا الجثة خلف الجبل، ودقوا رأسها بالصخور.

    غمرت الكشافات جثة الفتاة الغارقة في دمها، وهنا . . هنا فقط . .
    عندما سحبوها من ذراعيها إلى الخارج، ووقعت عينا أمينة على المشهد المروع،
    انهارت تماماً . وفقدت آخر قلاع دفاعاتها،
    وصرخت في ذلك وضعف تستغيث:
    سأتكلم . . سأقول لكم كل شيء . .
    أخرجوني من هنا لأنني خائفة من الدم . . أخرجوني لأتكلم.
    وبصوت أجش صاح فيها أبو الهول:
    أنت كاذبة . . ومخادعة . . وستضيعين وقتنا هراء.
    وبحسم قال آمراً:
    علقوها من ساقيها واضربوها بالكرباج.
    وتحرم من الماء والطعام حتى أعود قبل الظهر.

    وعند مدخل الكهف. .
    كانت الفتاة الفرنسية تقف في زهو، وقد علت وجهها ابتسامة رقيقة تتخلل الدم المستعار، وعندما أدركها أبو الهول ، ربت على كتفها وقال وهو ينظر بعيداً
    حيث الفجر الوليد:
    انظروا إلى صديقتنا فرانسواز. . إنها حقاً قامت بمعجزة. ونحن جميعاً نجلها لإخلاصها لنا. إنه إخلاص نقي بريء. . يشبه الفجر . .

    فجر الحياة . ونطقها بالفرنسية L’autre de la vie .


    انتهى
    الفصل الحادي عشر

  4. #14
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الثاني عشر

    طريق الخلاص :

    وبينما يغادر العقيد أبو الهول كهف السعرانة ترافقه فرانسواز كاستيمان، كان صراخ أمينة لا يزال يتردد عالياً عبر الجنبات موشم بالهلع: أخرجوني . . سأتكلم . . سأعترف. لكن الجنود كانوا قد شرعوا في تنفيذ أوامر قائدهم، إذ كبلوا قدميها بحزام عريض من الجلد، وعلقوها كالشاه إلى سقف الكهف بواسطة سلسلة حديدية، وانهالوا على جسدها ضرباً بالكرابيج.

    ،،
    هكذا رسم الضابط الذكي خطته المحبكة لانتزاع اعترافاتها بأسرع ما يمكن، معتمداً أولاً على المتطوعة الفرنسية المخلصة في بث الرعب بقلب أمينة لتطويعها، واللجوء إلى التعذيب الشديد ثانياً لتخور تماماً . .


    وفي خلال ساعات معدودة. فقد كان هناك وعد، أبو اياد لوزير الداخلية اللبناني الشيخ بهيج تقي الدين: بإنهاء التحقيق مع أمينة خلال ثلاثة أيام فقط، تسلم بعدها إلى السلطات اللبنانية، وها هي الساعات الحرجة تمر سراعاً، ولم يتبق من المهلة سوى خمسين ساعة، بعدها لن يسمح بإبقائها رهن التحقيق لحظة واحدة، إذا لم يكن هناك اعتراف منها صريح، وواضح . .

    وعندئذ . . ستغادر لبنان في بجاحة المنتصر وهي تخرج لسانها للفلسطينيين. لذلك . . عمد أبو الهول إلى تجاهل رغبتها في أن تعترف، فهو يدرك لسابق خبراته الطويلة، أنها ستلف وتدور وتحيك الأكاذيب إذا ما أنصت إليها فوراً. . ولكي لا يضيع الوقت هباء . .

    رأى أن التعذيب بتلك الوسيلة سيختصر المسافة والوقت، خاصة وأنها تنطلق بشدة إلى قمة لحظات الضعف الانساني، خوفاً من الاعدام. وهي المتمسكة والراغبة في الحياة، لقد كان الاقتتال عنيفاً مع عقارب الزمن، ومع تلك المرأة الخائنة الذكية، التي دربت في الموساد على المراوغة والدفاع. لذا فالتعذيب المؤلم سيصيب إرادتها بالشلل، ويقضي على تفاعلات عقلها وشحنات المقاومة به، بل إنه سيجتث فيها الكذب والخباثة.

    ويحيلها إلى مجرد امرأة لا تفكر سوى في إنقاذ حياتها، مهما كانت التضحيات والخسائر، متجاهلة كل وعود الموساد بحمايتها، فالألم المصحوب بالهلع طريق سهل أحياناً للسيطرة على نوعية معينة من الجواسيس، إذا ما اغلقت أمامهم أبواب النجاة والأمل، والعقيد أبو الهول لم يعتمد على هذين الأسلوبين فقط، بل نشط في استغلال كافة ما لديه من معلومات ، حصل عليها رجال رصد في
    فيينا، لإخضاع العميلة
    إخضاعاً تاماً لا شك فيه ، وظهر ذلك جلياً في أسلوب الاستجواب
    المعقد الذي انتهجه بعد ذلك.


    كانت الدقائق تمر رهيبة الوقع على العميلة التي آمنت من قبل بأكذوبة الموساد الأسطورية، بأن الفلسطينيين لن يكشفوها أبداً، لأنهم رتبوا كل شيء لحمايتها في حالة كشفها، فرجال الكوماندوز الصهاينة ، خاصة فريق العمليات الخاصة المعروف باسم السايريت ماتاكال سيعثرون عليها وسيخطفونها بالقوة،


    كما فعلوا مع النازي أدولف إيخمان الذي خطفوه من الأرجنتين عام 1960
    وأعدموه في تل أبيب، ومع الطفل يوسيل شوماخر الذي اختطف من فلسطين عام 1959 وعثرت عليه الموساد في نيويورك عام 1962 لكن العميلة الواهمة وقد أفاقت على الحقيقة المؤلمة، لفظت إيمانها العميق بالموساد، وآمنت – لحظة صراخها أمام مشهد الاعدام – بأن الاعتراف بصدق هو طريق الخلاص الوحيد من النهاية المرعبة. أما وقد علقوها إلى السقف

    وتناوبوا ضربها بالسياط، فقد اشتد إصرارها على الاعتراف ليكف الجنود عن تمزيق جسدها، لكن الجند لم يرحموها . . واستمروا في تعذيبها دون اكتراث بصراخها، أو إلى حقيقة
    أنهم يضربون امرأة . .

    كانت عربية ! شهقة المصدوم : قرب الظهر . . توقف أسفل مدخل الكهف سيارة جيب، ترجل منها ضابط برتبة مقدم وجنديان يحمل أحدهما حقيبة متوسطة الحجم، تحمل جهاز تسجيل متطور ذا سعة عالية. وضعها بعناية فوق قطعة صخرية مستوية بالقرب من أمينة، وانهمك الآخر في شد الأسلاك الكهربائية إلى بطارية السيارة الجيب بينما وقف الضابط يقلب بعض الأوراق بين يديه، متجاهلاً الالتفات إلى أمينة المفتي

    وسألها في صوت حاد أجش: من هو رئيسك المباشر في الموساد؟
    "ويطلق عليه ضابط الحالة".
    وبصوت كأنه همس الموت أجابت في وهن: سأموت عطشاً . . اسقني و . . . وقبل أن تكمل الجملة رفع الضابط إصبعه، فهوى على ظهرها سوط ثقيل، ذاب صداه وسط صراخها الشديد، وأجابت على الفور: أشيتوف . . إيرييل أشيتوف.

    فقال وهو لا يزال ينظر إلى الأوراق بين يديه: أين جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة؟ أجابته في سرعة مذهلة وهي ترمق الجندي ذي الكرباج بخوف: أمروني أن أضعه بصندوق القمامة أعلى شقتي ببيروت وأن أحرق أوراق الشفرة التي كانت بالمصحف. كم تقاضيت من الموساد مقابل التجسس علينا؟

    لم آخذ سوى أربعة آلاف دولار، وكنت أنفق من أموالي الخاصة لأنهم صرفوا لي تعويضات زوجي المفقود. هذه المرة التفت إليها الضابط وهو يصيح في انفعال: أتعودين إلى الكذب ثانية أيتها المومس، وتدعين بأنك تنفقين من جيبك على الموساد؟

    صرخت أمينة في رعب: سيدي الضابط . . إنها قصة طويلة . . "أجهشت بالبكاء" وأنت لم تسألني عن البداية . . أرجوك . . اسقني وسوف أدلي باعترافي منذ بدأت القصة.
    صاح فيها الضابط محتداً وهو يلوح ناحيتها بمسدسه: عندي أوامر صارمة بأن أقتلك فوراً بالرصاص، إن تأخرت في الإجابة على أسئلتي، فكوني حذرة في اختيار ألفاظك وإياك والكذب. أنبهك ثانية: إياك والكذب أيتها العاهرة، فنحن نعرف عنك كل شيء. . كل شيء بالتفصيل منذ خدعك موشيه وتزوجك . .


    وهاجر إلى فلسطين تنفيذاً للخطة المرسومة، أفكنت تعتقدين بأنه أحبك حقاً؟ خرقاء أنت إن كنت صدقت ذلك فيهودي مثله لن يعاف حسان قومه ليقترن بدميمة مثلك. هكذا كانت خطة الخداع الفلسطينية التي تعتمد على زرع الشك في صدر أمينة، والتلويح بوجود قصة كذب محبوكة جيداً وراء عملية تجنيدها . .

    ولكي يسيطر عليها الشك تماماً وهي في حالة الضعف تلك، مسلوبة الإرادة والتفكير النقي، استمر الضابط في سرد بعض التفاصيل المأخوذة عن مذكراتها. لقد وقعت أيتها الغبية في شبكة خداع متقنة أوقعتك بها "سارة" التي هي في الأصل عميلة للموساد، واستطاع رجالنا الإجهاز عليها في فيينا، وفي فلسطين خدعوك مرة ثانية، عندما ادعو بأن موشيه انفجرت به الطائرة فوق سوريا!

    ولأنها كانت أضعف من أن تفكر . . أو تحلل ما قاله الضابط الغليظ القلب، شهقت شهقة المصدوم، وهزت بعنف رأسها المدلاة وهي تئن في غير وعي: مستحيل . . مستحيل أن يفعل موشيه ذلك. أنا لا أصدق . .

    "النفي هنا مشبع بالاستسلام والرفض معاً" كالدهر كانت تمر اللحظات القليلة، التي تذكرت أمينة أثناءها قصته منذ البداية مع سارة، وكيف شاركتها الشذوذ وجرتها إلى حياة الهييبيز البوهيمية، حتى أخذتها معها إلى وستندورف في زيارة لأسرتها بلا موعد. فهناك التقت بشقيقها موشيه الضابط الطيار، فانجرفت معه بلا عقل في قصة حب مجنونة . .محرمة، تخللها الجنس الذي عشقته معه حتى أدمنته، وأسلمت اليه قياد نفسها طائعة . . بلا إكراه.

    وتساءلت أمينة في نفسها، برغم رائحة الموت التي تزحف من حولها: ترى . . هل كان موشيه صادقاً في حبه . . أم أن القصة كلها مجرد خدعة لذيذة . . تقودها إلى الاعدام. . ؟

    كان حديث الضابط الفلسطيني ذي الوجه الجامد يفتك بمجامع عقلها المنهك . . ويغوص بها في محيط لا آخر له من الشك. . والخيبة . . والاندحار . .ورددت في نفسها غاضبة . . "إذاً . .خدعتني سارة . . وأحكم موشيه حلقة الخداع حول رقبتي". هنا . . هنا فقط . . نجحت تماماً خطة أبي الهول في زعزعة ثقة العميلة في قصة حبها، وفقدت بذلك السيطرة على عقلها. كذلك فقدت الهدف الذي من أجله خانت وقتلت . . ودمرت، وباعت من أجله دينها ووطنها.

    وبضياع الهدف الرئيسي من وراء تجسسها، انقلب إيمانها بالانتقام من العرب إلى هدأة رفض هي مزيج من الحسرة . . والندم. لكنها – فيما بعد – أوجدت مبررات أخرى لفعلتها، في محاولة لتسكين لسعة المرارة التي التصقت بعقلها. رائحة العذاب والموت كان الموقف عصيباً جداً عند أمينة المفتي.

