بقلم د. وحيد عبدالمجيد ٢٨/ ١/ ٢٠١١
لم يتوقع أى من المراقبين المشهد فى القاهرة وعدد كبير من المحافظات المصرية الثلاثاء الماضى، وقل مثل ذلك عن دعاة التظاهر فى ذلك اليوم، كان المشهد المفاجئ أملاً تطلعوا إليه أو أمنية حلموا بها، وربما آخرون معهم، ولكنهم فوجئوا به كغيرهم.
كان حجم المظاهرات أكبر من أى توقعات، وكذلك الحال بالنسبة إلى انتشارها فى كثير من أنحاء البلاد، وخروج أعداد متفاوتة من المصريين العاديين البسطاء فى مناطق لم يحدث فيها مثل ذلك من قبل.
ولذلك بدا المشهد غير مسبوق منذ ٣٤، عاماً عندما نشبت انتفاضة ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ التى دخلت تاريخ نضال الشعوب. كانت تلك الانتفاضة أكبر حجماً حين تُقاس إلى عدد سكان مصر فى ذلك الوقت، فمن نحو ٣٧ مليوناً حينئذ إلى أكثر من ثمانين مليوناً اليوم، تغيرت مصر كليا، وليس فقط
ديموجرافيا.
ورغم أن مظاهرات ٢٠١١ لا تعتبر انتفاضة، فقد كانت أوسع نطاقاً من انتفاضة ١٩٧٧ على المستوى الجغرافى، ولذلك ينبغى أن تأخذها الحكومة وغيرها من أجهزة الدولة بجدية شديدة. فقد استهانت بمقدماتها مادام الداعون إلى التظاهر «شباباً افتراضيين يعيشون فى فضاء الإنترنت»، وباعتبار أنهم فى حاجة إلى توعية. وقد تستهين بتداعياتها بدعوى أن «الإخوان» هم الذين حركوها. وليت من يقولون ذلك لا يصدقونه، لأن معظم من نزلوا إلى الشارع شباب غير منتمين سياسيا أو فكريا، إنهم أبناؤنا الذين خنقتهم البطالة واستفزهم الفساد بعد أن «نفَّضوا» و«كبَّروا الدماغ» لفترة طويلة.
صرخ أحدهم قائلاً: «أول مرة أخرج فى مظاهرة. خلاص اتخنقنا». إنهم شباب غير مسيسين أو منظمين فى معظمهم. ولذلك كانت العشوائية ظاهرة فى تحركاتهم، لكنهم جسدوا أنبل ما فى مصر وهم يرفعون علمها ويحتضنونه.
والحال أنه ليس فى إمكان أحد أن يصنع الغضب المكتوم فى صدور كثير من المصريين فعلاً، والفقر ليس إلا واحداً من أسبابه التى تراكمت، ولذلك لا جدوى من محاولة رئيس الوزراء وبعض أركان الحكومة إقناع الناس بأنهم فى أحسن حال استناداً إلى عدد أجهزة التكييف أو الهاتف المحمول.
ولو أن الأزمة الآخذة فى التفاقم محصورة فى الفقر الذى نختلف على معدلاته وكيفية قياسه لجاز لأصحاب القرار أن يطمئنوا، ولكن الغضب ليس مقصوراً على الفقراء، كثير غيرهم غاضبون لأسباب أخرى من بينها الفساد والاحتكار وغياب المعايير وافتقاد التكافؤ فى الفرص وسطوة المال الذى يشترى البشر وليس فقط الأشياء وغيرها.
هذا فضلا عن الانسداد السياسى وتبديد الأمل الذى خلقه الرئيس حسنى مبارك فى مطلع عام ٢٠٠٥، عندما طالب بتعديل الدستور لكى يكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب، فقد التف حُراس الانسداد السياسى على ما بدا وقتها أنه إصلاح قادم، وجنَّدوا كل قدراتهم وخبراتهم لتفريغ التعديلات الدستورية من أى مضمون إصلاحى، بل أعادوا عقارب الساعة إلى الوراء عبر بعض تلك التعديلات.
كان كاتب السطور أحد من تعلقوا حينئذ بالأمل فى الإصلاح. ولذلك شارك فى أعمال لجنة رفيعة المستوى شُكّلت فى مطلع عام ٢٠٠٦ لبحث التعديلات الدستورية، وشهد عن كثب كيف خُنق الأمل الوليد بأيدى بعض من كانت المسؤولية الوطنية تفرض عليهم رعايته لتحقيق إصلاح تدريجى يقى البلاد خطر الغضب حين يتراكم إلى أن يصعب حبسه مهما كانت الأبواب مغلقة والقنوات مسدودة، وهذه قصة بالغة الدلالة قد يحين أوان كشف النقاب عنها قريبا.
فليس هناك سبيل إلى تجنب انفجار غضب الشعوب إلا العمل من أجل تلافى أسبابه ومنع تراكمه وفتح الأبواب المغلقة بشكل تدريجى بدلا من انتظار كسرها عنوة.
ومازال هذا ممكناً اليوم، ولكن فرصته تتضاءل بسرعة بعد أن بدأت حركة الشعوب فى عدد متزايد من بلاد المنطقة.
وإذ يقف المجتمع الدولى مدهوشاً وهو يكتشف للمرة الأولى أن فى المنطقة العربية شعوبا، لم يعد ممكنا الاستمرار فى تجاهل الحاجة إلى إصلاح جدىّ يُقنع المصريين الذين عرفوا الطريق إلى الشارع بأن هناك طريقاً أخرى أكثر أمناً وأقل تكلفة.
فليس فى الوقت متسع لمزيد من الرهانات الخاطئة فى لحظة يقود فيها أى تفكير عاقل إلى إدراك أنها ليست كغيرها مما مر على البلاد فى السنوات الست الأخيرة التى ظلت الحركة السياسية فيها قشرة على سطح جامد، وبقيت الاحتجاجات المطلبية معزولة عن بعضها البعض فى مجتمع مفتت.
ولم يعد ثمة خيار ثالث بين إصلاح سريع وانفجار لا يستطيع أحد توقع مداه، مثلما لم يكن ممكناً التنبؤ بما حدث الثلاثاء الماضى. هذه هى رسالة ٢٥/١ إلى من يعنيه الأمر.
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة متضايقة
المفضلات