وقفة مع الهجرة النبوية الشريفة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أجمعين... وبعد،
: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ (الأنفال).
أيها الاخوة،
كانت الهجرة النبوية الحدث الأبرز والمنعطف الأهم في تاريخ الدعوة الإسلامية، ومع أنها لم تكن في هذا الشهر الهجري- شهر محرم- بل كانت في 12 ربيع الأول من السنة القمرية، فقد بدأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- التأريخ الإسلامي بها بعد مشاورته لكبار الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم قد احتاروا من أين يبدؤون التاريخ للإسلام وللمسلمين، فلم يجدوا حدثا أبرز ولا أجَلً ولا أعظم من حدث الهجرة النبوية الشريفة، فاتفقوا على أن تكون نقطة الإنطلاق لأعظم حضارة وأسمى رسالة عرفتها البشرية،هي الهجرة النبوية، ولما كانت في الشهر الثالث من السنة القمرية، فقد جعلوها في شهر محرم في بداية كل عام قمري.
ترى لماذا استحقت الهجرة النبوية الشريفة أن تتقدم على كل الأحداث التي سبقتها؟ فقد تقدمت على ميلاد الرسول ، رغم أنه اهتز لميلاده عرش قيصر الروم، وإيوان كسرى الفرس! كذلك لم يبدؤوا تاريخ الإسلام بحادثة الإسراء والمعراج، رغم أنها كانت معجزة من معجزات السماء، رأى فيها الرسول كثيرا من آيات ربه الكبرى، وكذلك لم يبدؤوا تاريخ الإسلام بمعركة بدر الكبرى، رغم أنها أول معركة فلصلة بين الإسلام والكفر، إنتصر فيها جند الحق على جند الباطل، وسماها الله سبحانه وتعالى بيوم الفرقان، كذلك لم يبدؤوا تاريخ الإسلام بهزيمة الأحزاب في غزوة الخندق( الأحزاب)، عندما اجتمعت قريش وبعض القبائل العربية، فقد حاصرت هذه القبائل المدينة المنورة مدة شهر كامل، وغدر وخيانة يهود بني قريظة، ثم اندحرت قريش خائبة تجر أذيال الهزيمة إلى مكة، وكفى الله المؤمنين القتال.
إذا ما السر في الهجرة النبوية التي قفزت إلى القمة وتربعت على عرش الأحداث، وصارت ذكرى عظيمة ومفصلا تاريخيا يستحق منا الوقوف عليه، وأخذ العظة والعبرة منه، وليس لمجرد الإحتفال به وتعطيل الدوائر والمؤسسات، فتمر هذه الذكرى خالية من أي معنى، ومفرغة من أي مضمون كما هو حاصل في هذه الأيام.
نعم عباد الله،
إن الهجرة النبوية الشريفة تعني بكل صراحة ووضوح وثقة قيام دولة الإسلام الأولى، فمنذ أن حطت أقدام المصطفى الشريفتين أرض يثرب- المدينة المنورة- أعلن وأقام الدولة الإسلامية، ووضع لها دستورا من الكتاب والسنة، بين فيه علاقة المسلمين مع بعضهم ومع غيرهم، وقبل ذلك مع خالقهم جل شأنه.
وظل هذا الدستور يعمل به المسلمون مدة ثلاثة عشر قرنا حتى هدمت الدولة الإسلامية ، وتم إلغاء الخلافة الإسلامية على يد صنيعة الإنجليز العميل الخائن اليهودي مصطفى كمال في الثالث من آذار سنة 1924م.
لكن هذه الهجرة النبوية الشريفة كانت ثمرة جهد متواصل وعمل دؤوب ولم تأتي للرسول على طبق من ذهب، وهذا ما يهمنا في هذا المقام أيها الإخوة الكرام، فقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ أن النبي ، كان قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل العربية في جميع أنحاء الجزيرة العربية حتى حفيت قدماه، طالبا منها الإيمان به وبرسالته ونصرته وحمايته ليبلغ عن ربه رسالته، فقد ذكرت كتب التاريخ والسيرة، أن الرسول قد طلب النصرة من ست عشرة قبيلة، بدأها بقبيلة ثقيف في الطائف، فردوه ردا قبيحا كما تعلمون أيها الإخوة، وأطلقوا عليه صبيانهم يرشقونه بالحجارة، ومع ذلك لم ييأس بل توجه إلى قبيلة تدعى( بني كلب)، وعرض على رجالها الإيمان به وبرسالته ونصرته وحمايته فلم يقبلوا، ثم توجه إلى ( بني حنيفة) في منازلهم، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن من العرب أقبح عليه ردا منهم، ثم توجه إلى( كندة) في اليمامة، فردوه ردا قبيحا كذلك، ثم عرض نفسه على( بني عامر بن صعصعة)، فدعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس : والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم وأظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : ألأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فقال له بحيرة: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان ألأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا أن ينصروه.
