تقرير: مجاهد بشير
منح الجمهوريات أرقاماً تميزها عن بعضها، كما تميز لوحات السيارات طرازاتها المختلفة، وأحياناً المتشابهة، تقليد فرنسي بامتياز، فالفرنسيون، أعلنوا جمهوريتهم الأولى العام 1792م في خضم الثورة، وخلعوا الملك لويس السادس عشر، لتستمر الجمهورية حتى قضى عليها نابليون بإعلان نفسه إمبراطوراً في العام 1804م، لتنهض جمهورية ثانية على أكتاف ثورة أخرى العام 1848م، ما لبث إمبراطور آخر أن أنقض عليها بعد ثلاثة أعوام، أما الجمهورية الثالثة فقامت عقب هزيمة مريرة لحقت بالإمبراطور الفرنسي على يد الجيش الألماني العام 1870م، ليعود الألمان ويختتموا الجمهورية الفرنسية الثالثة كما بدأوها باحتلال باريس العام 1940م وتعيين حكومة ترأسها الجنرال بيتان الذي دمغ لاحقاً بالعمالة، لتعلن جمهورية رابعة في 1946م، أنهاها مجيء الجمهورية الخامسة والدستور الفرنسي الحالي في العام 1958م، جمهورية بقيت صامدة حتى الآن.
وقبل توصيف على عثمان قبل يومين لمرحلة ما بعد الفترة الانتقالية بأنها ستكون جمهورية سودانية ثانية، تصاعدت بعض الأصوات في مصر المجاورة، التي تشهد ثورة شعبية، بتأسيس جمهورية ثانية، ترث الجمهورية المصرية الحالية التي أقامها الجيش على أنقاض الحكم الملكي العام 1952م، في انقلاب عرف فيما بعد على نحو واسع بثورة يوليو.
فالجمهوريات الجديدة، في الحالة الفرنسية، تقوم على أنقاض أنظمة ملكية، أو بقايا أنظمة (عميلة) كحال حكومة فيشي التي ترأسها الجنرال بيتان، وفي مصر، برز الحديث عن جمهورية ثانية بعد اهتزاز عرش جمهوريتها الأولى تحت أقدام الجماهير الغاضبة، وفي السودان، لا يأتي الحديث عن جمهورية ثانية على أنقاض نظام ملكي بالطبع، ولا على وقع ثورة شعبية عارمة كتلك التي تشتعل في مصر، لكنه يبرز على أنقاض السودان القديم، تلك الجمهورية التي تم إعلانها في الأول من يناير العام 1956م، وينتظر أن يعلن رسمياً في العاشر من يوليو المقبل إنقسامها إلى دولتين، ما يعني عملياً نهاية الجمهورية السودانية الأولى، وترحيل بعض مشاكلها إلى الجمهورية الثانية.
رؤية المؤتمر الوطني والحكومة القائمة بشأن الجمهورية الثانية المح اليها على عثمان نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني الحاكم، اذ لم يعلن طه رفض النظام الرئاسي كطريقة لإدارة البلاد في المستوى القومي، ومعه النظام الفيدرالي كطريقة لإدارة البلاد في المستوى الإقليمي، و أيضاً نظام الاقتصاد الرأسمالي، أو ما بات يعرف في العقود الأخيرة باقتصاد السوق الحر، مع بعض الترميمات التي تجعله سودانياً بعض الشيء، برفع الدعم عن سلع تستهلكها الطبقات الميسورة، كسلعة البنزين، لتوفير موارد حكومية للانفاق على طبقات اجتماعية فقيرة عبر بعض الأجهزة الاجتماعية، والأهم فيما عبر عنه طه، أن المؤسسات الحالية ستظل باقية في الجمهورية الثانية، باعتبارها مؤسسات دستورية وليست انتقالية، وألمح إلى أن المؤتمر الدستوري الذي يتوقع البعض انعقاده في المرحلة المقبلة، سيقتصر دوره على إدارة حوار بشأن المرحلة المقبلة، وتحديد كيفية المشاركة، ولن يتسع ذاك الدور ليشمل انتخابات جديدة أو تفكيك المؤسسات القائمة.
