+كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاَْرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي".


+كلا إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا. وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا. وجيء يومئذ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى" يذكر الله سبحانه وتعالى الناس بيوم القيامة +إذا دكت الأرض دكًّا دكًّا" حتى لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، تُدك الجبال، ولا بناء، ولا أشجار، تمد الأرض كمد الأديم، يكون الناس عليها في مكان واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر في هذا اليوم

+يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. يقول يا ليتني قدمت لحياتي" ولكن قد فات الأوان، لأننا في الدنيا في مجال العمل في زمن المهلة يمكن للإنسان أن يكتسب لمستقره، كما قال مؤمن آل فرعون +يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار" [غافر: 39]. متاع يتمتع به الإنسان كما يتمتع المسافر بمتاع السفر حتى ينتهي سفره، فهكذا الدنيا، واعتبر ما يستقبل بما مضى، كل ما مضى كأنه ساعة من نهار، كأننا الآن مخلوقون، فكذلك ما يستقبل سوف يمر بنا سريعاً ويمضي جميعاً، وينتهي السفر إلى مكان آخر ليس مستقرًّا، إلى الأجداث إلى القبور ومع هذا فإنها ليست محل استقرار لقول الله تعالى: +ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر" [التكاثر: 1، 2]. سمع أعرابي رجلاً يقرأ هذه الآية فقال: (والله ما الزائر بمقيم ولابد من مفارقة لهذا المكان)، وهذا استنباط قوي وفهم جيد يؤيده الآيات الكثيرة الصريحة في ذلك كقوله تعالى: +ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون" [المؤمنون: 15، 16]. وذكر الله سبحانه وتعالى ما يكون في هذا اليوم فقال:

+وجاء ربك والملك صفًّا صفًّا" أي: صفًّا بعد صف، +وجاء ربك" هذا المجيء هو مجيئه ـ عز وجل ـ لأن الفعل أسند إلى الله، وكل فعل يسند إلى الله فهو قائم به لا بغيره، هذه القاعدة في اللغة العربية، والقاعدة في أسماء الله وصفاته كل ما أسنده الله إلى نفسه فهو له نفسه لا لغيره، وعلى هذا فالذي يأتي هو الله عز وجل، وليس كما حرفه أهل التعطيل حيث قالوا إنه جاء أمر الله، فإن هذا إخراج للكلام عن ظاهره بلا دليل، فنحن من عقيدتنا أن نجري كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلّم على ظاهره وأن لا نحرف فيه. ونقول: إن الله تعالى يجيء يوم القيامة هو نفسه، ولكن كيف هذا المجيء؟ هذا هو الذي لا علم لنا به لا ندري كيف يجيء؟ والسؤال عن مثل هذا بدعة كما قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حين سُئل عن قوله تعالى: +الرحمن على العرش استوى" [طه: 5]. فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ـ يعني العرق ـ لشدة هذا السؤال على قلبه، لأنه سؤال عظيم سؤال متنطع، سؤال متعنت أو مبتدع يريد السوء، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)، الشاهد الكلمة الأخيرة ـ السؤال عنه بدعة ـ واعتبر هذا في جميع صفات الله فلو سألنا سائل قال: إن الله يقول: +لما خلقت بيدي" [ص 75]. يعني آدم، كيف خلقه بيده؟ نقول: هذا السؤال بدعة، قال: أنا أريد العلم لا أحب أن يخفى علي شيء من صفات ربي فأريد أن أعلم كيف خلقه؟ نقول: نحن نسألك أسئلة سهلة هل أنت أحرص على العلم من الصحابة رضي الله عنهم؟ إما أن يقول نعم، وإما أن يقول لا، والمتوقع أن يقول لا. هل الذي وجهت إليه السؤال أعلم بكيفية صفات الله عز وجل أم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ سيقول: الرسول، إذاً الصحابة أحرص منك على العلم والمسؤول الذي يوجه إليه السؤال أعلم من الذي تسأله ومع ذلك ما سألوا؛ لأنهم يلتزمون الأدب مع الله عز وجل، ويقولون بقلوبهم وربما بألسنتهم إن الله أجل وأعظم من أن تحيط أفهامنا وعقولنا بكيفيات صفاته، والله عز وجل يقول في كتابه في الأمور المعقولة +ولا يحيطون به علماً" [طه: 110]. وفي الأمور المحسوسة: +لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" [الأنعام: 103]. فنقول: يا أخي إلزم الأدب، لا تسأل كيف خلق الله آدم بيده؟ فإن هذا السؤال بدعة، وكذلك بقية الصفات لو سأل كيف عين الله عز وجل؟ قلنا له: هذا بدعة، لو سأل كيف يد الله عز وجل قلنا: هذا بدعة وعليك أن تلزم الأدب، وأن لا تسأل عن كيفية صفات الله عز وجل. لما قال هنا في الآية الكريمة +وجاء ربك" وسأل كيف يجيء؟ نقول: هذا بدعة ـ هذه القاعدة التزموها ـ وكل إنسان يسأل عن كيفية صفات الله فهو مبتدع متنطع، سائل عما لا يمكن الوصول إليه، فموقفنا من مثل هذه الآية +وجاء ربك" أن نؤمن بأن الله يجيء لكن على أي كيفية ؟ الله أعلم. والدليل قوله تعالى: +ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى: 11]. فنحن نعلم النفي ولا نعلم الإثبات، يعني نعلم أنه لا يمكن أن يأتي على كيفية إتيان البشر، ولكننا لا نثبت كيفيته وهذا هو الواجب علينا .


