المطر فضلٌ من الله ورحمة
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِي أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ"؟! قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ: فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ" (رواه البخاري).
إن نزول المطر من السحاب لا يزال قضية غير مفهومة بتفاصيلها من الوجهة العلمية, وكلّ ما يعرفه العلماء أن الأرض هي أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تُقدّر كمّيّته بحوالي (1360 – 1385) مليون مليون كيلومتر مكعب, أغلبه في البحار والمحيطات (97.2 %), وأقله ماء عذب (2.8%)، وأغلب هذا الماء العذب (2.052% إلى 2.15%) محبوس على هيئة سمك هائل من الجليد فوق قطبي الأرض, وفي قمم الجبال, والباقي مختزن في صخور القشرة الأرضية (0.27%)، وفي بحيرات الماء العذب (0.33%)، وعلى هيئة رطوبة في تربة الأرض (0.18%)، وعلى هيئة رطوبة كذلك في الغلاف الغازي للأرض (0.36%)، وأقل ذلك كله هي المياه الجارية في الأنهار والجداول (0.0047%).
وهذا الماء الأرضي أخرجه ربنا تبارك وتعالى كلّه من باطن الأرض عن طريق ثورة البراكين, ووزّعه بتقدير حكيم, وأداره في دورة منضبطة بين الأرض وغلافها الغازي (السماء). ولولا هذه الدورة المحكمة لفسد ماء الأرض لوجود بلايين البلايين من الكائنات الحية التي تحيا وتموت في مختلف الأوساط المائية, والتي كان من الممكن أن تحول هذا الماء إلى ماء عفن لولا دورته حول الأرض.
وقد اقتضت مشيئة الله الخالق جلّ وعلا أن يسكن في الأرض هذا القدر المحدّد من الماء, وأن يوزعه بدقّة بالغة بين البحار والمحيطات, والأنهار والبحيرات, وأن يختزن جزءاً منه في صخور القشرة الأرضية, أو يحبسه على هيئة المجالد في قمم الجبال وفوق القطبين, أو ينشره برقة على هيئة درجة من الرطوبة في كلٍّ من الجو وتربة الأرض, وهذا كلّه بالقَدْر المنضبط الكافي لمتطلبات الحياة الأرضية, وللتوازن الحراري على سطح الأرض من مكان إلى آخر ومن فصل مناخي إلى آخر, وهذا القدر الموزون من الماء لو زاد قليلاً لغمر الأرض وغطى سطحها بالكامل, ولو قلّ قليلاً لقصر دون متطلبات الحياة على سطحها.
وحرارة الشمس تبخّر ماء الأرض من أسطح البحار والمحيطات, والأنهار والبحيرات, والبرك والمستنقعات, ومن أسطح تجمعات الجليد, وحتى من المياه المختزنة تحت سطح الأرض, ومن تَنَفُّس كلٍّ من الإنسان والحيوان, ونتح النباتات, وغير ذلك من مختلف مصادر المياه؛ فيرتفع بخار الماء إلى الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض (نطاق المناخ) وتتناقص فيه درجات الحرارة مع الارتفاع ويقل الضغط مما يساعد على تكثف بخار الماء الصاعد من الأرض على نوى دقيقة من الغبار العالق بالهواء تعرف باسم نوى التكثف, مما يعين على عودة ماء الأرض إليها على هيئة مطر أو برَد أو ثلج أو ضباب أو ندى .
ويتبخر من ماء الأرض 380 ألف كيلومتر مكعب في كل سنة، أغلبها (320 ألف كيلومتر مكعب) من أسطح البحار والمحيطات, وأقلها (60 ألف كيلومتر مكعب) من أسطح اليابسة. وتعود هذه الكمية إلى الأرض بمعدلات مختلفة (284 ألف كيلومتر مكعب على البحار والمحيطات, 96 ألف كيلومتر مكعب على اليابسة), ويفيض الفارق في الحالتين (36 ألف كيلومتر مكعب) من اليابسة إلى البحار والمحيطات.