    فقد أجاد العقيد أبو الهول التعامل معها بتدرج حتى أوصلها إلى مرحلة الشك. . فالترنح . .وليس هناك من شيء بعد الترنح سوى السقوط. وعند السقوط يكون المرء في أقصى حالات ضعفه . . ويأسه . . وقهره . .فلا عقل لحظتئذ أو إرادة، إنما انصياع للآخرين يغلفه الخوار. وفي مذكراتها تصف أمينة بتلقائية شديدة تلك اللحظات الحاسمة من حياتها، التي عاشتها في كهف السعرانة، وجاء وصفها لتفاعلاتها الداخلية في سرد رائع صادق، يحمل كل صراعاتها من أجل الحياة. مذكرات حوتها صفحات طويلة لا يستوعبها مجلد ضخم.

    ضمنتها خلجات نفسها بصراحة، معتمدة على أسلوبها الشيق في الوصف والتحليل بلغة عربية بسيطة. ولنقرأ معاً ما كتبته عن مرحلة الترنح. تقول أمينة المفتي: "عشت أسوأ لحظات حياتي بعدما أطلقوا الرصاص على الفرنسية أمامي. كانت الفجيعة على عمري قاسية، والألم النازف أقصى . . وقلت في نفسي: هكذا يموت الخونة، وتصورت أنني سألقى ذات المصير، وكأنني كلب عقور لا ذكر لي

    ولا اعتبار. وتعجبت من الضابط الشرس – أبو الهول – الذي أرعبني اسمه، فهو لا يريد أن يسمع اعترافي. كان لا يثق بي بالطبع فزميله أبو داود ضج مني وفشل معي من قبل. لقد كان أبو داود طيباً ومريحاً . .

    أما أبو الهول فحروف كلماته طلقات رصاص. ارتعد بدني وأنا أستعيد ملامح وجهه، ووددت لو أنه جاء ثانية لاستجوابي بنفسه. فساعتئذ لن أنتظر منه سؤالاً واحداً، نعم . . قررت ألا أتركه يسألني، لأنني سأقول له كل شيء . . وبسرعة . . قبلما يثور فيأمر بإعدامي. لكن . . لم يجيء أبو الهول . . أرسل بدلاً منه ضابطاً آخر يماثله في الشراسة والقسوة.

    ضغط بعنف على اعصابي، أشعرني بتفاهتي . . وحقارتي ورأيت الموت يتربص بي بين أصابعه. بل كنت أراه متحفزاً في ماسورة مسدسه. كنت لا أنوي خداعه أبداً أو مراوغته، فلا حيلة أمام سهام الموت المصوبة تجاهي. لكنني . . تمنيت للحظة ألا أموت ويلقى بجسدي في العراء، وكان ذلك عندما اكتشفت أنني ضحية مؤامرة قذرة، بطلها زوجي موشيه . . وسارة والموساد.

    في تلك اللحظة تمنيت ألا يقتلونني . وتضرعت إلى الله نعم . . إلى ربي الذي عصيته وكفرت به – أن ينقذني . . لأرى موشيه – موشيه الرومانسي الرقيق الحنون الذي خدعني . . وأضاعني. كنت في حالة صراع قاسية. . صراع بين حبي لموشيه الذي بلا حدود وبين الحقيقة التي تفتك بي. واسترجعت شريط حياتي كلها في لحظة، ووقفت عند حكايتي مع موشيه. وتساءلت . .


    ماذا سأفعل معه لو أنه كان حياً بالفعل في الوطن المحتل . .؟ هل سأنتقم منه أم سأضعف أمامه وأصفح. . ؟! سيطر الضابط المحقق على أمينة المفتي، فخضعت له في استسلام وقد خارت عزيمتها، وهوت صريعة الرعب في كهف موحش وسط الجبال . .تنبعث منه رائحة العذاب . . والموت. وفاجأها الضابط بسؤال صاعق: مع من مارستِ الجنس في لبنان . . ؟ بصوت مرتعش أجابت بعد لحظة تفكير قصيرة . .تسعة . . ! وكأنما أرادت تأكيد صدق إجابتها أضافت . . لبنانيان يعملان معي هما مارون الحايك ومراون عساف الموظف بشركة الهاتف، وضابط فلسطيني فشلت في تجنيده اسمه أبو ناصر وخمسة أجانب.

    هؤلاء ثمانية فقط، مَن التاسع؟ أجابت بنبرة خجل شديدة . . خديجة زهران . . !! وهي أول من عرفت في لبنان وتملك محلاً للملابس اسمه اللوار Loire . كانت تمطر دما في كتابها الشيق "قبل الإفاقة" يقول ضابط سوفييتي اسمه ليونيد يوكوف، وهو خبير بشؤون المخابرات ومتخصص في استجواب الجواسيس والخونة. عندما ينهار العميل المعتقل ويعترف بأول معلومة بعد جهاد، يكون كالكهل الذي يرتقي الجبل، ويجر خلفه سلسلة طويلة متصلة الحلقات تمتد بين الحصى والصخور، كلما جلس ليستريح دق بعض حلقاتها ليسهل عليه الجر. وقد يعتقد البعض أن اعترافات أمينة المفتي التي أدلت بها لا تفي بالغرض.

    فالضابط الفلسطيني لم يسألها سوى خمسة أسئلة فقط. وأقول: لقد حملت إجاباتها اعترافاً صريحاً بالتعامل مع الموساد، وكذا أسماء شركائها في شبكة الجاسوسية، وعند هذا القدر الهائل من المعلومات في الاستجواب الأول.

    ظهر فريق من رجال المخابرات الفلسطينية يترأسهم العقيد أبو الهول، لمهمة مباشرة التحقيق مع الجاسوسة المنهارة، دون منحها فرصة واحدة للراحة أو لاسترداد أنفاسها، إنه التوقيت الذهبي لاستجلاء خفايا الأسرار التي يحملها الجاسوس المعتقل، حيث يكون واقعاً تحت ظروف نفسية وجسدية مرهقة. ومنحه فرصة – ولو قصيرة – للراحة، معناه خسارة فادحة لا تعوض، لأنه بذلك سيرتب أفكاره ويتحصن بالأكاذيب التي درب عليها واسترجعها لحظة
    عمل العقل المعطل.

    وكان لوصول أبو الهول وقع الصدمة عند أمينة، فهو رجل بدا بلا قلب أمامها عندما أعدم الفتاة الفرنسية، وأمر برميها خلف الجبل وتحطيم رأسها بالصخور. صرخت الواهنة المدلاة من سقف الكهوف عندما لمحت الرجل المتجهم يقترب منها، ويأمر أحد الجند بأن يعري ظهرها. تأوهت المرأة ألماً والجندي يرخي سترتها، ولما انكشف الظهر بدت خطوط السياط الحمراء المتقاطعة في كثافة، فصرخ في جنوده بصوت جهوري أجش: أكنتم تدللونها يا أولاد الـ . . . ؟

    أما زلتم في مرحلة الحضانة؟ . وانهال ضرباً على الجنود الذين تناوبوا تعذيبها وهو يسبهم ويقول: كانت الفرنسية تمطر دماً . . أين دم هذه الـ . . . يا أوغاد؟. ثم اتجه بوجهه ناحية الضابط الذي حقق معها وسأله: هل اعترفت بكل شيء؟ أجابه الضابط على الفور وهو يقف منتصباً في انتباه: لم تعترف بعد سيادة العقيد إنها كاذبة. هنا . .

    أدركت أمينة أن النهاية قد قربت . . فاستجمعت ما بقي لديها من قوة وقالت للقائد في هلع ووهن: اعترفتُ . . اعترفتُ . . حتى بأسماء شركائي . . اسألوني وسأجيب بصراحة. لا أريد أن أموت . . أن أموت. فصمت أبو الهول للحظات مرت بطيئة . . مرعبة، ثم نطق آمراً في حسم : أنزلوها. .

    انتهى
    الفصل الثاني عشر

  5. #15
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الثالث عشر

    الأستجواب :
    بداخل كهف السعرانة، شرع العقيد أبو الهول في استجوابها.
    ورصت عدة مقاعد خشبية على شكل نصف دائرة يتصدرها القائد، بينما جلست أمينة على الأرض بلا قيود في وضع القرفصاء، حيث بدأت تعترف بقصة سقوطها في شرك الجاسوسية منذ البداية . .

    البداية الأولى في فيينا. وكانت خائرة تماماً لا تملك إلا قول الصدق . . كل الصدق أملاً في النجاة. وجاء في ملف استجوابها أنه في يوم 12 "سبتمبر" 1975، الساعة الواحدة وخمس دقائق مساء، أُخضعت أمينة المفتي للتحقيق، وكان استجوابها برئاسة العقيد أبو الهول، وبإشراف القائد محمد داود عودة " أبو داود" كما يلي:
    اسمك بالكامل. . ؟ أمينة داود محمد المفتي.
    جنسيتك . . ؟ أردنية.
    بكالوريوس علم النفس الطبي بجامعة فيينا عام 1963.
    والدكتوراة . . ؟ مزورة . . فأنا لم أكمل دراساتي العليا.
    أين ومتى تم تجنيدك في الموساد . . ؟ أنا لم أجند . لكنهم هددوني في فيينا في شهر مايو 1972.
    كيف . ؟ نريد كل التفاصيل. كنت أسعى للحصول على درجة الدكتوراة في فيينا. ولما فشلت في ذلك تزوجت بطيار نمساوي يهودي اسمه موشيه بيراد، هو في الأصل الشقيق الأكبر لصديقتي النمساوية سارة،
    وكنا قد ارتبطنا معاً بعلاقة حب.
    تتزوجين من يهودي وأنت المسلمة . . ؟
    كانت ظروفي النفسية سيئة وتزوجته بإلحاح منه،
    ولم أكن أعلم أن ذلك حراماً لأنني غير متدينة.
    ألم تشكين في نواياه وهو يلح في الزواج منك . . ؟
    لا . . مطلقاً . . فهو كان يحبني جداً ويسعى لإسعادي .
    هل يعرف أهلك في الأردن بقصة زواجك من يهودي . . ؟
    لا . . فقد عارضوني بشدة عندما أخبرتهم برغبتي في الزواج من نمساوي. وكنت قد كذبت عليهم وادعيت بأنه مسلم من جذور تركية. لذلك . . هربت مع موشيه إلى فلسطين خوفاً من أن تطاردني أسرتي.
    وما هي قصة هروبكما هذه . . ؟

    جائني موشيه ذات يوم - وكنا نعيش في وستندورف قبلما ننتقل إلى فيينا – وبيده إحدى الصحف المحلية، وقال لي توجد بالصفحة التاسعة حكاية غريبة عن طبيب إيطالي، يغتصب مريضاته في حجرة العمليات بعد تخديرهن.

    ولما قرأت الصفحة لفت انتباهي إعلان بارز إلى جوارها مباشرة، كان عن طلب طيارين عسكريين أوروبيين من اليهود للهجرة إلى الأرض المحتله .

    وكانت المزايا المقدمة متعددة جداً ومثيرة، فتكلمت مع موشيه وناقشت الأمر معه لكنني فوجئت به لا يكترث. فغضبت منه لأنه يعرف مدى خوفي من مطاردات أهلي لي، وحالات التوتر التي لا تكف عن إرهاق أعصابي ليل نهار، وكلما وجدته كذلك ازدتت إلحاحاً في مناقشة الفكرة معه، فقبلها بوقت ليس طويل كان قد حدثني عن رغبته في العمل كطيار مدني بإحدى الشركات الكبرى.
    بعدها بأيام انتقلنا إلى شقتنا الجديدة بفيينا، إلا أنني كنت لازلت غاضبة ومكتئبة وخائفة. وكثيراً ما صحوت من نومي هلوعة مضطربة، وأجدني لا أهدأ إلا بعدما أبكي بحرقة، فكان حالي يؤرقه ويضايقه. ولما وافق على مناقشة فكرة الهجرة

    سألني عن قناعتي فأجبته بأن فلسطين هي المكان الوحيد الذي سأحس فيه بالأمان لأن أهلي لن يتوصلوا الي. فقال إنه يخشى أن يرفضوا طلب الهجرة لأنني مسلمة . . وأردنية، فقلت له وكيف نضمن الموافقة؟
    فقال بأن تتهودي . . ولما وافقت اصطحبني إلى معبد شيمودت حيث تم تعميدي وأصبحت يهودية و قد استدل عليه
    هل كنت تكرهين كونك عربية . ؟
    كنت أكره مظاهر التخلف في بلادي.

