مع نهاية الشهر القادم يكمل الأميركان انسحابهم من العراق بعد تسعة أعوامٍ أهلك فيها المحتلون الحرث والنسل، وقد تجري مياهٌ كثيرة تحت جسور الرافدين قبل أن تنجلي الصورة ويظهر الحجم الحقيقي «لبركات الغزو الأميركي»،ولربما تكون المعطيات المتوفرة حتى الآن مجرد غيضٍ من فيض، فالمخفي أشنع وأفظعُ من ذلك بكثير،المخفي يعلمه المحتلون ويعلمه معهم من عادوا على ظهور دباباتهم ليمتعوا أنظارهم بالمشهد الدامي وكأنّه مجردُ فيلم من أفلام الخيال العلمي، مشهد تشرق فيه شمس العراق كل صباحٍ على مليون أرملة وأربعة ملايين يتيم، أي ما يعادل سدس سكان العراق.
مع نهاية هذا العام سيتسنى للجنود الأميركيين العائدين من الحرب مشاركة عائلاتهم احتفالاتهم بعيد رأس السنة الجديدة، باستثناء ما يزيد على أربعة آلاف وأربعمئة عائلة سبق وأن عاد أبناؤها ملفوفين بالعلم الأميركي،علم الأمة العظيمة الذي خلَفه الآباء الأوائل ليكون وديعة شرفٍ ومجدٍ وحريةٍ دفعوا ثمنها بدمائهم من أجل استقلال أميركا وعظمتها حتى جاء زمانٌ فرّطت فيه الإداراتُ المنحازة بوديعة الأجداد،وراحت تخوض معاركها نيابة عن الآخرين من جهة، وطمعاً بثروات الشعوب من جهةٍ أخرى، حتى لو كان ثمن ذلك التضحية بالآلاف المؤلفة من أبنائها.، وما يقارب التريليون من الدولارات، بخّرتها حرارة الدم النازف من جسوم العراقيين.
سيرحل الأميركان غداًعن العراق، ومن السابق لأوانه أن نقول لهم (كأنك يا أبو زيد ما غزيت )قبل أن نستعرض أهداف الحرب الحقيقية وهي النفط، والسلاح،وأمن إسرائيل، ونبدأ بالهدف الأخير وهو الأهم بالنسبة للإدارة الأميركية، وبهذا الشأن نستطيع القول :أنّ أميركا أنجزت عملاً نوعياً كبيراً بتحطيمها أكبر قوّةٍ عسكريةٍ عربية وإخراجها تماماً من دائرة أيِّ مواجهة ٍمحتملة مع إسرائيل،وضمنت لدولة الصهاينة الأمن والأمان بعد أن بثّت الفتنة في الشعب العراقي وتركته شيعاً طائفية تقاتل بعضها، وتسعى كلُّ طائفةٍ منها لتأسيس دولةٍ مستقلةٍ في نطاق محافظتها، وهو ما بدأت إشاراته تلوح في الأفق عشية البدء بانسحاب الجيش الأميركي، وستمرُ عشرات السنين قبل أن يفرغ العراقيون من انشغالاتهم المحلية ليتذكروا أنّهم جزءٌ من هذه الأمّة.، أمّا بالنسبة لنفط العراق فليس هنالك عاقل يعتقد أن أميركا ستخرجُ من المولد بلا حمص، ولابدّ أن تكون قد ضمنت ذلك سواء باتفاقاتٍ سريةٍ أو علنيةٍ،، إلاّ إذا تصورنا أنّها قطعت البحور والمحيطات بمهمةٍ خيرية لا تبغي من ورائها غير وجه الحرية والديمقراطية، ومثلما هو النفط كذلك السلاح، فلا نعتقد أنّ القائمين على الأمر والماسكين بزمام العملية السياسية في العراق الجديد والذين غلّبوا مصالحهم الحزبية على جراح العراقيين يمكن أن يميّزوا بين مصالحهم ومصالح أولياء نعمتهم، وأولُ الغيثِ صفقةُ الطائراتِ المتفوّقة التي ستزودهم بها أميركا.
نعم رغم كل الخسائر المادية والبشرية الفادحة وما لحق بأعظم دولة في العالم من سمعةٍ أقلّها فضائح «أبو غريب»،نستطيع القول :أن أميركا حققت أهدافها الثلاثة ولو بنسبٍ متفاوتةٍ، لكنّها من جهة ٍأخرى تغمض عينيها عن الحقيقة التي تقول :إنّه ومنذ اللحظة التي دخلت أميركا فيها إلى العراق كانت خيولُ النفوذِ الإيراني تباري خيولها، وعندما ترحل ُخيولُ الأميركان غداً ستظلُ الخيولُ الإيرانية تحمحم على مرابطها، وسيأتي من يكتبُ غداً:أميركا صادت الغزالةَ وإيران قاسمتها لحمها.
هاشم القضاة
المفضلات