وقوله: +الملك" (ال) هنا للعموم يعني جميع الملائكة يأتون ينزلون ويحيطون بالخلق، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم ملائكة السماء الثانية وهلم جرا يحيطون بالخلق إظهاراً للعظمة، وإلا فإن الخلق لا يمكن أن يفروا يميناً ولا شمالاً لكن إظهاراً لعظمة الله وتهويلاً لهذا اليوم العظيم، تنزل الملائكة يحيطون بالخلق، وهذا اليوم يوم مشهود يشهده الملائكة والإنس والجن والحشرات وكل شيء +وإذا الوحوش حشرت" [التكوير: 5]. فهو يوم عظيم لا ندركه الآن ولا نتصوره لأنه أعظم مما نتصور. الأمر الثالث مما به الإنذار في هذا اليوم بعد أن عرفنا الأمر الأول وهو مجيء الله، ثم صفوف الملائكة قال:

+وجيء يومئذ بجهنم" +جيء يومئذٍ" ولم يذكر الجائي لكن قد دلت السنة أنه يؤتى بالنار تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام منها يقوده سبعون ألف ملك(135)، وما أدراك ما قوة الملائكة؟ قوة ليست كقوة البشر، ولا كقوة الجن بل هي أعظم وأعظم بكثير، ولهذا لما قال عفريت من الجن لسليمان +أنا آتيك به" بعرش بلقيس +قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرًّا عنده" [النمل: 39، 40]. قال العلماء: لأن الرجل هذا دعا الله، فحملته الملائكة من اليمن فجاءت به إلى سليمان في الشام، فقوة الملائكة عظيمة، وهم يجرون هذه النار بسبعين ألف زمام، كل زمام يجره سبعون ألف ملك، إذاً هي عظيمة، هذه النار إذا رأت أهلها من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وليست كزفير الطائرات أو المعدات، زفير تنخلع منه القلوب، +كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير" [الملك: 8]. وقال الله عز وجل: +تكاد تميز من الغيظ" تكاد تقطع من شدة الغيظ على أهلها، فلهذا أنذرنا الله تعالى منها فهذه ثلاثة أمور كلها إنذار: مجيء الرب جل جلاله، صفوف الملائكة، الثالث: الإتيان بجهنم.

+يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى" يعني إذا جاء الله في يوم القيامة، وجاء الملك الملائكة صفوفاً صفوفاً، وأحاطوا بالخلق، وحصلت الأهوال والأفزاع يتذكر الإنسان، يتذكر أنه وعد بهذا اليوم، وأنه أعلم به من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنذروا وخوفوا، ولكن من حقت عليه كلمة العذاب فإنه لا يؤمن ولو جاءته كل آية، حينئذ يتذكر لكن يقول الله عز وجل +وأنى له الذكرى" أين يكون له الذكرى في هذا اليوم الذي رأى فيه ما أخبر عنه يقيناً؟! وأنى له الاتعاظ فات الأوان؟! والإيمان عن مشاهدة لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد، الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب +الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3]. فيصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل وعن اليوم الآخر، في ذلك اليوم يتذكر الإنسان ولكن قال الله عز وجل: +أنى له الذكرى" أي بعيد أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق يقول الإنسان:

