ازدحام السير .. وأبعاده النفسية
يسمونها في لبنان (عجقة السير)، وفي مصر ودول عربية أخرى يسمونها (زحمة)، أما في الأردن فندعوها (أزمة)، وإذا كان لفظ الزحمة يعني لغة الاكتظاظ والتدافع في مكان ضيق، وكانت كلمة العجقة (وهي غير ذات أصل عربي) تشير إلى نوع من الاضطراب والتلبك، فهذان التعبيران ـ فيما أرى ـ أقرب إلى الدقة في وصف حالة السير والمرور حين تتكاثر السيارات في الشارع في وقت واحد، على نحو يجعل حركتها بطيئة، وسيرها صعباً ومتداخلاً . أما لفظ الأزمة فإن مدلوله (وبخاصة في العلوم الإدارية الحديثة) يشير إلى حالة طارئة، تنطوي على خطورة وتهديد، وتتسم غالباً بالمفاجأة، والتفاقم، وغياب المعلومات، وفقدان السيطرة ... مما يجعل مفهومها (أي الأزمة) أوسع من مجرد الازدحام المروري، أو يجعل وصف زحمة السير بها ضرباً من المبالغة، فالازدحام رغم كونه مشكلة مهمة ومؤثرة، إلا أنه حالة متكررة ويومية في معظم العواصم والمدن الكبيرة، وبالتالي لا تأخذ صفة الحدث الطارئ الخطير .
يُسبب ازدحام السير هدراً في الوقت، ذلك المورد الأساسي المهم الذي لا يتم الانتاج بدونه، ويُساوي هذا الهدر (فيما أرى) عدد الدقائق الضائعة (الفاقد) مضروباً في عدد ركاب السيارات التي تعرضت للزحمـة ! ولو قسمنا الناتج على 6. دقيقة لاستخراج الرقم بالساعات، ثم قسمناه على 24 لوصلنا (بشكل مبدئي تقريبي) إلى قياس تأثير كل ازدحام على الانتاج بالأيام، ولوجدناهُ رقماً كبيراً . غير أن مثل هذا القياس يلائم المجتمعات التي تنتج بكامل طاقتها، وتقيم للوقت قيمة عالية، وتقيس وقتها بالدقائق وليس بالساعات والأيام، أما في مجتمع الوقت المتراخي، والنهايات المفتوحة، والمواعيد المطاطة، والإطالة والتسويف، والزيارات والهواتف المطولة أثناء العمل، وترهل الأداء، والبطالة المقنّعة، وقياس الوقت حسب موقع الشمس من السماء وظلها على الأرض، أو وفقاً للمواسم، في مثل هذا المجتمع لا أهمية ولا فائدة من احتساب الهدر في الوقت على نحو ما تقدم، وبالتالي فإن تأثير ازدحام المرور على هذا الصعيد يقترب من الصفر، ولا يكون إلاّ استثناء ينطبق على قليل من الأشخاص المنتجين دون سواهم .
ويؤدي الازدحام إلى هدر في الطاقة، وهو هدر وإن كان يبدو ضئيلاً بالنسبة لكل سيارة على حده، فإن قياسه إلى مجموع السيارات العالقة في الزحام يجعل رقمه كبيراً ومؤثراً على صعيد المجتمع، وهو يتزايد بتزايد عدد هذه السيارات، ويتفاقم مع زيادة وقت الازدحام . ويتزايد كذلك في ضوء كون أسعار النفط مرتفعة بطبيعتها مهما انخفضت أثمانها عالمياً ومحلياً . وكذلك الحال فإن للزحام المروري دور في زيادة التلوث البيئي، ولا شك أنه له مساهمته في تكوين غازات تلك السحابة السوداء التي تحتفظ بها بعض العواصم والمدن الكبيرة في سمائها، ويستظل بها سكانها .