    هل عدم اكتراث موشيه بالإعلان الذي جاء بالصحيفة يوحي لك بشيء الآن. . ؟
    ربما كان يدفعني لأن ألح أكثر فأكثر . . أو أنه كان يرغب العمل كطيار مدني .
    هل موشيه كان يهودياً متديناً . . ؟ وهل كان يحب الصهاينة. . ؟
    لا . . لم يكن متديناً. فنادراً ما كان يذهب إلى المعبد. لكنه كان يحب اليهود ويفتخر بتلطف بتفوقها وتقدمها.
    وسارة . . ؟ كانت مجنونة باليهود ، وتصطاف بفلسطين كل عام.
    هل استدعتك جهات أمنية في فيينا قبل هجرتكما . . ؟ لا .
    وهل حدث ذلك في فلسطين نعم . اصطحبني ضابطان إلى جهة أمنية لا أعرفها في تل ابيب . . ؟

    ماذا حدث معك هناك . . ؟ برروا لي حروبهم مع العرب، وأنهم يدافعون عن وطنهم ولا يبغون عدواناً على أحد، وأنهم يسعون إلى السلام.
    هل اقتنعت . . ؟ كنت أقول لهم ذلك . . لكنني لم أكن مقتنعة بما يقولون. "كانت تكذب . . فهي نسيت عروبتها وتحولت إلى يهودية قلباً وقالباً . . "كم مرة استدعيت لمكتب الأمن . . ؟

    مرة واحدة . . لكن ضابطاً اسمه أبو يعقوب كان يزورنا دائماً ويجلس معي كثيراً ليؤكد تبريراته.
    ما هو اسمك الرسمي في أوارقك اليهوديه . . ؟ آني موشيه بيراد.
    متى خبرت بسقوط طائرة زوجك موشيه بيراد . . ؟ في 11 أبريل 1972. من أخبرك . . ؟ أبو يعقوب.
    هل قال لك أنه مات . . ؟ لا . . أخبرني أن السوريين أسقطوا طائرته، ولم يعلنوا بعد عن أسره، بما يعني أنه ربما هرب.

    هل طلبوا منك التوجه إلى سوريا ولبنان للبحث عنه . . ؟
    ليس صراحة . . لكنهم أوحوا إلي أنه ربما التجأ إلى أحد الكهوف الجبلية بسوريا في انتظار النجدة، أو أن إحدى المنظمات الفلسطينية المنشقة عن منظمة التحرير تحتفظ به سراً للمساومة عليه.

    ولما أنبأوني بأنهم يبحثون عمن يتقصى أخباره، طلبت منهم أن أقوم بنفسي بالمهمة، وعلى ذلك سمحوا لي بمغادرة تل أبيب إلى فيينا بجواز سفري الصهيوني ، والسفر إلى بيروت من هناك كأردنية.
    هل دربت على كيفية تقصي المعلومات للبحث عن زوجك . . ؟ لا . . هم فقط طلبوا مني الاحتراس والحذر.

    وكيف جندت بعد ذلك . . ؟ أنا لم أجند . . فقد استدعوني إلى فيينا وتقابلت مع ثلاثة صهاينه من جهاز المخابرات، أقنعوني بأنهم جاءوا لتسهيل إجراءات إرث زوجي والتعويض الذي تقرر له.

    صرف تعويض يعني أنه مات بالفعل. فعلام كان سفرك إذن لبيروت . . ؟
    لم أكن أعرف ذلك بالضبط . لكنهم نصحوني بتقصي أخبار المنظمات الفلسطينية في بيروت فقد أستدل عليه.
    تستدلين عليه في بيروت أم في دمشق . . ؟ من خلال المنظمات الفلسطينية في بيروت.

    ضمانات الولاء :

    وكيف تدربت للقيام بتلك المهمة. . ؟
    لمدة شهر وأربعة أيام في فيينا علموني كيف أكتب الرسائل بالحبر السري، وأظهار الرسائل الواردة الي منهم، وأساليب التشفير والتصوير، وتلقط الأخبار والالتزام بالحس الأمني، وتحميض الأفلام والهروب من المراقبة، والتمييز بين الأسلحة وأساليب إثارة المتحدث ليفشي أسراره.

    واستقدموا لي من فلسطين أحد الضباط المتخصصين في تقوية الذاكرة وتخزين المعلومات والأرقام والأسماء والصور
    "الاعتراف بالتجسس واضح جداً هنا . . ".
    إذن كان المطلوب منك تقصي أخبار الفلسطينيين وليس تقصي أخبار زوجك . . ؟
    تقصي أخبار الفلسطينيين بغرض تسقط المعلومات منهم عن موشيه.
    "وهنا كانت تحاول المراوغة".

    هل حددوا لك مهام بعينها . . ؟
    نعم . . طلبوا مني التحري عن مقار إقامة القادة الفلسطينيين، والتغلغل داخل رجال المقاومة لمعرفة أخبارهم.
    ماذا كانوا يريدون بالضبط . . ؟
    كانوا يريدون معرفة الطريق التي يسلكها الفدائيون للتسلل إلى فلسطين وأعدادهم، وتدريبهم، وأسلحتهم، ومواعيد هجماتهم المرتقبة، وكذلك مخازن الأسلحة والإعاشة.


    قلت إنهم هددوك في فيينا في مايو 1972 . . كيف . . ؟
    قال لي أحدهم إنني الآن وحيدة لا حول لي، وأن المخابرات الأردنية تسعى ورائي، ولأنني أصبحت يهودية ومواطنة إسرائيلية، فهم سيعملون على حمايتي مهما كلفهم الأمر. فكان المطلوب مني أن أستغل هويتي الأردنية للسفر إلى بيروت حيث لن يشك الفلسطينيون بي.
    ــ فوافقت على التعامل معهم من أجل حمايتك أم لإنهاء موضوع الإرث والتعويض . . ؟
    من أجل حمايتي . . فقد كنت خائفة من المخابرات الأردنية. "!!"
    لذلك تسلمت 4000 دولار فقط من الموساد وتنفقين من جيبك كل تلك المدة . .؟


    أين تدربت على استعمال اللاسلكي . . ؟ في تل أبيب.
    متى . . ؟ في الفترة من 20 سبتمبر إلى 3 أكتوبر 1973.
    من قام على تدريبك . . ؟ ضابط مهندس اسمه يوسف بن بورات.
    هل 13 يوماً تكفي لتدريبك على استعمال اللاسلكي . . ؟
    كان الجهاز تقنياً متقدماً جداً . . وبسيط في طريقة بثه وإرساله.
    ما سر صفحات المصحف الناقصة . . ؟ كانت توجد مكانها أوراق الشفرة.

    كيف تعرفت بمارون ومانويل . . ؟ عرفتني عليهما خديجة زهران.
    وكيف جندت الثلاثة لمعاونتك . . ؟ تعرفت أولاً بمانويل ثم جائني بمارون بعد ذلك . .
    هل مارسا الجنس معك . . ؟ نعم . . وكان ذلك قبل أن يعملا معي.
    هل نصحك ضباط الموساد بذلك . . ؟ لا . . فعلت ذلك لأضمن ولاؤهما لي
    هل خديجة زهران شريكة لك منذ البداية . . ؟
    لا . . لم تكن تعرف بمهمتي إلا منذ فترة وجيزة. لكنها ساعدتني قبل ذلك عن غير قصد.


    كم أنفقت على شركائك الثلاثة من أموال . . ؟
    لا أدري كم بالضبط. لكن مارون تسلم مني ما يزيد عن الثلاثة آلاف ليرة قبلما ينضم لي.
    تقصدين قبل أن يكتشف أنه يعمل لصالح الموساد. وماذا قدم لك مارون . . ؟
    عرفني بعلي حسن سلامة، وجاءني بأرقام التليفونات السرية للزعماء الفلسطينيين.
    ومانويل . . ؟ كان يشاركه . وكان مارون مسؤولاً عنه.
    وما دور خديجة معك . . ؟
    كانت تمدني ببعض المعلومات التي تجلبها من زوجات الضباط الفلسطينيين من المترددات على محلها.


    امرأة بلا وطن :

    هل طلب منك رجال الموساد اغتياله . . ؟
    لا . . مطلقاً. لم يطلبوا مني ذلك . لكنهم أمروني أن أوطد علاقتي
    به وأقوم بتصويره.
    وهل فعلت ذلك . . ؟ نعم . . فهم كانوا يجهلون ملامحه وكانوا يلحون في ذلك.
    كم تقاضى منك أبو ناصر . . ؟ أبو ناصر . . ؟ إنه لا يعرف أي شيء. كنا أصدقاء فقط.

    هل مارس معك الجنس . . ؟ ثلاث مرات فقط ثم اختفى وعلمت بعد ذلك أنه سافر للعمل في قبرص.
    من هم الأجانب الخمسة الذين ضاجعتهم . . ؟
    إنهم رجال من جنسيات مختلفة يعملون للموساد، وكانوا يجيئون إلي ليتسلموا الأفلام والخرائط التي بحوزتي.

    هل تدلينا عليهم . . ؟ أنا لا أعرف أسمائهم الحقيقية، فهم يتعاملون معي بأسماء حركية، ويتصلون بي دون أن أعرف مكانهم.
    وأين كانت تتم لقاءاتكم الجنسية . . ؟
    في شقتي ببيروت ــ . هل بينهم عرب . . ؟ مغربي قال لي إن اسمه عازار وكان يعيش في تطوان.

    هل زرعت أجهزة تنصت بمكتب ياسر عرفات . . ؟
    كانوا يفكرون في ذلك عندما كنت بفلسطين . . لكنني لم أفعل.
    ما الدور الذي قمت به لمحاولة اغتيال القائد أبو إياد في أكتوبر 1973؟
    أبلغت الموساد عن الموقع العسكري الذي كان يتفقده، وقد كنت أحمل يومئذ جهاز اللاسلكي بحقيبتي، وأتابع عن قرب الطائرات الصهيونيه وهي تضرب الموقع. "أجهشت بالبكاء" سيدي أبو الهول . .

    كنت لم أزل بعد غبية حمقاء، أجرمت في حق وطني وعروبتي . . وديني. وارتكبت أفظع الجرائم لأنني كنت مهددة . . شريرة لا وطن لي. لقد صدقتهم وآمنت بما كانوا يقولونه دون أن أحترز أو أفكر . . وأتحسس الطريق الصواب، ولم يكن أمامي سوى الانصياع لأوامرهم خوفاً على حياتي. فهم زرعوا الخوف بداخلي من المخابرات الاردنية . . لا . . بل ومن أجهزة المخابرات العربية كلها التي تطاردني لتغتالني، ولم يكن لي مأوى سوى في عندهم. هكذا أوهموني وأخافوني . . وكنت مغيبة الوعي لا أدري أين هي الحقيقة، أو لأي طريق أقاد.


    سيدي . . لقد كنت أمدهم بالمعلومات ليس حباً فيهم أو كراهية للعرب، بل لأجل أن أضمن وطناً يأويني ويحميني، بعدما ضيعت نفسي بغبائي . . ووقعت أسيرة مؤامرة أحبك الصهاينة حولي شباكها بمساعدة سارة وموشيه. "أمينة هنا تحاول كسب عطف المحقق ليس إلا".

