اجتمعتا كعادتهما على طاولة العشاء في المطبخ، الأم وابنتها، وحضر بطبيعة الحال ذلك الشيء المقلق الكتوم، الذي يفرض وجوده لوقت قد يطول أو يقصر كلما اجتمعتا. كانت الأم قد تزيّنت على نحو غير مألوف وكأنها على موعد، فقد ارتدت الثوب الأسود الموشح بخطوط متعددة الألوان متعرجة، تشبه ومضات ضوء في ليل حالك السواد، وتدلت من عنقها تلك القلادة الذهبية التي لم ترَ النور منذ سنوات طوال، وحلت شعر رأسها المعقود على الدوام، فانسدل على كتفيها المكشوفتين. أما الابنة المندهشة بهذا التحوّل الطارئ في مظهر أمها، فلم تزد عن المألوف، وهي في الحقيقة لا تحتاج لما يجمّلها، فقد وهبتها الطبيعة تلك المسحة من الجمال الوديع والآسر في الوقت نفسه. كادت تسأل والدتها إن كانت مدعوّة لحفل، غير أن صمتها المديد جعلها لا تتعجّل السؤال، فعمدت إلى الصمت هي الأخرى.
وفيما كانت تجمع المعكرونة بشوكة الطعام لتصنع لنفسها لقمة، نطقت والدتها وقالت:
- لو كان أبوكِ معنا لما مكثنا صامتتين.
رفعت الابنة رأسها وتركت اللقمة قريبة من فمها، وتفحّصت تعبير وجه أمها مستغربة ما صدر عنها، ثم قالت:
- ولكنًّ أبي مات منذ زمن طويل.
غرست الأم شوكتها في الطعام وقالت وهي تجمع المعكرونة على طرفها بأناة:
- ربما لم يمت، فليس هناك شيء مؤكد.
دفعت الابنة لقمتها إلى فمها ولاكتها على مهل ثم قالت:
- أنت أكدت لي أنه مات بعد أشهر من وصوله إلى البرازيل، أكذبتِ علي؟.
أجابت من دون انفعال:
- لم أكذب حينها، فهذا ما وردني، غير أنني سمعت في ما بعد من شكّك بتلك الرواية.
أعادت الابنة اللقمة التي كانت على وشك تناولها إلى الصحن وفتحت عينيها على وسعيهما منتظرة مزيداً من الإيضاح، ولما لم تحصل عليه قالت:
- سواء مات أو اختفى وحسْب، فنحن نعيش دون وجوده، فما حاجتنا إليه؟.
دفعت الأم اللقمة التي تجمعت على طرف شوكتها إلى فمها ولاكتها على مهل ثم قالت:
- ولكنه قد يعود إلينا، ونحن نحتاج إلى رجل. أنت في عمر الزواج وتحتاجين لوالد يعطي لحفل زواجك الاحترام الذي يستحق.
وضعت الابنة شوكتها في الصحن وبدا عليها أنها تفكر في ما طُرح، وكأنه أمر محتمل الحدوث، ثم قالت:
- لو حدث وحط علينا فجأة لارتبكت حياتي، فسيكون بنظري رجلاً غريباً.
أبعدت الأم صحنها، وأسندت مرفقيها مكانه وقالت:
- كيف ترتبك حياتك، فهو أبوكِ وأنت بحاجته.
تناولت الابنة الشوكة وغرستها في المعكرونة ثم تخلت عنها وتدافع كلامها بحدة:
- كيف سأسلك في حضرته، كيف أواري مشاعري الخاصة وانفعالاتي، كيف أفسر له إن سألني لماذا أنت متجهمة وهي حالة تدهمني دون تفسير واضح. لن يكون بوسعي أن أتخفف من ملابسي أو أرفع قدمي على المنضدة وأنا أشاهد التلفاز؟ هناك عدد لا يحصى من الحركات التي سيتعيّن عليّ الامتناع عن القيام بها. أقول لك صراحة: لو لم يكن ميتاً لتمنيت موته قبل أن يدخل عتبة بيتنا.
