هل يُقيّض لنظرية علمية حول وظائف الدماغ البشري والتحكّم بها، أن تتحوّل، في اللحظة الملائمة، نظرية محكمة في الممارسة السياسية؟ الأرجح نعم، وفقاً لدراسة حديثة تتجاذب أصداءها أوساطٌ أكاديمية مرموقة ومختبرات علمية ونخب سياسية متحفزة حول العالم. الكتاب صدر أخيراً عن منشورات «بايزيك بوكس» حزيران 2013، بعنوان: «الدماغ المغسول: الإعجاب المغري بلا عقلانية علم الأعصاب»، لكل من الطبيبة النفسية سالي سايتل والمتخصّص في علم النفس سكوت ليلنفيلد. وكلاهما من المرجعيات ذات السمعة العالمية في حقليهما.
يستعيد المؤلفان في هذه الدراسة الضخمة مفاهيم تقليدية حول أسبقية العلم على الفكر وانقياد الثاني للأول على نحو من حتمية جبرية مزعومة، على الأرجح.
الدماغ البشري يشكل، في حد ذاته، خارطة تشتمل على حقائق الشخصية الإنسانية كاملة من دون استثناء. بدا أن أصحاب هذه النظرية قد أوغلوا عميقاً في فضائها الداخلي، فنسبوا الى الدماغ كل ما تنطوي عليه شخصية الفرد من ملامح وصفات وتصرّفات واحتمالات. ويحذّر واضعا هذه الدراسة، في استقرائهما للميكانيزمات الداخلية لهذه النظرية، من أن يُصار الى توظيف نتائجها المزعومة في إعادة تشكيل نمط من النظام السياسي يستند الى ما جاء فيها من حيثيات خطيرة. بحيث يتحوّل الفرد كائناً ذا هوية مغايرة منغلقة على ما يُزعم أنه قوانين علمية كامنة في البنية التحتية في نسيجه البيولوجي. ومع ذلك قد ينحرف توظيف هذه النظرية المسبّقة بطبيعة قوانينها المتكونة دفعة واحدة، على نحو يفترض به أن يُستخلص من هذه القوانين دستور جديد للمجتمعات في الزمن المقبل. فبدل أن يخضع الفرد بإرادته لسلطة القانون المتبدّل يصطدم بسلطة قاهرة مستجدة مقتبسة بكليتها من الكيفية التي يعمل بها الدماغ.
ليس في هذه الدراسة المعمّقة ما يبعث على البهجة والسرور لدى زمرة واسعة في العالم من العلماء والأطباء المعنيين بدراسة الدماغ البشري. ولعلّ هؤلاء الذين يتصدّرون النخبة الغامضة التي تتحرك بصمت في دائرة مشرعة على الانكماش قد هالتها الاستنتاجات المحبطة للآمال التي توصل إليها واضعا هذا الكتاب. بدأت الخطوط العريضة لهذه الرحلة المشوّقة الى مجاهل الدماغ ترشح تباعاً مطلع التسعينات من القرن الماضي. تزامن ذلك مع «الانفجار» الطبي الكبير الذي أرسى مرتكزاته الأولى اختراع تقنية التصوير بأسلوب الرنين المغناطيسي. وقد ثبت بالدليل العلمي القاطع ان هذه التكنولوجيا المتطورة باتت تنتقص من قدرات التصوير «الشعاعي» الذي كان وحده سائداً قبل تلك الأثناء. بدا هذا الأخير عاجزاً، أمام تقنية الرنين المغناطيسي، في النفاذ الى الأجزاء الحيوية الدقيقة من جسد الإنسان. وتحوّلت الصورة الشعاعية، في هذا الإطار، انعكاساً أخرس لما يطرأ على خارطة الجسد في أبعاده الداخلية العميقة. وبالمثل، تحوّل الرنين المغناطيسي اكتشافاً حياً نابضاً ومشرقاً لمنظومة من الاحتمالات التي تتكوّن على مهل في الفضاء الشاسع في متاهة الجسد البشري، ومن بينها وفي أولوياتها المستهدفة: الدماغ على نحو جوهري.
دحض النظرية
هذا تبسيط رتيب ومبالغ فيه لتداعيات هذه النظرية في ما لو انقلبت الدنيا رأساً على عقب وتحققت، على المستوى السياسي في يوم لن يبصر النور. ومع ذلك، لا يتساهل المؤلفان في محاولتهما لدحض هذه النظرية لعلمهما، على الأرجح، باستعدادات مكثفة تجري في الخفاء، منذ تسعينات القرن الماضي، في مختبرات يشرف عليها فريق «متزمّت» من العلماء وأطباء النفس والأمراض العقلية بعيداً عن الأنظار. ولعلّ الخشية الكبرى التي يجاهر بها علناً صاحبا هذه الدراسة، تكمن في توقعهما مفاجأة غير سارة من الوزن الثقيل، والأغلب خبيثة، شريرة، يتحيّن القيّمون عليها الفرصة المناسبة لإطلاقها عندما تدعو الحاجة الى ذلك. قد تبدو هذه النظرية، وهي أشبه بالخيال العلمي، في ما تنطوي عليه من تداعيات في السياسة والاقتصاد والاجتماع، من قبيل الاحتياطي العلمي الذي يدّخره الملمّون بها والمتشبثون، كما يزعمون، بأحقيتها وصوابيتها وصدقيتها. دليلهم على ذلك، وفقاً لما يورده المؤلفان في الدراسة، أنها النظرية الأكثر تماسكاً من بين مثيلاتها، والأكثر جاهزية للتطبيق الفوري، والأكثر حضوراً في الأوساط الأكاديمية المعقّدة. يضاف الى ذلك، وفقاً للدراسة أيضاً، أنها تحظى بدعم راديكالي من كبريات مصانع الأدوية والعقاقير في الولايات المتحدة وأوروبا. كما أنها تداعب مخيلة نخب سياسية واسعة لأنها تشرّع لهم جنّة السلطة من أوسع أبوابها.
بين «معسكرين»
تستعيد هذه الدراسة «الدماغ المغسول» نقاشاً كلاسيكياً، على الأرجح، تفجرت وقائعه منتصف القرن التاسع عشر حول احقية العلم بفروعه المختلفة في بسط هيمنته على السلطة السياسية الاجتماعية، وأحقية العلوم الانسانية بتصنيفاتها المتكاثرة في مقاربة النموذج السياسي الاجتماعي الافضل. بدا هذا التجاذب بين المعسكرين مشرعا على رؤية ثقافية متحولة بامتياز، في تلك الاثناء، وبدا العلم في تلك السنوات المشرقة متواضعاً في انجازاته التكنولوجية، يشق طريقه بهدوء نحو فضاء الحداثة. كانت تنقصه الانجازات الكبرى الحاسمة ليخوض هذا النقاش من موقع الاقوى. لم يعد الأمر على هذا النحو اليوم. غداً العلم، بتقنياته الفائقة في اللحظة الراهنة متوثباً للمشاركة الفاعلة في السلطة السياسية، أو أخذها عنوة إذا ما دعت الحاجة الى ذلك. من هنا، تنطوي الدراسة المشار اليها على ارهاصات خطيرة من هذا النوع، تزداد خطورة وراهنية لأنها تتعلق مباشرة بالكيفية البيولوجية التي يتحرك فيها الدماغ بصمت لا يدعو الى الاطمئنان.
جهاد الترك-
المفضلات