ومع كل هذه الردود القبيحة من القبائل، فإنه عليه الصلاة والسلام ظل يواصل سعيه في طلب النصرة، فتوجه إلى هذه المرة إلى قبيلة بعيدة على أطراف الجزيرة العربية الشرقية، على حدود الدولة الفارسية، ألا وهي قبيلة ( بني شيبان )، وكان دائما يصطحب معه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث كان رجلا معروفا بين العرب، فلما وصلوا منازل قبيلة بني شيبان بعد سفر طويل، رأى أبو بكر رجالا لهم هيبات وعلى وجوههم علامات الرجولة والشهامة والشجاعة، فالتفت إلى رسول الله وقال: يا رسول الله: ما بعد هؤلاء من عز في قومهم، فلما دخلوا على شيخهم، قال له: لعلك أخو قريش! قال: نعم. قال: وما طلبك؟ قال: إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما دونه من الأنداد، وأن تمنعوني مما تمنعون من أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، وفي هذه الأثناء التفت أبو بكر الصديق إلى رجل منهم وقال: كيف المنعة فيكم؟ قال: إنا لنزيد على الألف،ولا تغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال: إنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والحرب سجال مرة لنا ومرة علينا. ثم تركوا الرأي الأخير للمثنى بن حارثة الشيباني وكان كبيرهم، فقال لرسول الله ،إنا لنشهد أنك لرسول الله، وإنا لناصروك على العرب دون العجم، حيث إن بيننا وبينهم مواثيق وعهودا لا نستطيع الفكاك منها. فقال الرسول لهم: ما أسأتم إذ أفصحتم بالصدق، غير إن هذا الدين لا يقوم به إلا من أحاط به من جميع جوانبه، ثم قام من عندهم وانصرف.
فيقول إبن هشام( ولما أراد الله تعالى نصرة دينه وإعزاز نبيه، ساقه إلى هذا الحي الطيب من الأوس والخزرج، وطلب منهم أن يؤمنوا بما جاء به، وأن يمنعونه ويحمونه كما يحمون نساءهم وأبناءهم، وأن ينصروه نصرة كاملة على كل من عاداه. فقالوا: وما لنا يا رسول إن أعطيناك ما أردت؟ قال: لكم الجنة. قالوا: قد رضينا وأعطوه على ذلك العهود والمواثيق، وبايعوه بيعة تسمى بيعة الحرب، علما أن هناك بيعة سبقتها وهي بيعة على الإسلام وسميت بيعة العقبة الأولى ( بيعة النساء)، ثم هاجر رسول الله إليهم بعد بيعة الحرب هذه وأقام
دولة الإسلام الأولى.
أيها الإخوة،
هذه هي المعاني التي يجب أن ندركها من الهجرة النبوية الشريفة، وهذه هي الطريق التي يجب أن نسلكها لإقامة دولة الإسلام من جديد، فأصحاب القوة والمنعة من المسلمين موجودون بين ظهرانينا، وفي طول البلاد الإسلامية وعرضها، فعلينا أن نحث الخطى في البحث عنهم والإتصال بهم مرات ومرات كما فعل رسول الله ، حتى يأذن الله سبحانه وتعالى بالنصر والتمكين والإستخلاف.
ومخطئ من يقول إننا نبحث عن سراب عندما نبحث عن أصحاب القوة والمنعة، إذ كيف يجد الأعداء من بين ظهرانينا مَنْ يكون في صفهم، ويعمل معهم يدا بيد على محاربة المسلمين، ولا نجد نحن أبناء خير أمة أخرجت للناس من بيننا مَنْ يقف في صف الإسلام والمسلمين ويحرر البلاد والعباد من شرور الأعداء والمتآمرين؟ معنى ذلك أن العجز فينا والعيب منا:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
وليسأل كل منا نفسه: ماذا فعلت لهذا الدين حتى يقوم في حياتنا؟
اللهم آتنا من لدنك رحمة وهيأ لنا من امرنا رشدا، واهدنا إلى سواء الصراط.
: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ( النور).
رد مع اقتباس
المفضلات