في صيف بعيد، توجهت نحو خزانة فساتينها، قلّبت أحوالها، في خيوط كل فستان منها قصة، وفي ألوانها ذكرى، ولأنه الحب الذي تفجر قمحاً وسهولاً وسنابل، فقد أخرجتها جميعها، وبسرعة دبّت الحياة في عروق تلك الفساتين، وصارت ترتدي واحداً منها في كل لقاء جديد يجمعهما معاً حول فنجان قهوة أو فيلم سينما أو دعوة غداء في مطعم جميل وأنيق وحميم.
الفساتين في زمن أول الحب تزينت بمعانٍ جديدة، وتفجرت ألوانها وهجاً جديداً. وهو لم ينس في كل لقاء إعلان إعجابه بفستان ذلك اللقاء، والإسهاب في سرد مزايا تلك الفساتين التي تحررت بعد سنوات طويلة من عقدة الإهمال.
الأخضر الفاتح يفتنه، والأزرق الذي بلون البحر يفقده وقاره، والأحمر المجنون يشعل نيران قلبه، والأبيض الوديع يأسر عينيه، والمخضب بلون كل الورود والأزاهير يبعث في روحه وهج الشباب المضمّخ بالندى والخيزران، والأسود الراقي يرسم له طريق الشموخ، والمنسوج بصفرة الشمس وبريق الذهب وخير المواسم يجعله أكثر غيرة وتقرباً منها، والأزرق الغامق يزيدها غموضاً، والكحليّ يشتت تفكيره، والبنفسجي يأخذه برحلة خرافية فوق غيوم التجلي، والزهري يعيده طفلاً مشاكساً، والرمادي يحيله إنساناً أكثر تأملاً وقدرة على فهم تقلّب الفصول، والليلكي يدفعه للركض في بريّة خالية من الرتابة، والعنّابي يذهب بعقله ويدوّخ صحوه، والبرتقالي يهب عليه مثل أغنية قادمة من مدن السواحل وزنود البحارة وشطآن المراكب، والسكريّ يتقدم نحوه مثل جرة مليئة بالعسل، والأخضر الغامق يقوده للانحناء.
في ذلك الصيف البعيد هكذا كان الحال، وهكذا ظلّ صيفاً آخر وخريفاً وشتاء وربما ربيعاً أخيراً، حتى وصلت القمة منتهاها، وبلغ التجلي أقاصيه الممكنة، وكان لسان حالها في ذلك الزمن الجميل هو أغنية نجاة الصغيرة «حتى فساتيني التي أهملتها فرحت به رقصت على قدميه«.
وتدريجياً بدأت تحس بذبول عواطفه، وبرود نار الشوق داخل ضلوعه، وصار ينسى المواعيد والمواقيت، ولم تعد تستشعر طيبته المعهودة، وحنوّه الاستثنائي، وتحوّل دفؤه إلى تجهم بارد، وعاد لسان حالها إلى مطلع قصيدة نزار قباني «أيظن أني لعبة بيديه؟!«، حتى وصلت الأمور بينهما إلى جواب السؤال «أنا لا أفكر بالرجوع إليه«.
وفي ليلة تاه عنها قمر البدايات، لملمتْ فساتينها، وأعادتها إلى خزانة النسيان والإهمال.
لم يخبره أحد أنّ طيفه ظلّ يرسم ملامح صباحاتها زمناً طويلاً، وأنها بقيت تحتفظ بوهج الحبيب،في شكل ظهورها للناس، وفي طلّة دنياها وابتسامتها، وأن لمحة الحزن الشفيفة التي صارت تكبر يوماً إثر آخر، هي وحدها التي كشفت مدى فجيعتها به، فجيعة انتصرت عليها ومسحتْ تداعياتها بما تبقى لديها من كبرياء!!
د. سلوى عمارين
مما راق لي ونقلته ..
المفضلات