وأُكرّر القول بأن نزول المطر من السحاب لا تزال عملية غير مفهومة علميّاً بتفاصيلها الدقيقة؛ وذلك لأنها تتم بعدد من العمليات غير المشاهدة بطريقة مباشرة؛ ولذلك وُضعت لها أعداد من الفروض والنظريات منها: تأثير حركة الرياح الأرضية, والغبار الذي تثيره من فوق سطح الأرض, ومنها الشحنات الكهربية في السحابة الواحدة, أو بين السحب المنفصلة عند التقائها وتصادمها مع بعضها البعض, ومنها تأثير الرياح الشمسية على أغلفة الأرض وأجوائها المختلفة. وفوق ذلك وقبله وبعده إرادة الخالق العظيم, كما هو واضح من توجيه الحديث النبوي الشريف الذي نحن بصدده.
ومن المعروف أن نسبة الماء في السحب ضئيلة جدّاً؛ إذ لا تتعدى (2 %) من الماء الموجود في الغلاف الجوي للأرض الذي لا تكاد نسبته تتعدى (0.36%) من مجموع ماء الأرض, وتقدّر كمية المياه في الغلاف الغازي للأرض بحوالي (15) ألف مليون كيلومتر مكعب.
ويوجد الماء في نطاق المناخ للأرض على هيئة قطرات صغيرة جدّاً (أكبر قليلاً من واحد ميكروت) وتلتصق تلك القطرات المائية بالهواء للزوجتها, وشدّة توتّرها السطحي, وذلك في السحب العادية التي تحملها الرياح دون أن تسقط مطراً على الأرض إلا بعد تلقيحها بامتزاج سحابتين إحداهما ساخنة, والأخرى باردة, أو تحمل إحداهما شحنة كهربية موجبة والأخرى سالبة, أو بواسطة عدد من الجسيمات الصلبة الدقيقة للغبار الذي تثيره الرياح من فوق سطح الأرض ملقّحة بها السحب؛ فتعين على تكثف بخار الماء فيها وهطوله مطراً بإذن الله, وحينما يشاء. والمطر عادة ينزل بقطرات دقيقة, ولكنه قد ينزل أحياناً بقطرات كبيرة (يزيد قطرها في بعض الحالات على 4 – 8 ملليمتر). وتنتج هذه القطرات الكبيرة من تكثف بخار الماء على نوى من الغبار كبيرة نسبيّاً تنمو بالتدريج حتى تصل إلى تلك الأحجام بتوالي تكثف بخار الماء عليها.
وتوفر هذه الشروط مجتمعة أو منفردة يتطلّب تقديراً مسبقاً, ولا يمكن أن يتم بعشوائية أو صدفة, ويتضح من ذلك أن تكوّن المطر هو سرّ من أسرار الكون لم يتمكن الإنسان من فهمه بعدُ فهماً كاملاً, ولكن يد القدرة الإلهية واضحة فيه وضوح الشمس, ويتضح ذلك بشكل أكثر إعجازاً في توزيع المطر على سطح الأرض بإرادة الخالق العظيم. ومن هنا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نحن بصدده, وكان التفصيل القرآني الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى:
1 – (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 57).
2 – (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) (الحجر: 22).
3 – (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 21- 22).
4 – (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام: 99).
5 – (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) (طه: 53).
6 – (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (المؤمنون: 18).
7 – (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً) (الفرقان: 48).
وهذه الآيات الكريمة وغيرها من آي القرآن العظيم تنسب الفعل كله لله تعالى, ومن هنا جاء نص حديث رسول الله الذي نحن بصدده داعماً نبوته ورسالته, وشاهداً على أنه كما وصف القرآن الكريم: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) (النجم: 3-4).
منقول :- مجلة الفرقان
أ.د. زغلول النجار / رائد الاعجاز العلمي في القرأن الكريم
المفضلات