    انتهى
    الفصل الثالث عشر

  6. #16
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الرابع عشر

    لسعة الخوف

    حمل العقيد أبو الهول ملف استجواب أمينة المفتي إلى قائده أبو داود، الذي خطط بمهارة للإيقاع بها، وبدوره وضع الملف الساخن أمام ياسر عرفات ومساعده الأول أبو إياد لتقرير مصيرها . . امتعض أبو إياد أسفاً وقال:
    يا لها من امرأة شريرة، لم تكتف بما فعلته بنا فأرادت قتلى.
    وربت على كتف رئيس مخابراته – علي حسن سلامة – وهو يقول:
    نشكر الله على أنك وفقت في كشفها، فوجود حية كهذه بيننا كان سيكلفنا الكثير.

    أما ياسر عرفات فقد علق قائلاً:
    لن تكف الصهيونيه عن زرع الخونة بين صفوفنا، فلا تأمنوا كل متطوع وافد، ولا تغرنكم حماسة الغرباء ، وقبل أن يشرق صباح الثالث عشر من سبتمبر 1975، كانت هناك ثلاث سيارات إسعاف تخترق شوارع بيروت، بداخل كل منها خمسة مسلحين أشداء من رجال المخابرات الفلسطينية – رصد – في مهمة جد خطيرة.

    تتجه السيارة الأولى إلى شارع الخرطوم حيث يقيم مارون الحايك، وتتجه الثانية إلى شارع أرواد عند سوق الطويلة حيث مانويل عساف أما الثالثة فكانت تقصد منطقة باب إدريس لاعتقال خديجة زهران. لقد استقل المسلحون الخمسة عشر سيارات الإسعاف بغية إتمام مهامهم بسلام، في وقت كانت فيه بيروت أشبه بساحة حرب شاسعة، تشتعل بنيران الفتنة الطائفية كل بقعة فيها، إذ تحولت بيروت من الحب إلى الحرب، وصار وطن الجميع مذبح الجميع.

    وامتلأ وجه المدينة الجميلة بالندوب والتشوهات والجماعات المسلحة، التي بلغ عددها ما يزيد عن 39 تنظيماً. ففي بيروت الشرقية يتواجد الكتائب، ونمور الأحرار، وحراس الأرز، والطاشناق، والمردة. . الخ
    وفي بيروت الغربية هناك المرابطون، ونسور الثورة، وحركة التحرير، وحركة صلاح الدين ، و . . طابور طويل من القبضايات المسلحة. لقد بدا أن التعايش الطائفي لم يكن سوى نزاع مستمر وتراكم خفي للأحقاد، انفجر بشكل مذهل، وجرى التسابق بين الطوائف من أجل السيطرة السياسية للعائلات الدينيه.


    واستمر الخلط بين السياسة والدين في ذهنية الفرد والجماعة، وتحولت لبنان إلى مارونية عند الموارنة، وشيعية عند الشيعة، وسنية عند السنة، ودرزية عند الدروز، وحتى آخر طائفة صغيرة في لبنان. أما الفلسطينيون . . فقد ظلوا بعيداً عن رحى الحرب الأهلية، وتشغلهم المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني، وتنظيم صفوفهم من أجل استمرار الكفاح، والبحث عن خونة استباحوا أسرارهم وباعوها لليهود.


    وعندما وصلت السيارة الأولى لمنزل خديجة زهران، كانت هناك مفاجأة مدهشة تنتظر الرجال الخمسة، إذ عثروا عندها على مانويل عساف عارياً في فراشها، لم ينتبه لصوت فتح الباب بخفة ووقوفهم على رأسه، بينما كانت سيدة البيت في الحمام، شغلها انسكاب الماء المنهمر على جسدها في البانيو عن معرفة ما يدور وراء الباب. لقد انهار مانويل لمرأى الرجال الخمسة، وأدرك في الحال ما جاءوا لأجله، أما خديحة فقد صرخت عندما فوجئت بأربعة منهم يسحبونها من حمامها الدافئ، ويسترون الجسد العاري بشال أحدهم. ويأمرونها بارتداء ملابسها على عجل. انتهز مانويل عساف انشغال الأربعة، وعرقل زميلهم الخامس وجرى مسرعاً إلى شباك الغرفة، وقبل أن يتمكن من الإمساك به قذف بنفسه
    من الطابق الخامس.


    ووجد بجوار المنزل منكفئاً على بطنه، يرتدي روباً أحمر بلا أزرار . . وجورباً قطنياً (!!) هكذا نأى بنفسه عن المصير الذي كان ينتظره . أما رفيقه مارون الحايك فقد استسلم خائراً وهو يرتجف رعباً وهلعاً، واقتيد مع خديجة زهران إلى الجنوب بعيداً عن الحرب الأهلية، حيث الجوع والعطش . . وصراخات الخوف والندم بكهف السعرانة الموحش . . الرهيب.


    عالم غريب . . غريب

    انكمشت أمينة المفتي في ذعر عندما علق رفيقاها في الخيانة – مارون وخديجة – بسقف الكهف على مقربة منها، تنهال على جسديهما الكرابيج كالمطر، فيملأ صراخهما جوف الكهف، ويتموج صداه في تداخل يصم الآذان. لقد كان تعذيبهما بشدة أمراً حتمياً لقتل إرادتيهما، وللنأي بهما عن الكذب والمراوغة عند الاستجواب. فالمطلوب منهما هو الإفصاح عما نقلاه إلى أمينة من معلومات، والاعتراف على آخرين تعاونوا معهما. سواء أكان ذلك عفوياً، أم بنية القصد والتعامل بأجر.

    أما أمينة التي تهتك جسدها بفعل التعذيب، فقد رأى القائد أبو داود حرمانها من النوم والطعام، ومنحها قطرات قليلة من الماء تبلل بها حلقومها المتشقق، لتعترف خلال الاستجواب الثاني المفصل، بكل ما نقلته من أسرار ومعلومات إلى الموساد، ليتمكن الفلسطينيون من تعديل خططهم واستراتيجيتهم على ضوء ما تم نقله للصهاينه ، وكذا . . تحليل نوايا العدو ومقاصده. فالمتعارف عليه أن أجهزة المخابرات في العالم أجمع، تعيد استجواب الخونة والمنشقين مرات ومرات، دون الاكتفاء بمرة واحدة، إذ إن القصد من ذلك عصر العملاء وتفريغ ما بعقولهم، اعتماداً على الإرهاق البدني والمعنوي.

    فالاستجواب المتكرر يميط اللثام عن الكثير من الأسرار والخبايا، ويظهر صدق الاعتراف من عدمه بتكرار الإجابات نفسها. فالعقل البشري مهما لقن من معلومات مكذوبة لن يستطيع ترديده مرات ومرات دون خطأ، لكن هناك حالات شاذة جداً لجواسيس استطاعوا التماسك، والإصرار على صدق ما ادعوه حتى النهاية.


    أشهرهم على الإطلاق جاسوس الموساد في القاهرة "وولفجانج لوتز" الذي اعتقل عام 1965 هو وزوجته وأخضع لتعذيب مكثف بما فيه حرمانه من الإحساس وبلوغه حد الجنون، لكنه صمد وأصر على القول إنه ألماني، ولم تتكشف حقيقته إلا بعدما عرض الصهاينة مبادلته بأسرى مصريين عام 1967.


    لقد كان من المهم إعادة استجواب أمينة المفتي، خاصة بعد إخضاع اعترافات مارون الحايك وخديجة زهران للتحليل الدقيق. فهي عميلة من نوع خاص، درست علم النفس وقرأت في فروع الفلسفة، بل وعشقت السوفسطائية ومحاورات سقراط التي كتبها أفلاطون، وتحفظ مقاطع كاملة من محاوره أقريطون، وضبطت لديها كتب لسارتر، وديكارت، وفريدريك نيتشه وآخرين غيرهم . .

    فكانت قراءاتها التي هي مزيج من الثقافات والاتجاهات، أداة طيعة للدفاع والتماسك وانتقاء الألفاظ. لكن "أبو داود" الذي استعد لها جيداً، لم يكن ليصدق أبداً بعد ذلك، أن عميلة الموساد المدربة، والأكثر ثقافة وقدرة على الإقناع والمحاورة، استحضرت كل ما بجعبتها، وقذفت به أمامه دفعة واحدة، دون أن تدخر وسعاً لإخفاء أي شيء ولو كان تافهاً.

    ذلك لأنه أجاد بدراسته لشخصيتها، واختياره للأسلوب الأمثل هو ورجاله في التعامل معها، ألا وهو أسلوب الاقتناص الذي يعرف في عالم المخابرات بالمباغتة، ويعتمد على دراسة علم الأسباب اعتماداً كلياً وهذا المنحى في خطط استجواب الخونة الذي اتبعه أبو داود ورجاله في المخابرات الفلسطينية، يدل دلالة قوية على عمق وعي رجال مخابراتنا العربية، وقدرتهم الفائقة على استغلال العلوم النفسية المعقدة في عملهم الشاق، للتعامل مع شتى أنواع الخونة، والعملاء المهرة الذين تدربوا في أكاديمية الموساد. وبينما كانت خديجة زهران تدلي باعترافاتها، تفجرت مفاجأة عجيبة أدهشت ضباط رصد، عندما وقفوا على سر سقوطها في شبكة أمينة التجسسية


    نساء أوروبا

    وجاء في محضر استجواب خديجة زهران. اسمك بالكامل . . وعمرك . . ؟ خديجة عبد الله زهران – 38 عاماً. جنسيتك . . ؟ أردنية الأصل وأحمل هوية لبنانية. صاحبة محل لوار للملابس في بيروت. كيف تعرفت بأمينة المفتي . . ؟تعرفت عليها عندما جاءت لتبتاع ملابس لها، ومن لهجتها عرفت أنها أردنية مثلي. كيف توطدت علاقتكما . . ؟

    كانت تزورني دائماً بالمحل وتحولنا إلى أصدقاء. هل تعرفت من خلالك بالمدعو مارون الحايك . . ؟ لا . . بل بمانويل عساف وهو الذي عرفها بالحايك.

    وما سبب ذلك. . ؟ كانت بحاجة إلى تليفون بشقتها، فطلبت من مانويل مساعدتها لأنه موظف بالمصلحة. هل كان مانويل عشيقاً لك وقتها . . ؟ لا . . كانت زوجته زبونة لمحلي . . وكان يجيء معها أحياناً فتعرفت عليه. وكيف تطورت بينكما العلاقة إلى جنس . . ؟ طلبت مني أمينة ذلك لإسكاته عنها. كيف ذلك . .

    كان يغار من الحايك ويغتاظ لأنها فضلته واتخذته عشيقاً. هل كنت على علم بنشاط أمينة التجسسي منذ البداية . . ؟ لا . . لم أكن أعرف . . ومانويل هو الذي أخبرني بذلك أثناء سكره. لماذا لم تبلغي السلطات الأمنية بالأمر . . ؟

    أردت استغلال أمينة مادياً لأنني كنت مدينة بمبلغ كبير للبنك. وكيف حدثت المواجهة بينكما . . ؟ كنا بشقتي عندما فاتحتها بما قاله مانويل، ولأنها تعلم جيداً بتعثراتي المالية . . أنكرت، وأخرجت دفتر الشيكات وأعطتني شيكاً بثلاثة آلاف ليرة على سبيل القرض. كم كانت ديونك للبنك . . ؟ حوالي ستة عشر ألفاً.

    وهل ثلاثة آلاف ليرة تكفي لإسكاتك . . ؟ وعدتني بخمسة آلاف أخرى، وعرضت علي الشراكة دون الإدارة. قالت أمينة أنك مارست معها الجنس مرات كثيرة. لا . . لا . . هي التي جرتني لأفعل معها ذلك لكي تضمن سكوتي.

    كيف ولماذا. . ؟ قبلما أطلق من زوجي الثاني كنت أشكو لها عدم ارتياحي معه. وذات يوم طلبت مني أن أزورها بشقتها، ولما ذهبت إليها تكلمنا عن الجنس، وأخذت تغريني بأن نفعل معاً كما تفعل النساء في أوروبا.

    وبعد عدة لقاءات في شقتها فوجئت بها تهددني بأفلام صورتها لي معها ومع مارون الحايك . وطلبت مني أن أعطيها عشرين ألف ليرة، وإلا فستفضحني أمام زوجي وأهلي.

