كان رجلاً مثقفاً ، يحمل شهادة جامعية بدرجة جيدة ، يعمل معلماً في وزارة التربية براتب بسيط لا يكاد يسد رمقه و رمق أسرته المؤلفة من زوجة و ثلاثة أطفال . يعيش في بيت والده الذي يضم بين جوانبه أربع عائلات . لا يملك من دنياه شيئاً إلا أثاث غرفته البسيط .
راودته فكرة السفر مرات و مرات ، وفي كل مرة يقول لنفسه لماذا لا أبقى في بلدي الزاخر بالخيرات ، أؤمن ضروريات عائلتي الملحة المتزايدة . عمل كل أنواع العمل الذي يقدر عليه ، لا يعود إلى بيته إلا في ساعة متأخرة فيرى عصافيره الجميلة و قد نامت في أعشاشها .
عبثاً ، يخرج من جيوبه المتهالكة كل ما يجنيه ، لا يستطيع إشباع نهم حاجاته اليومية الملحة .
" آه ، آه ، آه منك يا وطن . "
" لماذا تبخل على أبنائك و تضن عليهم بعطفك و حنانك و خيراتك ؟ "
" لماذا تتخلى عن أحبائك و تقذف بهم إلى المجهول ؟ "
و هكذا أضمر السفر مجبراً مثله مثل معظم رفاقه و سائر الشباب الذين لفظهم وطنهم و تخلى عنهم في وقت هو بأمس الحاجة إلى سواعدهم البناءة و خبراتهم الواسعة .
و في ليلة عاد من عمله متعباً كعادته و في جعبته قرار السفر . و بعد تردد قرر أن يعرض الأمر على زوجته سعاد فقال لها :
" إلى متى سنبقى على هذه الحال السيئة ؟ "
نظرت إليه بعين الحبيبة الحانية و قالت :
" هون عليك يا حبيبي ما بعد الضيق إلا الفرج . "
" حسناً ، و لكن إلى متى ؟ أولادنا يكبرون و نحن بحاجة إلى مسكن خاص بنا وحدنا. "
" طيب ، و ما الحل برأيك ؟ "
" أن أسافر . "
صمتت فترة من الزمن حتى خيل له أن لسانها قد انعقد عن الكلام .
و بانفعال شديد قالت :
" تسافر ؟ "… " تسافر ؟ " … " إلى أين ؟ "
كانت دموعها تنهمر بصمت .
لم تحتمل فكرة ابتعاده عنها مهما كانت المسافة . شعرت أنها ستفقده و كيف لا و هو أعز ما تملك .
رمت بجسدها بين أحضانه و ضمته بكلتا يديها و كأنه سيتركها في هذه اللحظة .
و بصوت توشح بمرارة الألم أردفت قائلةً :
" لا ، لا ، لا تتركني يا حبيبي . "
" أرجوك ، أنا لا أستطيع العيش بدونك و لو للحظة واحدة . "
" أنت أبي و أمي و أخي و أختي . أنت كل شيء في حياتي . "
أصابت جسد فارس قشعريرة لم يعهدها من قبل و بدأ يرتجف من أعماقه .
حبه لزوجته لا يقل عن حبها له . شعر أنه سيرمي بها إلى المجهول عندما نطق بكلمة السفر .
و لكن ماذا يفعل ؟ أيغلب العاطفة على العقل أم …… ؟
قال لها و هو يطبع قبلات الحنان على وجنتيها الورديتين :
" حبيبتي ، لا بد من ذلك و إلا سنبقى إلى الأبد بلا مأوى . "
أأبقى على حالتي التي أنا عليها أم أسافر ؟
أأغادر هذا الكوخ ، الصغير بحجمه ، العظيم بألفته ، الكبير بعالمه المليء بالحب و الحنان ، إلى عالم غريب عن ماضيّ و حاضري أم ……؟
شعر كمن يرمي بنفسه في صحراء قاحلة مترامية الأطراف كل أحلام الإنسان فيها سراب.
" هوني عليك يا مهجة قلبي و بلسم روحي … لا بد مما ليس منه بد . "
و بصوت حزين قالت :
" و تتركني بين براثن الوحدة و مخالب الوحشة . "
" ستكونين معي دائماً في أعماقي ، كظلي الذي لا يفارقني أبدا . ستكونين معي في حلي و ترحالي ، و سهري و نومي . "
لم يدر في خلدها أن ساعة الموت البطيء قد حانت ، تحاملت على نفسها لتشعره بالاطمئنان محاولة أن تغض الطرف عن الصراع العنيف بين الرغبة في بقائه و الحاجة إلى سفره .
لم يغمض لها جفن ليلة سفره أبداً و بقيت تتأمله علها تروي ظمأ عينيها من وجهه البدري .
كانت تتمزق في داخلها و كم أرادت أن تثنيه عن خطوته هذه و لكن الحاجة الملحة كانت لها بالمرصاد .
أراد أن يشعرها أنه غارق في نومه . كان قلبه في يقظة تامة يئن ألماً . لم يكن يتصور يوماً أنه سيفارق جنته هذه إلى دنيا لم يألفها من قبل ، و أرض لا تعرف من طفولته و ذكرياته شيئاً .
دقت ساعة الصفر و أزف وقت الرحيل .
نظر إلى وروده بحرقة و ألم . ضمهم إليه بكل جوانحه . لم يستطع الحفاظ على رباطة جأشه فطفق يشهق باكياً حسرةً على فراقهم . أخذ يقبلهم بشدة حتى أجهشوا بالبكاء.
لم يكن بكاؤهم عن فهم لماهية السفر و لكن حرارة مشاعره سرت في أجسادهم الغضة الصغيرة .
اندفعت زوجته نحوه و دموعها تتلألأ في عينيها ، تسبح على وجنتيها كالثكلى فقدت رضيعها .
قال لها و قلبه يعتصر ألماً :
" حسناً يا ريحانة الفؤاد ، أشهر معدودة و أعود إليكم إن شاء الله . "
" أشهر ؟ بل قل سنين طويلة ، طويلة جداً . "
" انتبه لنفسك ، كن واثقاً أننا معك بكل جوانحنا . ضع الله نصب عينيك في كل تحركاتك و سكناتك ."
" سنبقى في انتظارك على أحر من الجمر . لا تقلق علينا أبداً ، كن مطمئناً حتى تعود إلى عشك سالماً غانماً بإذن الله . "
وقعت كلماتها على قلبه برداً و سلاماً . أدخلت في نفسه طمأنينةً ممزوجة بالشوق و الحنين.
و هكذا رحل فارس و سافر ………… سافر إلى غربته
المفضلات