+يا ليتني قدمت لحياتي" يتمنى أنه قدم لحياته وما هي حياته؟ أهي حياة الدنيا؟ لا والله، الحياة الدنيا انتهت وقضت، وليست الحياة الدنيا حياة في الواقع، الواقع أنها هموم وأكدار، كل صفو يعقبه كدر، كل عافية يتبعها مرض، كل اجتماع يعقبه تفرق، انظروا ما حصل أين الآباء؟ أين الإخوان؟ أين الأبناء؟ أين الأزواج؟ هل هذه حياة؟ ولهذا قال بعض الشعراء الحكماء:


لا طيب للعيش مادامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم


كل إنسان يتذكر أن مآله أحد أمرين: إما الموت، وإما الهرم، نحن نعرف أناساً كانوا شباباً في عنفوان الشباب عُمّروا لكن رجعوا إلى أرذل العمر، يَرقُ لهم الإنسان إذا رآهم في حالة بؤس، حتى وإن كان عندهم من الأموال ما عندهم، وعندهم من الأهل ما عندهم، لكنهم في حالة بؤس، وهكذا كل إنسان إما أن يموت مبكراً، وإما أن يُعمّر فيرد إلى أرذل العمر فهل هذه حياة؟ الحياة هي ما بينه الله عز وجل: +وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" يعني لهي الحياة التامة {لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]. يقول هذا: +يا ليتني قدمت لحياتي" يتمني لكن لا يحصل {أنى له الذكرى}.


قال تعالى: +فيومئذٍ لا يعذِّب عذابه أحد، ولا يُوثَق وثاقه أحد" فيها قراءتان: الأولى +لا يعذِّب عذابه أحد ولا يوثِقُ وَثاقه أحد" أي لا يعذب عذاب الله أحد، بل عذاب الله أشد، ولا يوثق وثاق الله أحد، بل هو أشد. القراءة الثانية: +لا يعذَّب عذابه أحد ولا يُوثَق وثاقه أحد" يعني في هذا اليوم لا أحد يعذب عذاب هذا الرجل، ولا أحد يوثق وثاقه، ومعلوم أن هذا الكافر لا يعذب أحد عذابه في ذلك اليوم، لأنه يُلقى على أهل النار في الموقف العطش الشديد، فينظرون إلى النار كأنها السراب، والسراب هو ما يشاهده الإنسان في أيام الصيف في شدة الحر من البقاع حتى يخيل إليه أنه الماء، ينظرون إلى النار كأنها سراب وهم عطاش، فيتهافتون عليها يذهبون إليها سراعاً يريدون أي شيء؟ يريدون الشرب، فإذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: +ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا" [الزمر: 71]. قد قامت عليكم الحجة فيوبخونهم قبل أن يدخلوا النار، والتوبيخ عذاب قلبي وألم نفسي قبل أن يذوقوا ألم النار، وفي النار يوبخهم الجبار عز وجل توبيخاً أعظم من هذا. ويقولون +ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين. ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون" قال الله تعالى وهو أرحم الراحمين: +اخسئوا فيها ولا تكلمون" [المؤمنون: 106 ـ 108]. أبلغ من هذا الإذلال +اخسئوا فيها ولا تكلمون" يقوله أرحم الراحمين، فمن يرحمهم بعد الرحمن؟! لا راحم لهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن أهون أهل النار عذاباً من عليه نعلان يغلي منهما دماغه، ولا يرى أن أحداً أشد منه عذاباً (136) يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم عذاباً، وعليه نعلان يغلي منهما الدماغ، النعلان في أسفل البدن والدماغ في أعلاه، فإذا كان أعلى البدن يغلي من أسفله، فالوسط من باب أشد ـ أجارنا الله وإياكم من النار ـ


+فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد" لأنهم ـ والعياذ بالله ـ يوثقون +ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه" [الحاقة: 32]. أدخلوه في هذه السلسلة تغل أيديهم ـ نسأل الله العافية ـ ولا أحد يتصور الآن ما هم فيه من البؤس والشقاء والعذاب. إذن على الإنسان أن يستعد قبل أن +يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد".