المشكلات التي ستواجه الجمهورية الثانية ربما تملأ قائمة طويلة، لكن يمكن وضع محاور رئيسية لها، أولها محور الدستور، فالدستور الحالي بالطبع لن يكون هو دستور الجمهورية الثانية، إذ سيتم تعديله كما يقول المؤتمر الوطني، أو تغييره كما يرى آخرون، وربما تصبح مهمة التوافق السياسي على الدستور المقبل عسيرة بين من ينادى بالتغيير، ومن يطرح مجرد التعديل، الاقتصاد كذلك يمثل محوراً آخر للخلاف المتوقع بشأن الجمهورية الثانية، فبعض القوى المعارضة ترغب في تبني اقتصاد مخطط، مثلما قال صديق يوسف القيادي الشيوعي لـ (الرأي العام) في وقت سابق، وتطالب المعارضة عادة بتدخل الدولة في الاقتصاد، لكبح جماح السوق ونزعاته الوحشية، فيما يرى الوطني أن سياسة السوق الحر لا يمكن التراجع عنها، وإن كان يعترف بضرورة معالجة آثارها الإجتماعية.
نظام الحكم القومي نفسه سيكون موضوع خلاف شديد، فالمؤتمر الوطني، يتبني نظام الحكم الرئاسي، وجدد طه في مؤتمره الصحفي الأخير التمسك بهذا النظام، ورغم أن المعارضة تتفق مع الوطني بشأن الفيدرالية كمبدأ عام لحكم الأقاليم، إلا أن بعضها يطالب بأن تكون دارفور إقليما واحداً وهو ما يرفضه الوطني حتى الآن، فضلاً عن دعوات عديدة من جانب المعارضة لاستبدال النظام الرئاسي بالنظام البرلماني القديم، وقال على السيد القانوني والقيادي الاتحادي لـ(الرأي العام) في وقت سابق ان النظام البرلماني يناسب ظروف السودان أكثر من النظام الرئاسي، لاتاحته قدراً أكبر من التعددية.
استبدلت الجمهورية الفرنسية الخامسة- الحالية- النظام البرلماني الذي تبنته الجمهورية الرابعة بالنظام الرئاسي، مع إبقائها على بعض ملامح النظام البرلماني متمثلة في رئيس وزراء بصلاحيات محدودة مقارنة بالرئيس، وهو نظام حكم شبيه بالقائم في مصر حالياً، ويبدو هذا النظام ملائماً للجهمورية السودانية الثانية وفقاً للبعض، باستحداث منصب رئيس وزراء يسند إلى أحد القوتين التقليديتين الرئيسيتين: الأمة أو الاتحادي.
هناك من يقول إن الجمهورية الثانية ليست سوى امتداد لحكم المؤتمر الوطني، ويتهم د.إبراهيم ميرغني المحلل السياسي الوطني بعدم الرغبة في تقليص صلاحيات المركز ضمن نظام فيدرالي حقيقي تمنح فيه الأقاليم صلاحيات تمكنها من تنفيذ سياسات تحقق مصالحها، ويضيف أن استقرار الجمهورية الثانية وضمان عدم التحاق أقاليم كدارفور والشرق بالجنوب، لن يتحقق إلا بتبني نظام فيدرالي حقيقي يربط الأقاليم بمصالح اقتصادية مشتركة، ويتم فيه توزيع عادل للثروات وليس نظام يقوم فيه حكام إقليميون بممارسة الحكم كوكلاء للمركز، فالنظام البرلماني البريطاني فشل في السودان، والنظام الرئاسي لم يحقق نجاحات كثيرة أيضاً، ويخلص إلى أن نظام الحكم يجب أن يفصل على مقاييس السودان، مع إمكانية الإفادة من تجارب فيدرالية في دول كالهند وغيرها، ويتابع ميرغني أن صراع الأمة والاتحادي والمؤتمر الوطني على السلطة في المرحلة المقبلة يجب أن يدار بطريقة لا تقود إلى تدمير الجمهورية الثانية.
يقول البعض إن السودانيين اعتادوا على الخلاف، وربما يختلفون حتى على الجمهورية الثانية كتوصيف لمرحلة ما بعد انفصال الجنوب، وبغض النظر عن التوصيفات والتسميات، فإن الجمهورية الثانية، إن قدر لها أن تقوم، يفترض بها على الأقل أن تعي الدرس جيداً هذه المرة: درس أخطاء الجمهورية السابقة، كي لا يأتي وقت يتجادل فيه المراقبون، مثلما يفعلون الآن، عن الأسس القوية التي يمكن أن تُبنى عليها جمهورية أخرى ثالثة.. وربما رابعة...!
المفضلات