    ثم ماذا . . قبلت قدميها أرجوها ألا تفعل، ولما أصرت هددتها بأن أخبر السلطات الأمنية عما ذكره مانويل، فسخرت مني وقالت: سأفضحك إن لم تجيئيني بالنقود مساء اليوم. لقد كانت تعرف أسرتي، وتعلم بأن والدي وأخويّ متدينون وسيقتلونني حتماً إذا ما رأوني في تلك الأوضاع المخلة. ولما عجزت عن إقناعها طلبت مني أن أعمل معها بأجر. وأن مهمتي تتلخص في مصادقة النساء المتزوجات من ضباط فلسطينيين، واستدراجهن للخوض في السياسة والأسرار العسكرية.

    وهل وافقت هكذا بسهولة . . ؟ لا . ابتعدت عنها لعدة أيام لأفكر، وكنت على وشك إبلاغكم لكنها حاصرتني وهددتني بقسوة، فاضطررت إلى إعلان موافقتي لإسكاتها. كيف بدأت العمل معها . . ؟ شرحت لي طريقة التعرف بالنساء الفلسطينيات ومصادقتهن، ومكثت معي بالمحل عدة أيام لتراقبني. كم زوجة فلسطينية تعرفت بها. . ؟ لست أدري . . ربما أكثر من أربع عشرة زوجة.

    "يوجد سرد طويل لأسماء ومعلومات مختلفة". كم ليرة حصلت عليها لقاء عملك . . ؟ سبعة آلاف . . أو ثمانية. هل التقيت بأحد من أعوانها من الأجانب . . ؟ مرة واحدة. جاء أحدهم ليتسلم مظروفاً كبيراً تركته أمينة. ماذا كان به. . ؟ لا أدري . . فقد كان مغلقاً بالسوليتيب، ولم تخبرني أمينة عما به. هل كان عربياً . . ؟ لا . . إنه أجنبي ولهجته فرنسية. ماذا قال لك. . ؟


    قال لي كلمة السر المتفق عليها: جامبون. "وهو اسم شائع يطلق على لحم فخذ الخنزير المحفوظ". وكيف تعرفت عليه . . ؟ كان يدخن البايب وله شارب دوجلاس أصفر، وقد أخبرتني أمينة عن أوصافه مسبقاً. هل تعرفين أبو ناصر . . ؟ أعرف زوجته سندس ولم أره أبداً. كيف نشأت علاقة أمينة به . . ؟ جلبت لها رقم تليفونه في صيدا من زوجته.

    ولماذا رغبت أمينة في التعرف اليه ؟ لأن زوجته أخبرتني الكثير عن بطولاته وعملياته الفدائية في الجنوب، واهتمت أمينة بمصادقته. متى أخبرتك أمينة بأن "أبو ناصر" ضالع معها في التجسس . . ؟ لم تخبرتي عن ذلك، وإنما أكدت لي بأن الضابط الفلسطيني "وطني أكثر من اللازم". هل صدقتها . . ؟ نعم . . فقد كانت تكرهه، وتطلب مني دائماً استدراج زوجته في الحديث لمعرفة أخباره.

    انتهى
    الفصل الرابع عشر

  7. #17
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الخامس عشر

    عشر انتهت اعترافات خديجة زهران، حيث أدلت بأدق تفاصيل علاقتها بأمينة المفتي، وبزوجات الضباط الفلسطينيين في بيروت. أما مارون الحايك المذعور فقد أوضح الكثير عن ملابسات علاقته بأمينة، وعثر ببيته على قائمة طويلة تحوي الأرقام السرية لتليفونات قادة المنظمات الفلسطينية، إضافة إلى ملف كبير يتضمن خلاصة تجسسه على تليفوناتهم خلال فترة اعتقال أمينة.


    فقد كان يود تقديمه لزعيمته عند عودتها لتمنحه آلاف الليرات، وتغرقه في بحر النشوة عدة ليال. أما الشيء العجيب حقاً فقد وقع بين أيدي رجال المخابرات الفلسطينية شريط تسجيل أخفاه مارون بجيب سري بإحدى الحقائب، لمحادثة تليفونية كاملة بين علي حسن سلامة وأبو داود، وفيها تفاصيل كثيرة عن أمينة المفتي المعتقلة آنذاك ببيروت، هذا الشريط لم يقم مارون بتفريغه أو الاستماع اليه، ولو أنه كان قد فعل ذلك لأدرك الخطر وهرب بجلده ومعه شريكاه.

    لكنه اعترف بأن هذا الشريط هو الوحيد الذي لم يفرغ وعندما قام بتسجيله كان منهمكاً في التنصت على مكالمة أخرى بين ياسر عرفات ونايف حواتمة. وبانتهاء التحقيق مع خديجة زهران ومارون سلما إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهما، طبقاً لقانون العقوبات الذي عُدل في 28 يناير 1975، وجاءت مواده الجنائية مائعة وغير رادعة. أما أمينة المفتي .. فقد امتنع الفلسطينيون عن تسليمها للبنانيين، حيث قرروا لها مصيراً آخر، ولم يستجيبوا لضغوط وزير الداخلية اللبناني لمحكامتها. وأمام الرفض التام لذلك . .

    اضطر الوزير لنسيان الأمر برمته. فقد كان يدرك بأن هناك نهاية مأساوية تنتظر عميلة الموساد على أيدي الفلسطينيين. وعلى ذلك . . ظلت الجاسوسة العربية مقيدة بكهف السعرانة، يفتك بها الرعب ويغلفها الهلع . . !! الموت البطيء وحدها، انكمشت أمينة في محبسها بكهف السعرانة تنتظر الموت مع كل لحظة، يحاصرها إحساس بالخيبة بعدما أفلت مارون وخديجة من براثن الفلسطينيين، وتولت أمر محاكمتهما السلطات اللبنانية أمام محاكمها المختصة.

    لقد كانت تدرك عن قناعة أن زعامتها للشبكة هو سبب بقائها بالكهف دونهما، وبالتالي فإن مصيرها المجهول بين أيدي الفلسطينيين سيكون أشد قسوة وشراسة، لكنه على أية حال لا يساوي أبداً مع بشاعة جرمها. فبرغم اعترافاتها التفصيلية بالتجسس لحساب الموساد، إلا أنها أخفت عنهم الكثير من الأسرار، بالطبع هي أسرار بالغة الأهمية ستزيد ملفها تخمة، وقطعاً سينقلب اعتقاد الفلسطينيين في كونها جاسوسة كانت ضحية مغامرة عاطفية، إلى جاسوسة عدوانية ترى في خيانتها نوعاً من الانتقام والتشفي، ذلك لأنها لم تنس يوماً مدى كراهيتها الشرهة للفلسطينيين، تلك الكراهية التي يحملها القوقازيون في الأردن لهم.

    فهي شركسية من سلالة هؤلاء الذين فروا من جبال القوقاز إلى الوطن العربي، وكانت أسرتها تعمل في خدمة الملك حسين، شأنها في ذلك كشأن القوقازيين الذين يعملون في جيشه، واشتبكوا مع الفلسطينيين في حرب ضروس عام 1970، فاعتبرهم الفلسطينيون أعداء لهم، وهاجموا الأحياء التي يقطنوها فتبادلا الشعور بالكراهية تجاه بعضهم البعض.

    هكذا بدت كراهية أمينة للفلسطينيين ذات جذور، وهكذا أينعت مشاعرها وهي تهدي الصهاينة معلومات لا تقدر بثمن عن تحركاتهم ومخازنهم وعملياتهم. وخلا ملف الاعترافات من توصلها لأسرار مخازن الهلال الأحمر التي يديرها شقيق ياسر عرفات، ففي هذه المخازن كانت تخبأ الأسلحة الخفيفة، والأسلحة المضادة للصواريخ في صناديق المهمات الطبية، مما جعلها دائماً عرضة للعمليات الجوية الصهيونيه بناء على وشاياتها. .

    وأخفت أمينة أيضاً سر اختطاف الصهاينة لطائرة الخطوط الجوية اللبنانية "الشرق الأوسط" في 10 أغسطس 1973، وإجبارها على الهبوط في تل أبيب فقد كانت هي التي أبلغت الموساد بوجود جورج حبش على متنها، لكن حبش كان قد أصيب بأزمة قلبية منعته من ركوب الطائرة

    وقتها . . تأكد للفلسطينيين أن هناك اختراقا ًصهيونيا لمنظماتهم، وجرى مسح شامل لمئات الأشخاص دون جدوى. ولم تكن أمينة في ذلك الوقت قد وقعت في دائرة الشك، فقد كانت مشبعة بثقة الفلسطينيين، حيث تعمدت ألا تظهر عداء مبالغاً فيه للصهيونية، وفي مناسبات مختلفة كثيراً ما عبرت عن رأيها في حق اليهود في امتلاك الأرض أيضاً. فأبعد ذلك التصرف الشكوك من حولها، فأي عميل للصهاينه سيبذل ما بوسعه ليبدو عدواً لدوداً للصهيونية.

    لذا غادرت بيروت في حذر في جولة تفقدية، واستطاعت أن تمد الموساد بصور لمراكب وسفن الصيد واللنشات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والراسية بمينائي صيدا ورأس شكا في الجنوب والشمال، والتي كانت معدة للعمليات الهجومية البحرية، ومكنت العدو بذلك من تدمير ثلاثين قطعة منها في عملية انتقامية، وجاء ذلك بعد هجوم منظمة فتح البحري على المدينة الساحلية "نهاريا" عام 1974. كل تلك الأسرار جاءت مفصلة بمذكرات أمينة المفتي التي نشرت في فلسطين فيما بعد، فأضفت على جاسوسة الموساد هالة من الأساطير صعدت بها إلى آفاق الخوارق، ونسبت إليها عمليات وهمية مختلفة عن اكتشافها مؤامرة لاغتيال السادات بوساطة الليبيين عام 1976،
    مهدت الطريق لكامب ديفيد بين مصر وإلعدو ، وكانت أمينة وقتذاك مكبلة بالجنازير إلى الحائط داخل كهف السعرانة في جنوب لبنان، تنتظر نهايتها المرتقبة كالموت البطيء. أحلام . . ورصاص

    وما أن نشرت الصحف اللبنانية نبأ القبض على أمينة المفتي وأفراد شبكتها، حتى ارتجت جنبات الموساد بشارع كيريا بتل أبيب. وبدأت في الحال تخطيطاً لاستعادة العميلة الأسطورية. فتاريخ الموساد الطويل يسرد لنا عشرات القصص التي انتهت باسترداد جواسيسها، الذين اكتشف أمرهم وكانوا على قيد الحياة. ولهذه القاعدة تبرير منطقي وهو أن إنقاذ أي عميل يرفع الروح المعنوية للعملاء الآخرين، ويشجع الرجال والنساء على القيام بعمليات ومهام خطيرة أخرى. ولأن الفلسطينيين يدركون ذلك جيداً، رأى عرفات أن الإبقاء على أمينة بكهف السعرانة أمر ضروري حتى يحين الوقت المناسب لتقرير مصيرها النهائي، نابذاً بذلك رغبة علي حسن سلامة في إعدامها.

    فقد كانت لعرفات رؤية مستقبلية بعيدة المدى، تنحصر في التريث لبعض الوقت، ومبادلتها بشخصيات فلسطينية بسجون العدو. لكن سلامة الذي بدا غير قانع كان يرى في قتلها فوزاً أكيداً، إذ سيصاب عملاء العدو في لبنان بالذعر، وبالتالي يسهل كشف العديد منهم إن لم يسارعوا بمغادرة بيروت.

    ولما فشل في إقناع عرفات بوجهة نظره، اضطر إلى السكوت وكبح اندفاعة الشباب عنده. وبذلك ظلت أمينة حبيسة الكهف الجبلي، ترسخ في قيود الذل دون محاكمة، أو بصيص من أمل في النجاة. وفي ذات الوقت الذي أدين فيه مارون الحايك بالحبس ثلاثة أعوام، وبعام واحد لرفيقته خديجة زهران – "راقب ميوعة الحكم في قانون العقوبات اللبناني . . !!"