ثم ختم الله تعالى هذه السورة بما يبهج القلب ويشرح الصدر فقال:

+يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية"

+ارجعي إلى ربك" يقال هذا القول للإنسان عند النزع في آخر لحظة من الدنيا، يقال لروحه: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فتستبشر وتفرح، ويسهل خروجها من البدن، لأنها بشرت بما هو أنعم مما في الدنيا كلها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(137)، سوط الإنسان العصا القصير، موضع السوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وليست دنياك أنت، بل الدنيا من أولها إلى آخرها، بما فيها من النعيم، والملك، والرفاهية وغيرها، موضع سوط خير من الدنيا وما فيها، فكيف بمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام، ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، نعيم لا يمكن أن ندركه بنفوسنا ولا بتصورنا +فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون" [السجدة: 17].


+النفس المطمئنة" يعني المؤمنة الآمنة، لأنك لا تجد نفسًا أكثر إطمئناناً من نفس المؤمن أبداً، المؤمن نفسه طيبة مطمئنة، ولهذا تعجب الرسول صلى الله عليه وسلّم من المؤمن قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته ضَّراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سَّراء شكر فكان خيراً له»(138)، مطمئن راض بقضاء الله وقدره، لا يسخط عند المصائب، ولا يبطر عند النعم، بل هو شاكر عند النعم، صابر عند البلاء، فتجده مطمئناً، لكن الكافر أو ضعيف الإيمان لا يطمئن، إذا أصابه البلاء جزع وسخط، ورأى أنه مظلوم من قبل الله ـ والعياذ بالله ـ حتى إن بعضهم ينتحر ولا يصبر، ولا يطمئن، بل يكون دائماً في قلق، ينظر إلى نفسه وإذا هو قليل المال، قليل العيال ليس عنده زوجة، ليس له قوم يحمونه، فيقول: أنا لست في نعمة، لأن فلانًا عنده مال، عنده زوجات، عنده أولاد، عنده قبيلة تحميه، أنا ليس عندي، فلا يرى لله عليه نعمة، لأنه ضعيف الإيمان فليس بمطمئن، دائماً في قلق، ولهذا نجد الناس الآن يذهبون إلى كل مكان ليرفهوا عن أنفسهم ليزيلوا عنها الألم والتعب، لكن لايزيل ذلك حقاًّ إلا الإيمان، فالإيمان الحقيقي هو الذي يؤدي إلى الطمأنينة .

فالنفس المطمئنة هي المؤمنة، مؤمنة في الدنيا، آمنة من عذاب الله يوم القيامة، قال بعض السلف كلمة عجيبة قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف، هل تجدون أنعم في الدنيا من الملوك وأبنائهم، لا يوجد أحد أنعم منهم في الظاهر يعني نعومة الجسد، لكن قلوبهم ليست كقلوب المؤمنين، المؤمن الذي ليس عليه إلا ثوب مرقع، وكوخ لا يحميه من المطر، ولا من الحر، ولكنه مؤمن، دنياه ونعيمه في الدنيا أفضل من الملوك وأبناء الملوك، لأن قلبه مستنير بنور الله، بنور الإيمان، وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حبس وأوذي في الله عز وجل، فلما أدخل الحبس وأغلقوا عليه الباب قال رحمه الله: +فَضُرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب" [الحديد: 13]. يقول هذا تحدثاً بنعمة الله لا افتخاراً ثم قال: (ما يصنع أعدائي بي ـ أي شيء يصنعون ـ إن جنتي في صدري ـ أي الإيمان والعلم واليقين ـ وإن حبسي خلوة، ونفيي ـ إن نفوه من البلد ـ سياحة وقتلي شهادة) هذا هو اليقين، هذه الطمأنينة، والإنسان لو دخل الحبس كان يفكر ما مستقبلي، ما مستقبل أولادي، وأهلي، وقومي، وشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: (جنتي في صدري) وصدق. ولعل هذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: +لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" [الدخان: 56]. يعني في الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ومعلوم أن الجنة لا موت فها لا أولى ولا ثانية، لكن لما كان نعيم القلب ممتداً من الدنيا إلى دخول الجنة صارت كأن الدنيا والآخرة كلها جنة وليس فيها إلا موتة واحدة.