ضمّت الأم ذراعيها إلى صدرها ودفعت جذعها إلى الخلف، وأخذت تنظر إلى السقف ثم اعتدلت وقالت:
- ولكنه سيأتي وستكونين أول من يستقبله، أنا على ثقة من ذلك.
امتقع وجه الابنة واحتدَّ صوتها وهي تقول:
- إذن أنت على اتصال معه وتخفين الأمر علي. أوهمتني طوال الوقت أنه قُتل في حادث سير، وها أنت تعلنين أنه حي يُرزق، وقد يكون لي إخوة من أم أخرى. ألم تسألي نفسك كيف سأتقبّل فكرة أنه حيّ بعد كل هذه السنوات؟ وماذا عنك أنت؟ لقد تخلّى عنك وعني وتركك تجهدين نفسك بالعمل لتأمين معيشتنا، ولإرسالي إلى المدرسة ثم الجامعة. لم تكوني بحاجته طوال الوقت ولن تكوني الآن. أنتِ لم تعيشي حياتك، وآن لك أن تعيشيها الآن. أمّي لا تركني لهذا الرأي، فهو لن يأتي إن صحّ أنه حيّ.
نهضت الأم وغادرت المطبخ، ثم عادت بعد لحظات وجلست، ثم قالت:
- لقد أدرك خطأه أخيراً. وصلتني رسالة منه يعتذر فيها عن إهمال أمري وأمرك كل هذه السنين ويعلن ندمه، ويقول إن أقصى ما يتمناه أن يكفّر عن ذنوبه وأن يعود ليمضي بقية حياته معنا. الرسالة طويلة وتفيض بالحنان، ولكنني أوجزتها.
ضربت الابنة يدها بقوة على الطاولة، فسقط الكأس وانسكب الماء وسال حتى بلغ ثوبها وساقيها، ولم تفعل شيئاً إزاء هذه الحال وإنما تابعت:
- أمّي أرجو ألاّ تنخدعي بمعسول الكلام، فربما كتبها شخص آخر لغرض في نفسه، أو كتبها هو لأن حالته تردّت وصار في وضع يحتاج معه لمن يعينه.
انفرج ثغر الأم عن ابتسامة للمرة الأولى منذ أن جلستا لتناول الطعام، ثم قالت:
- وإن يكن بحاجة لمن يعينه. نحن بحاجة لرجل في البيت كما قلت لك، وسأرحب بوجوده حتى لو كان كسيحاً.
ذرفت الابنة دمعة ولم تقل شيئاً، فيما تابعت الأم:
- سيأتي في غضون شهر إن وافقنا على حضوره.
انحدرت دمعتان وسالتا على وجنتي الابنة، فيما تابعت الأم:
- ستكون له غرفته الخاصة، فأنا لا أريد أن يشاركني غرفة نومي بعد كل هذا الغياب، فأنا لي كبريائي.
تناولت الابنة منديلاً ورقياً ومسحت دمعها ثم قالت:
- أمي.. أرني الرسالة. أريد قراءتها.
انفرج ثغر الأم مرة ثانية عن ابتسامة وقالت:
- لقد أطلعتك على مضمونها، وهذا يكفي.
مدّت الابنة ذراعها باتجاهها وقالت:
- أمّي، من حقي أن أطلع عليها، فالأمر يخصّني كما يخصّك.
نهضت الأم وغادرت المطبخ وعادت تحمل رسالة من دون غلاف، وضعتها أمامها وانسحبت في الحال. قرأت الابنة الرسالة، وأجهشت في البكاء. سمعت الأم صوت بكائها، فهرعت إليها وأحاطتها بذراعها وقالت:
- حبيبتي لماذا تبكين؟.
رفعت رأسها وقالت:
- أمي هذه الرسالة بخط يدك، أليس كذلك، فخط يدك لا يخفى علي.
المفضلات