    انتهى الفصل الخامس عشر

  8. #18
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل السادس عشر

    نسجت أمينة المفتي خيوط شبكتها حول أحد حراسها، وأوهمته بأنها بريئة مما نسب إليها، وأن الفلسطينيين فعلوا بها ذلك نكاية في عمها الذي يشغل منصباً حساساً في البلاط الملكي الأردني، حيث تصور لهم أنه كان أحد المحرضين لمذابح أيلول الأسود.

    وبعد عدة أشهر – في مايو 1976 – كان غسان الغزاوي قد اقترب كثيراً من أمينة، وتعاطف مع محنتها إلى الحد الذي دعاه للتفكير في تخليصها من السجن، وإن استدعى منه ذلك الهرب بها إلى فلسطين .

    لقد انقلبت ورديته في الحراسة إلى جلسة غرام تصطخب بالمشاعر والأمنيات. فكانت أمينة تمنحه جرعات متصاعدة من الأشواق واللهفة، تطيح بعقله وتعبث به إلى دنيا جديدة من أوهام التمني. ولأنه نجار خائب لا يجيد صنعته، عاش سني حياته الثلاثين في حالة حرب دائمة مع الحياة بحثاً عن عيشة رغدة مريحة، لكن هيهات أن يراها كسول مثله، أوقف خبرته عند حد معين لم يستطيع تجاوزه، فتقهقرت إرادته وانزوى منسياً بين جدران جحره الرطب بمخيم الرشيدية في صور، يجرع الجوع واليأس ناقماً على حظه وعلى الدنيا كلها.

    إن فاشلاً مثله استعبده الفقر والجهل من السهل جداً إغواؤه والسيطرة عليه مادياً أو عاطفياً، فهو في الأصل لا يمكن أن يكون مؤمناً بقضيته أو مستوعباً لرسالة الكفاح من أجلها، ذلك لأنه أرجع فشله إلى كل تلك الظروف التي تحيط به وبشعبه. ووطن نفسه على أنه مجرد ضحية لا ذنب له لكي يعيش معدماً شريداً، يفتقد أبسط مظاهر الحياة وأقلها ترفاً.

    هكذا قرأته أمينة وتسللت إليه في سهولة ما أيسرها على متخصصة في علم النفس مثلها، وأغوته بمكذوب العواطف تصبها صباً في أذنيه، فأذابته تماماً وهو المحروم اللاهث خلف الأحلام، وترقب عن كثب انسكاب مقاومته الخائرة، واستفحال رغبته في تخليصها أملاً في حياة هنيئة بفلسطين .

    فكانت هي بذلك أول عميلة للموساد على الإطلاق، تجند حارسها في السجن للفرار بها إلى خارج حدود الدولة. وجاء بمذكراتها فيما بعد أنها كانت تنوي النجاة بنفسها فقط، وتركه على الحدود يواجه مصيره وحده مع الفلسطينيين، حيث ستحاك الأساطير الصهيونيه عن قصة هروبها العبقرية. لكن خابت أحلامها في المجد والتكريم

    . وخابت أحلامه أيضاً في الثراء والنعيم، عندما أفضى بسره إلى أحد رفقاء فقره في المخيم، الذي أبلغ السلطات الفلسطينية عنه وتمت مراقبته، وضبط وهو يحاول إدخال بزة عسكرية إلى الكهف لترتديها أمينة أثناء الهرب.

    وانتهت أحلام الخائن برصاصات أخترقت صدره في أكتوبر 1976، وبتثقيل القيود الحديدية بأيدي الخائنة ورجليها، وشدها إلى الحائط مصلوبة وبأقل قدر من الطعام والشراب، إلى أن تقيحت أطرافها المختنقة بالقيود، وعمل معول الهزال بجسدها كما يعمل معول النحات الماهر بمادته الصخرية، فعاشت ذابلة كالموتى لا يميزها عنهم سوى ارتعاشة الأطراف، وزوغان حدقتين لا تبصران إلا الخوف والظلام . . !

    انتهى
    الفصل السادس عشر

  9. #19
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل السابع عشر

    الدور الطاهر

    في المكتب الفرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية في صيدا، اجتمع المدير بالضابط الفلسطيني الموفد من الرئاسة في بيروت، حيث أطلعه على تفاصيل حياة أمينة المفتي في محبسها الانفرادي بكهف السعرانة وكان الضابط يصغي اليه باهتمام ليستكمل النقاط التي يريدها فمهمته كخبير في الشؤون المعنوية تتطلب منه ذلك خاصة . . والوقت يمضي سريعاً بعدما وافقت المنظمة على الموعد المحدد في لارناكا. وبعد الاجتماع انطلقت السيارة الجيب العسكرية تقل الضابط إلى كهف السعرانة.

    كان الطريق المتعرج الضيق قد نحتت أجزاء منه من الجبل، فيستقيم منحدراً أحياناً ثم يلتوي فجأة في صعود والتفاف حول الجبل.

    ومن بعيد . . بدا الكهف الموحش كنقطة سوداء في بطن الجبل السامق، وكلما اقتربت السيارة شوهد جنود الحراسة المشددة بأسلحتهم الأوتوماتيكية في حالة التأهب. وكانت الأكمنة المتحركة تزيد الأمر حساسية واهتماماً، حتى يخال للبعض أن بالمنطقة مفاعلاً نووياً سرياً. وعندما دلف الضابط إلى الكهف، كانت الإضاءة القوية تكشف دهليز الفوهة وتظهر ملامح الوحشة وغموض الطبيعة. وفي نهاية أحد الممرات . . تكورت كومة من عظام . . شدت أطرافها الأربعة بالجنازير. اقترب منها الضابط متفحصاً، فرمقته بنظرات تفيض رعباً . . لكن وجهه الهادئ سكّن بعض الخوف لديها، وحاولت أن تستقرئ ما جاء لأجله ففشلت

    وتملكها ألف هاجس وهاجس . . وأطرقت إلى الأرض ثم همدت أنفاسها قليلاً وقالت في صوت خفيض كأنه جاء من قرار:
    هل حان وقت الإعدام . . ؟
    اقترب منها الضابط أكثر وأكثر، لكي تصلها كل كلماته وقال:
    سنطلق سراحك بعد أيام . . وستعودين إلى الأرض السليبه مرة أخرى.
    ارتعدت أطرافها المقيدة فارتج بدنها كله، وجحظت عيناها الغائرتان في تحفز لما يقوله الضابط الذي أردف:
    بعد عشرة أيام من الآن ستكونين حرة لدى العدو، ويجب أن تكوني على
    يقين من أننا لم نعاقبك ولم نؤذك بقدر ما أذيتنا. فنحن أناس
    مسالمون سعدنا بوجودك ذات يوم بيننا، ووثقنا بك
    بلا حدود على اعتبار أنك عربية . . مخلصة، وعن حب فتحنا لك قلوبنا . . وكل أبوابنا الموصدة في وجه الآخرين،

    وما تطرق إلينا الشك فتسببت بفعلتك في مقتل عشرات الأبرياء من شبابنا. . وانخلعت على يدك قلوب أمهات ثكإلى . . فقدت الابن والزوج . . والبسمة.
    . . انهمرت دموع أمينة المفتي ، ولم يدر الضابط أهي دموع الحسرة والندم، أم أنها دموع الفرح بنجاتها.


    وأكمل الضابط:
    هذه الأرض التي أنت عليها الآن أرض عربية، وتلك الأرض التي ولدت فوق ترابها أرض عربية، وكذلك الأرض التي بعت دينك ووطنك وأهلك لأجلها . . أيضاً . . عربية، عربية مغتصبة. . سليبة، ستعود حتماً ذات يوم لأصحابها، ربما يتحقق ذلك بعد جيل . . أو جيلين . . أو ثلاثة، أو أقل من ذلك بكثير. ونحن هنا الآن لنجاهد بدماء أبنائنا، ولن نكف عن الجهاد حتى نموت دونها . . وأنت . . ما جئت إلى هنا إلا لقتلنا دونما ذنب بحقك اقترفناه. فلا تظنين أن الأرض التي ستعودين إليها سترحب بك


    . . لكن تأكدي أن القدس وحيفا ويافا وبيت لحم ونابلس . . كل فلسطين ستبصق عليك الأرض مع كل خطوة، حتى وإن متّ فستلفظك قرفاً في قبرك . . وسيأبى دودها الطاهر أن يرعى بجثمانك .
    . وعندها . . ازداد نحيبها قسوة . . وعلا نشيجها مع صعود صدرها الضامر وهبوطه ، وانعقد لسانها فلم تقو على الكلام لاصطكاك أسنانها، ورعشة شفتيها التي غزت الوجه المتقلص الشاحب.

    وقال الضابط آمراً جنوده قبلما ينصرف:
    فكوا قيود ضيفتنا وقدموا لها أشهى الطعام والشراب .
    أهزيمة ساحقة أم انتصار باهر . . ؟ تساءلت أمينة في نفسها وتعجبت للإحساس المائع المشوه الذي يخالجها في ضراوة. وظلت لأيام تترنج لصدى كلمات الضابط التي تنخر في عظامها وعقلها، فلا تجد سوى مراراً خفياً كأنه دبيب نمل يسري بأوصالها. هكذا اقتُلعت مشاعرها من الجذور، وغرقت في وجوم قاتل يفتك بأعصابها ويزلزل جوانب إدراكها الباطن والظاهر.


    تقول أمينة في مذكراتها بعد ذلك:

    كانت كلمات الضابط كالسهام تخترق عقلي وجسدي . . فأصابت اتزاني وطوحت بآمالي وأوهامي . . وأغرقتني في محيط يموج بالغموض وينبض بالخوف . . والعدم. وأوشكت أن أصرخ فيه أن يرحمني ويصمت . . فيوقف رشق سهامه بأعضائي التي وهنت . . ونزحت عنها مسحة القوة. لكنه كان كمدفع رشاش أخرج كل رصاصاته في زخة واحدة.


    ترى . . لماذا جيء به إليّ . . ؟ ألكي يشعرني بحقارتي وجرمي . . ؟ أم ليوقظ بداخلي أحاسيس دفنت من زمن . . ؟ كل ما أذكره وقتها أنني فقدت رسالتي التي خلقت لأجلها . . وهي أنني لم أعد أصلح لأن أكون أماً. فكيف لامرأة مثلي حبلى بالخيانة أن ترضع طفلها وتحتويه، بينما هي تقتل الأطفال والشباب، وتموت أمهاتهم حزناً عليهم وأساً . . ؟ أكنت إذن واهمة إلى حد فقدان العقل والتمييز . . ؟ أكنت أصارع طواحين الهواء كما كان يفعل دون كيشوت . . ؟

    أين أنت الآن يا أمي لأفرد ذراعاي حول عنقك والتصق بصدرك الدافئ الحنون . . ؟ أين أنت يا أبي لتنتشلني من مصيبتي وتنير لي الطريق بالنصح كما كنت تفعل أيام طفولتي وشبابي . . ؟ أين هم إخوتي وكانوا لي ظلالاً وارفة تحميني من لسعة الحياة ومدب السيل الجارف . . ؟

    أين شقيقاتي وخالاتي وعماتي . . ؟ أين ستائر حجرتي الحريرية ومرآتي . . ؟ ترى أتضم أمي الآن أشيائي وتلعنني أما أنها تبكي لمأساتي . . ؟ لم يبق لي من شيء سوى صمت كالموات يقتلني ودمعاتي . .؟"
    عجيبة حقاً تلك المرأة المثيرة، فلعلكم لاحظتم مدى تمكنها وبراعتها في وصف أدق خلجات ذاتها بأسلوب مشوق رائع، متنقلتا في راحة من موقف إلى موقف آخر. ترى هل أسبغت عليها البراعة في التجسس براعة أخرى في الوصف والتحليل . . ؟ ربما يكون ذلك . .