ورغم أهمية آثار الازدحام المتقدم ذكرها، فإني أحسب أن فعله السلبي الأكثر تأثيراً وامتداداً وعمقاً، هو ذلك الوضع النفسي الذي يخلقه، فهو يبعث لدى السائق والراكب غالباً شعوراً يتعدى الملل إلـى حالة يمكن أن تسمى بالضجر، أي الملل الذي يلازمه الضيق والتبرم . كما أنه يبعث على حالة من التوتر، ويتفاقم هذا التوتر إذا ترافق مع القلق من أن تسبب الزحمة تأخّراً عن الدوام الصباحي للموظف، أو القلق من وصول ابنائه المدرسة بعد قرع الجرس الصباحي، إن كان يحمل معه في السيارة ابناءه، أو القلق من التأخر عن موعد مهم . وربما تزايد التوتر أيضاً إذا كان الزحام وقت العصر، لأنه يترافق مع ساعات الجوع قبل الغداء، أو التعب بعد عمل النهار . وفي كل هذه الحالات قد ينقلب التوتر إلى عصبية وعدوان، تعبر عن نفسها بالتأفف أو الشتائم أو التزمير، أو ربما تـم الاحتفاظ بهذا العدوان متوارياً حتى حين ..! ولأن زحمة السير أكثر ما تكون في الصباح، أو أكثر ما تكون ذات تأثير في مطلع النهار لارتباطها بموعد العمل، فإن التوتر والضجر المرافق لها يبدأ باستنفاد الطاقة العصبية للفرد في وقت مبكر . وهدر هذه الطاقة منذ الصباح قد يسبب التعب للمرء بقية اليوم، أو قد يجعل الشخص يحمل معه الاحباط الذي سببته له الزحمة والتأخر عـن موعد العمل، فما أن يتعرض لإحباط آخر صغير، أو أكثر من إحباط، حتى يحدُثَ ما يسمى بتراكم الاحباطات، ومن ثم العدوان الذي نقف عاجزين عن تفسيره، لأننا نحسب أن سببه الاحباط الأخير الصغير، بينما تكون الحقيقة أنه نجم عن ذلك التراكم الذي بدأ ربما بازدحام السيارات في الطرق عند استقبال اليوم الجديد .
من الوجهة الواقعية، ثمة وسائل عديدة يمكن اللجوء إليها للحد من الازدحامات المرورية، وهي متفاوتة في كلفتها بين ما هو باهظ وما هو قليل، فشق الأنفاق والجسور، وتوسيع الطرق، وفتح الطرق البديلة، وانشاء سكك الحديد، واعتماد باصات حديثة ذات مواقف متعددة ومواعيد محددة، واللجوء إلى الوسائل الالكترونية الحديثة التي تحصي السيارات في الطرق وتتوزع لوحاتها في عدة مناطق لتحديد الطرق المكتظة، والاكثار من مواقف السيارات قليلة الكلفة، كل ذلك يسهم في التقليل من الازدحام، غير أن ثمة وسائل أخرى أقل كلفة، ومن ذلك وضع أنظمة تحدد بدء وانتهاء ساعات الدوام في القطاعات الحكومية والمدارس والجامعات والشركات الكبيرة والمتاجر في أوقات متفاوتة، وبالتالي سوف تتفاوت كذلك ساعات انتهاء عمل كلٍ منها، كأن يبدأ دوام المدارس والجامعات في الثامنة، والقطاع الحكومي في الثامنة والنصف، والبنوك والشركات الكبيرة في السابعة والنصف مثلاً، وهكذا مما يَحدُّ من مفعول عنصر مهم في إنشاء الازدحام، وهو التقاء السيارات في وقت واحد .
لكن يبقى الجانب النفسي في التعامل مع الزحام أمراً مهماً كذلك، فكما أن من شأن الوسائل السابقة الذكر أن تتغلب على العوائق الطبيعية بهدف تحقيق التكيّف، فإنه لا بد من نوع من التكيف النفسي مع الازدحام للحد من آثاره، ولاسيما تلك الآثار المتمثلة في الضجر والتوتر وضيق النفس والعصبية والعدوان . وربما كان أول مـا يمكن أن يقوم به المرء حيال الزحمة، هو الإقرار بوجودها والتعامل معها كحقيقة واقعة تسود كثيراً مـن المدن، وليس كحدث طارئ واستثنائي . وهذا يقتضي تعديلاً في السلوك بهدف التكيّف، فالخروج من المنزل أبكر بعشر دقائق من المعتاد يجنب الشخص اكتظاظاً عسيراً، ويوصله إلـى عمله أبكر بثلث ساعة أو أكثر، ويقلل احتمالات القلق والتوتر، وكذلك الحال في الخروج المتأخر قليلاً بعد ساعات الدوام .
ثم إن التعامل مع الازدحام كأمر واقع وقائم، يساعد في التقليل من الملل والتبرم المتكرر الذي يصاحبها دون جدوى، ويدفع المرء لإلهاء نفسه بسماع موسيقى أو برنامج إذاعي أو أخبار أو سوى ذلك .
المفضلات