+راضية" بما أعطاك الله من النعيم

+مرضية" عند الله عز وجل كما قال تعالى: +رضي الله عنهم ورضوا عنه" [المجادلة: 22].
+فادخلي في عبادي" أي: ادخلي في عبادي الصالحين، من جملتهم، لأن الصالحين من عباد الله الذين أنعم الله عليهم، الذين هم خير طبقات البشر،

والبشر طبقاته ثلاث:

منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون، وكل هذه الطبقات مذكورة في سورة الفاتحة +اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم. غير المغضوب عليهم ولا الضالين".

الطبقة الأولى: الذين أنعم الله عليهم وهم: النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون.


والثانية: +المغضوب عليهم" وهم اليهود وأشباه اليهود من كل من علم الحق وخالفه، فكل من علم الحق وخالفه ففيه شبه من اليهود، كما قال سفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود.


والثالثة: +الضالون" وهم النصارى الذين جهلوا الحق، أرادوه لكن عموا عنه، ما اهتدوا إليه، قال ابن عيينة: وكل من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العبّاد يريدون الخير يريدون العبادة لكن لا علم عندهم، فهم ضالون.


+ادخلي في عبادي" أي الطبقة الأولى المنعم عليهم.

+وادخلي جنتي" أي جنته التي أعدها الله عز وجل لأوليائه، أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها وتعظيماً، وإعلاماً للخلق بعنايته بها جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد خلقها خلقاً غير خلق الدنيا، خلق لنا في الدنيا فاكهةً، ونخلاً، ورماناً، وفي الجنة فاكهة، ونخل، ورمان ولكن ما في الجنة ليس كالذي في الدنيا أبداً، لأن الله يقول: +فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" [السجدة: 17]. ولو كان ما في الجنة كالذي في الدنيا لكنا نعلم، إذاً هو مثله في الاسم، لكن ليس مثله في الحقيقة ولا في الكيفية ولهذا قال: +ادخلي جنتي" فأضافها الله إلى نفسه للدلالة على شرفها وعناية الله بها، وهذا يوجب للإنسان أن يرغب فيها غاية الرغبة، كما أنه يرغب في بيوت الله التي هي المساجد، لأن الله أضافها إلى نفسه، فكذلك يرغب في هذه الدار التي أضافها الله إلى نفسه، والأمر يسير، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلّم: دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال: لقد سألت عن عظيم، وهو عظيم، +فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز" [آل عمران: 185]. وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وذكر الحديث(139)، فالدين والحمد لله يسير وسهل، لكن النفوس الأمّارة بالسوء، والشهوات، والشبهات، هي التي تحول بيننا وبين ديننا .



ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.


---------------------------


العلامة محمد بن عثيمين يرحمه الله



(127) أخرجه البخاري كتاب الأذان باب الأذان للمسافر (631) ومسلم كتاب المساجد باب من أحق بالإمامة (674) (292) .

(128) أخرجه البخاري كتاب العيدين باب فضل العمل في أيام التشريق (969) .

(129) أخرجه البخاري كتاب الدعوات باب لله مائة اسم غير واحدة (6410) ومسلم كتاب الذكر والدعاء باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677) (5) .

(130) أخرجه البخاري كتاب الدعوات ، باب الدعاء نصف الليل (6321) ومسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (758) (168) .

(131) أخرجه البخاري كتاب اللباس باب عذاب المصورين يوم القيامة (5950) ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة حيوان (2104) (96) .

(132) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب تفسير قوله تعالى
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) (4702) ومسلم كتاب الزهد باب النهي عن الدخول على أهل الحجر إلا من يدخل باكياً (2980) (38) .

(133) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/278) .

(134) تقدم تخريجه ص (129) .

(135) تقدم تخريجه ص (52) .

(136) أخرجه البخاري كتاب مناقب الأنصار باب قصة أبي طالب (3885) ومسلم كتاب الإيمان باب أهون أهل النار عذاباً (211) (361).

(137) أخرجه البخاري كتاب الرقاق باب مثل الدنيا في الآخرة (6415) .

(138) تقدم تخريجه ص (78) .

(139) أخرجه مسلم كتاب الإيمان باب بيان فضل الإيمان الذي يدخل به الجنة وإن من تمسك بما أمر به الله دخل الجنة (13 - 18) .