    فالعمل التجسسي لا يقوم إلا على اليقظة الشديدة والحرص والدقة. والكتابة أيضاً لكي تدخل إلى القلب وتحرك المشاعر تلزمها اليقظة في سرد الفكرة، والحرص على خط التصعيد الدرامي المترابط دون ملل، والدقة في الوصف وتقريب التخيل إلى نبض الواقع في سرد الفكرة، أنها تضج بالحيوية وانسكاب المشاعر، وتندفع بها في أحيان كثيرة إلى السجع الموسيقي القريب من أوزان الشعر.
    فلو أنها اتجهت إلى الكتابة لكانت الآن أديبة قديرة . . لكن . . هكذا فعلت بنفسها.


    الأنفاس اللاهثة

    في صباح التاسع من فبراير 1980، نقلت أمينة المفتي في سرية تامة إلى معسكر جنوبي صيدا، وفي المساء تحت ستر الظلام أخذت إلى بيروت، تحيط بسيارتها العسكرية عدة سيارات أخرى تقل قوات مسلحة، حيث أودعت حجرة مريحة بأحد مباني منظمة التحرير بحي الفكهاني، يحرسها أفراد لا حصر لهم مدججون بالسلاح. وعن ذلك اليوم جاء بمذكراتها وصفاً دقيقاً لأحداثه إذ تقول:

    "دخلت كهف السعرانة لأول مرة في الظلام، وغادرته نهار ذلك اليوم في الظلام أيضاً . . فقد عصبوا عينيّ خشية إصابتي بالعمى . . عندما أواجه ضوء الشمس المبهر فجأة، بعد 1651 يوماً في الظلام . . يا لهم من أناس طيبي القلب رائعين

    أرادوني صحيحة النظر لأرى الفارق الواضح بين الوجوه عندما أغادرهم. وفي بيروت أدخلتني فتاتان نظيفتان إلى الحمام، واستحممت لأول مرة منذ اعتقالي استحماماً كاملاً، ونمت مغماة بينهما ومكبلة بأحزمة رقيقة من الجلد، وأكلت أطعمة شهية حرمت منها لسنوات وكنت أطلبها بنفسي فيجيئونني بها.

    وأمام هذا الكرم الرائع طمعت فيما هو أكثر، فصارحت الضابط المنوط بحراستي بأمنية غالية إلى نفسي، وهي أن أحادث أمي تليفونياً في عمان. ولما أخبرني الضابط بأن طلبي رفض بحسم، حسوت الحزن يأساً، وأيقنت بأنني لن أسمع صوتها أبداً . . طالما كنت عند العدو . .



    لحظتها فقط . .
    أحست أمينة المفتي بندم شديد. فخروجها من لبنان إلى فلسطين هو بحق موت بطيء لا محالة. فاليهود سيرفضون بقوة سفرها لأي مكان آخر، وذلك لأن صورها نشرت بمعظم صحف العالم، إذ قد يصادفها فلسطيني فيقتلها غضباً وثأراً، ولن يستطيع الصهاينة على كل حال حراستها حراسة تامة خارج فلسطين
    لقد فكرت أمينة في حالها وحياتها فيما بعد، ورأت أن كهف السعرانة كان لها السجن المؤقت قبل الإعدام، لكن فلسطين ستكون إلى الأبد السجن المرير، الذي سيقتلها فيه الندم والعذاب والحسرة والقلق والاكتئاب.
    إذن فالموت السريع في لبنان لأهون ألف مرة . . بل إنه الخلاص من ثورات داخلية ستفتك بها وتقودها غصباً عنها إلى حافة الجنون. لذلك صرخت قرب منتصف الليل وملأ صراخها المبنى كله
    وهي تقول: "لا أريد العودة إلى إسرائيل ". هجمت عليها الفتاتان قبلما تتقطع الأربطة الجلدية، واندفع إلى حجرتها على الفور عدد كبير من الضباط والجنود، شرعوا في الحال في تضعيف قيودها، وكان جسدها النحيل ينتفض بعنف وشراسة، كأن قوة جبارة حلت به بعد ضعف وهدأة.

    وقال لها أحد الضباط:
    اهدئي من فضلك . . فكل شيء أعد لسفرك.
    وبذات القوة والعصبية والصراخ قالت:
    أعدموني هنا . . أو أرجعوني إلى كهف السعرانة . . أنا أكره إسرائيل . . أكرهها . .
    أجابها الضابط في هدوء:
    إسرائيل هي وطنك الآن سيدتي.
    وكأنما تشد جذور أعصابها من أشواك الخوف قالت في هلع:
    الإعدام أهون . . لماذا لم تعدموني . . ؟ أتخافون من إسرائيل . . ؟
    رد الضابط في ثقة:
    نحن أقوى من العدو . . لذلك أرسلك للتجسس علينا.
    نعم . . تجسست عليكم . . فلماذا تعيدونني إلى أعدائكم . . ؟
    وبينما كان الطبيب يدخل مسرعاً إلى الحجرة ممسكاً بيده محقن المخدر كان الضابط يجيب:
    نحن نبادل امرأة خائنة برجلين من أبطالنا البواسل.
    بصقت أمينة في الهواء وانطلقت كالمدفع قائلة:
    نعم أنا خائنة . . وسأخونكم ألف مرة لو أتيحت لي الفرصة . . فهيا تخلصوا مني وأعدموني
    "والتهديد بالخيانة هنا يعني قمة الندم".


    . . وعندها . . انقض جنديان على ذراعها يحبسان حركته، وأمكن للطبيب إفراغ المخدر بوريدها، وكان صراخها الحاد المسعور ترتج منه حوائط المكان . . وما هي إلى هنيهة حتى بدأ يضعف . . ثم يخفت . . حتى هدأ تماماً. . تماماً . وسكن، وانهمد الجسد الممدد في استكانة،
    وما عاد يسمع سوى صدى لأنفاس لاهثة.


    أغنية القدس

    في الثالثة وعشر دقائق مساء يوم 13 فبراير 1980 مغماة بكيس أسود طويل وشبه مخدرة، اقتيدت أمينة المفتي مكبلة إلى سيارة مصفحة ثم إلى المطار، تحاصرها عدة سيارات عسكرية ذات أنواع مختلفة. وإلى جوار سلم طائرة خطوط الشرق الأوسط – بوينج 737 – أنزلت بهدوء وسط حشد من الجنود، وتأبط ذراعاها ضابطان فلسطينيان سحباها إلى داخل الطائرة، التي أغلقت أبوابها في الحال وأخذت عجلاتها تنهش أسفلت الممر، وبداخلها أحد عشر ضابطاً فلسطينياً وأحد ممثلي منظمة الصليب الأحمر الدولي، حيث كان وجهتها ناحية الشمال . . إلى أنقرة، خشية اعتراضها بواسطة طائرات سلاح الجو الصهيوني، ومن هناك . . تعود بركابها من جديد إلى الجنوب مرة أخرى
    إلى حيث توجد جزيرة قبرص في عرض البحر المتوسط، تشير بإصبعها التضاريسي في أسى ناحية الإسكندرونة، تلك الأرض العربية الخصبة التي استلبها الأتراك منا.

    وفي الطائرة . .
    انزوت أمينة على أحد المقاعد لا تملك من أمرها شيئاً . . لم تكن تبك أو تنتحب، ولم يلاحظ أحد من مرافقيها قسمات وجهها المستتر وقد كساه اصفرار الموت، أو سيل الدمع المنهمر في هدوء وصمت.
    لكن فجأة سمع لها نشيج بدا واهناً في البداية، ثم تحول شيئاً فشيئاً إلى عويل متصل فبكاء يشبه العواء . . ولما أشعل الضابط الجالس إلى جوارها سيجارته قال لها وهو ينفث دخانه الكثيف:
    أأشغل لك واحدة .. ؟
    صمتت للحظة ثم أجابت: ما نوعها . . ؟
    أجابها الضابط في اكتراث: تونسية . . اسمها "سفاير الصفاء".
    قالت في تردد:ألا يدخن أحدكم المارلبورو؟
    رد الضابط في حسم:نحن نكره الأمريكان وبضائعهم . .
    أتعرف ماذا تعني كلمة مارلبورو . . ؟

    دهش الضابط لسؤالها وأجاب:نعم إنها تتكون من الحروف الأولى لعبارة إنجليزية تقول :
    الرجل دائما يتذكر الحب لأن ... قاطعته وهي تقول :أشعل لي سيجارة من فضلك.
    فتحسس الرجل بأصبعه موضع فمها، وأخذت تسحب الدخان في نهم حتى امتلأ به الكيس من الداخل فسعلت
    وقالت في تأفف كفى: وانتبهت العقول لصوت حاد يردد:
    قسماً بمن . . خلق السماء بلا عمد . .
    قسماً بأيام الطفولة والرجولة . . والكهولة والتنسك والصلاة . . صلاة يوم الأربعاء . . قسماً بكل الميتين بلا كفن . . سيرد أبناء الزناة لنا الثمن . . أغلى ثمن . . قسماً بقدس صوته المجروح . . يحفر في السحابة والأبد .
    . قسماً برب الأبرياء . . وبكل أودية الدماء. . سنذود عن قدس الأحبة . . عن تراب الأنبياء . .
    يا أيها القمر المسافر في حدائق مقلتي . . يا نخلة . . طرحت نبياً . . من نبي . . من نبي . .
    سنذود عن يافا . . وغزة . . والتراب المرمري . . حيث يرقد في الدجى . . عطر . . رقيق . . مريمي . .
    غداً سترجع كالعروس . . يزفها صوت الحلى .

    داخل الطائرة اللبنانية البوينج 737 تكومت أمينة المفتي على مقعدها تنتحب في أسى، بينما أنشغل الضباط الفلسطينيون عنها بدراسة خطوات عملية التبادل التي شرحها لهم ممثل الصليب الأحمر. وفي الساعة الخامسة والنصف مساء كانت الطائرة تحلق فوق مطار لارناكا القبرصي، تنتظر الإذن بالهبوط. ولارناكا مدينة عريقة الملامح بها القلعة التركية ومتحف صغير ومدافع قديمة، ويموج الشارع الرئيسي بها بوجوه السائحين من مختلف الجنسيات،
    ومطارها هو المطار الرئيسي للجزيرة بعد أن فقدت نيقوسيا مطارها الدولي الذي أصبح مع خط التقسيم ضمن الحدود التركية. وقبرص منذ القدم وطوال الحروب الصليبية كانت دائماً مصدر خطر دائم على أرض فلسطين ومصر وسوريا، فقد كانت محطة دائمة لكل طوائف المرتزقة والباحثين عن المجد، وحاول مماليك مصر أكثر من مرة غزو الجزيرة فلم ينجحوا،
    ولكن العثمانيين، فعلوها عام 1570 واقتحموا لارناكا واستولوا على الجزيرة بأكملها. وخلال الحرب العالمية الثانية تحولت قبرص إلى ساحة لكل العمليات الحربية الموجهة لمصر وفلسطين، وأصبحت فيما بعد مركزاً استراتيجياً لكل أنواع الاستخبارات العالمية – الأميركية والسوفيتية والإنجليزية والمصرية والصهيونيه – وفي حواريها الضيقة وقراها الجبلية دارت كل أنواع المؤامرات من الاغتيالات إلى الانقلابات إلى الصفقات المشبوهة.

    لقد كان يوم 13 فبراير 1980 هو بحق يوماً عصيباً في قبرص، فالحياة بدت شبه متوقفة، وجحيم من القلق يخيم على الوجوه ويعم على أجهزة الدولة التي تحملت عبء إتمام عملية المبادلة فوق أراضيها دون الوقوع في أدنى خطأ قد يتسبب في كارثة تشوه وجه الجزيرة الآمن وتسيئ إلى حكومتها أمام المحافل الدولية. لذلك . . اتخذ وزير الداخلية كل التدابير الأمنية اللازمة، وفق خطة رسمت بإحكام، بحيث تتم العملية بهدوء وبمظهر مشرف وتحت إشرافه هو شخصياً. فحاصرت المطار من الخارج عشرات من مركبات المدرعات والدبابات، إلى جانب أعداد حاشدة من قوات الأمن تقف على أهبة الاستعداد.

    وبدا المنظر العام كأنه حشد لحرب مرتقبة، وتربص بعدو غاشم ينوي غزو الجزيرة. أما قوات العمليات الخاصة فقد امتلأت بها النوافذ وأسطح مباني المطار تحمل بنادق تلسكوبية رشاشة. وكان الوضع في الداخل اشد تعقيداً وسخونة، فقد جرى إخلاء المطار من السواتر الرملية والأكشاك، وكل ما يمكن استخدامه كساتر من النيران لأي عملية عسكرية أو فدائية محتملة، وأخرجت جميع السيارات التي تتبع خطوط الطيران العالمية.
    وكذلك شاحنات الماء والوقود وسلالم الصعود، كما أبعدت أيضاً الطائرات الرابضة على أرض المطار عن المكان الذي خصص لوقوف طائرة العدو، وانتظر أكثر من ألف وخمسمائة جندي مسلح، هم جميعاً من جنود المظلات والصاعقة والعمليات الخاصة المدربة تدريباً عالياً على الالتحام المباشر والاقتحام في حالات كوارث خطف الطائرات والسفن. واتخذ وزير الداخلية من برج المراقبة بالمطار مركزا للإشراف على الموقع ككل وإصدار أوامره لقواته.

    انتهى
    الفصل السابع عشر

  10. #20
    عضو
    تاريخ التسجيل
    Mon Jun 2008
    المشاركات
    1,288
    معدل تقييم المستوى
    17
    الفصل الثامن عشر

    تسليم الخائنه :

    وعندما حلقت الطائرة بأمينة المفتي مرتين فوق المطار أذن لها بالهبوط، وبعد دقائق قليلة كانت تقف على الممر فاتجهت إليها مسرعة عدة سيارات عسكرية ومدرعة واحدة، وأحاط بها رجال الكوماندوز من كل جانب. عندئذ تلقى الطيار اللبناني أمراً بفتح باب الطائرة الأيسر الأمامي، فصعد السلم في الحال ممثل الصليب الأحمر ومعه ثلاثة ضباط قبارصة بلباسهم المدني.

    كانت أمينة ترتدي بنطلوناً من الجينز الأزرق وبلوفر أحمر من الصوف ذي رقبة عالية، وكانت ما تزال مكبلة إلى الخلف ومغماة عندما اقترب منها ممثل الصليب الأحمر، فكشف عن وجهها وأخذ يقلب بصره عدة مرات بينها وبين صورة لها كانت بيده،

    وبعدما تأكد من شخصيتها اومأ للضباط الثلاثة فتأكدوا من إحكام قيدها، وجذبوها بلطف مغماة إلى باب الطائرة، بينما تثاقلت خطواتها وارتفع صوت نحيبها المتواصل بلا انقطاع. ولما عجزت ساقاها عن حملها، انحنى أحد الضباط في مواجهتها ورفعها رفعاً إلى كتفه ونزل بها إلى حيث تقف المدرعة أسفل السلم مباشرة، فدفع بها إلى اليد التي امتدت من الداخل، وانطلقت المدرعة في سرعة قصوى إلى إحدى حظائر الطائرات، التي تحرسها اثنتا عشرة مدرعة ومائة وسبعون مظلياً .

    أما الضباط الفلسطينيون فقد سلموا للقبارصة رشاشاتهم الكلاشينكوف، وأخذوا مع طاقم الطائرة إلى إحدى القاعات الداخلية بالمطار المشددة الحراسة. وكان على الجميع حبس أنفاسه لمدة ساعة وربع الساعة، في انتظار هبوط طائرة العدو – العال – التي كانت ما تزال رابضة على أرض مطار اللد بفلسطين السليبه، وجاهزة للإقلاع فوراً بالأسيرين حال التأكد من وصول أمينة المفتي إلى قبرص.

    لقد كان للفارق الزمني بين هبوط الطائرتين دلالات أمنية محسوبة جيداً وبعمق شديد، وهذا الأمر كان قد تم الاتفاق عليه مع الطرفين، والغرض منه طمأنتهما على توافر مساحة أمان تخدم هدفيهما، خاصة . .

    وان تلك لم تكن أول عملية تبادل تتم بينهما ،كان قبلها في لبنان وكان أحد طرفيها جاسوس صهيوني في" 14 مارس 1979 بادلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – بقيادة جورج حبش – الجندي الصهيوني واسمه إبراهام عمراي الذي أسرته الجبهة بعد أن ضل طريقه بالقرب من صور بستة وسبعين فلسطينياً كانوا بمعتقل
    عتليت.


    سأقتله ... سأقتله :

    استقرت أمينة المفتي بداخل المدرعة القبرصية لا تملك إرادتها، وبدت كالتائهة وسط بحر متلاطم، تصرخ بصوت حاد مبحوح أحياناً . . وينساب نحيبها متحشرجاً أحياناً أخرى.

    لقد انقضت عليها مشاعر متباينة حطمت ثباتها وأعصابها التي كانت من قبل من فولاذ، وأخذ جسدها النحيل يهتز في اضطراب وانفعال، فاسترسلت في تشجنات الأسى المرير والخوف، وطلبت كثيراً من القبارصة حل عصابتها وقيودها فرفضوا، فقذفتهم بوابل من حمم السباب وقنعت في النهاية بما هي عليه

    تصف لنا أمينة المفتي في مذكراتها تلك الدقائق العصيبة من حياتها فتقول:
    وبينما كنت بالمدرعة القبرصية أنتظر وصول الصهاينة . . عصفت بي الشكوك والأفكار . . وفكرت في موشيه. ترى . . هل حقيقة ما يزال حياً . .؟ هل ينتظرني بشوق ماداً ذراعيه بلهفة حبلى بالحب . . ؟
    أم أنه مات بالفعل وقبر بين حطام طائرته التي أسقطها السوريون. . ؟ وماذا لو أنه كان حياً. . ؟
    هل سأقتله؟
    هل سأنهش بطنه بأظافري وأسناني لقاء خداعه لي. .
    يا إلهي أيمكن لموشيه الحنون أن يتآمر ضدي أنا ؟ أبعدما بعت ديني ووطني وأهلي لأجله يبيعني . . ؟
    كيف سيشرح لي الأمر ويضغط على مشاعري لأصفح . . ؟ لن يستطيع التخلل الي من جديد ولو ركع أمامي . .

    لن أمنحه فرصة واحدة يظهر لي فيها ضعفه وندمه. . وكيف أصفح وكهف السعرانة موشم على جسدي، ومحفور بخلايا عقلي وأوردتي . . ومربوط بساعدي . .كيف . . كيف بالله أصفح وأهلي يمشون منكسي الرأس خزياً . . ؟ لن أضعف بعد اليوم أبداً أمام عواطفي . . وسأقتله . . نعم . . سأقتله بالسم. . بالرصاص

    بالحرق . . بدم الحيض . . عندي ألف حل لقتله أما فيما لو أنه كان ميتاً بالفعل . . فسأزرع عمري زهوراً على قبره . . إن كان له قبر . . !!


    ابتسامة الظفر

    في الساعة 18.55 كانت طائرة العال تقف على أرض مطار لارناكا، في المكان المخصص لها تماماً على بعد كيلو متر واحد من المدرعة التي تقل أمينة المفتي وبعد عشرة دقائق أذن لقائدها بفتح أبوابها. كانت لحظات عصيبة حقاً وطويلة كالدهر، إذ تتابعت الأنفاس ودقت الصدور عندما انفتح باب الطائرة، وبدلاً من أن يقفز منها فريق الكوماندوز الصهيوني المعروف باسم "النخبة"
    أو السايريت ماتاكال – أطل مندوب الصليب الأحمر الدولي ومن خلفه ظهر ضابط مخابرات صهيوني بلباس مدني. وعند نقطة محددة بمنتصف المسافة بين الطائرة والمدرعة ، كان ينتظر مندوب الصليب الأحمر الآخر.

    تصافح المندوبان وتحدثا لعدة ثوان، ثم اتجها بالضابط إلى المدرعة.
    هذا في الوقت الذي أحيطت في الطائرة بأربعة مدرعات مسلحة، وبأكثر من مائة جندي من قوات العمليات الخاصة تلمس أصابعهم زناد بنادقهم الآلية في حذر ويقظة. إضافة إلى مئات البنادق الرشاشة الأخرى التي صوبت باتجاه الطائرة من النوافذ وعلى الأسطح المجاورة.

    وعندما دخل الضابط الصهيوني إلى المدرعة، كشف عن وجه أمينة الشاحب وأخرج من جيبه صورة لها وقال مبتسماً في إطمئنان:
    لا عليك يا سيدتي . . ستعودين معنا أكثر رونقاً . . وبهاءً.
    أجهشت أمينة بالبكاء وقالت في لهفة:هل جاء موشيه معكم . . ؟
    أجاب الضابط بدهشة:موشيه من سيدتي . . ؟
    جحظت عيناها في هلع ثم قطبت جبينها وهي تقول:
    ألا تعرف زوجي موشيه بيراد . . ؟
    ازداد دهشة الضابط وأجابها على الفور:الحديث هنا غير مناسب يا عزيزتي . . وعما قليل ستعرفين إجابات كل ما بعقلك من تساؤلات.
    قالت في فزع:أرجوك . . أخبرني فقط أين موشيه . . ؟
    أجاب دون تردد: سيكون اللقاء حاراً في إسرائيل.


    هكذا قذف بكلمات لا تحمل إجابة محددة وغادر إلى المدرعة مسرعاً، وترك أمينة تضرب أخماساً في أسداس لا تعرف ماذا يقصد بالضبط. أما الضابط فقد أدرك من سؤالها مدى براعة الخدعة الكبرى التي رسمها لها الفلسطينيون، وما سوف يؤدي اليه من تمزقات بعقل المسكينة البائسة. وبعدما خطا عدة خطوات بعيداً عن المدرعة . .

    رفع يده ملوحاً في إشارة لزملائه بالطائرة. . الذين كانوا يتابعونه بنظارات الميدان في قلق. وعند منتصف المسافة تماماً بين الطائرة والمدرعة وقف برفقة مندوب الصليب الأحمر

    . . بينما اتجه المندوب الآخر إلى عربة عسكرية تقل ضابطاً فلسطينياً . . انطلقت بهما على عجل إلى الطائرة وقبلما يترجلان أمام السلم المشدد الحراسة، كان الأسيران يقفان بالباب أعلى السلم حليقا الرأس . . يرتدي كل منهما بنطلوناً بنياً وجاكتاً بنياً أيضاً مبطناً بالفرو. . وعلى وجهيهما تبدو ابتسامة عريضة مؤججة بالفرح والظفر.

    فلما تعرف عليهما الضابط الفلسطيني . . لوح بيده إلى مندوب الصليب الأحمر الواقف بمنتصف الطريق ينتظر إشارته. وعند ذلك . . استقل الضابط الفلسطيني العربة العسكرية إلى داخل المطار . . لتبدأ عملية المبادلة بعد دقيقتين ونصف.

    انتهى
    الفصل الثامن عشر

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. حكم و أمثال عربية - حكم عربية قديمة - عبارات وامثال عربية 2017
    بواسطة A D M I N في المنتدى الالغاز والفوازير حكم وامثال
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22-11-2016, 11:24 AM
  2. الأردن يحصل على جائزة ثاني أشهر موقع ووجهة سياحية عربية
    بواسطة محمد الدراوشه في المنتدى جريدة الراي
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-03-2015, 07:30 AM
  3. رئيس للموساد: مهاجمة إيران غباء
    بواسطة محمد الدراوشه في المنتدى منتدى الاخبار العربية والمحلية
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 08-05-2011, 03:27 PM
  4. والدة طل الملوحي : ابنتي ليست جاسوسة
    بواسطة الاسطورة في المنتدى منتدى الاخبار العربية والمحلية
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 24-09-2010, 11:56 AM
  5. أشهر 7 نجوم أصولهم عربية شاركوا في المونديال
    بواسطة جزائرية وافتخر في المنتدى منتدى الرياضة العربيه والعالميه
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 25-07-2010, 08:37 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
معجبوا منتدي احباب الاردن على الفايسبوك