ملحق الثقافة
دفاتر طائرة
إلياس فركوح - ربما أبدأُ هكذا:
"ما كان يعرف، بالضبط، ماذا سيكتبُ الليلة. لكنه سوف يكتبُ أشياء لم يكتبها من قبل؛ هذا ما يعرفه ومتأكدٌ من أنه سيكون مختلفاً وجديداً. ومضى في عزمه على الكتابة، مُديراً نُتَفَ الأفكار في رأسه، باحثاً عَمّا يتلاءمُ وما يراه مناسباً كمدخلٍ يَلِجُ من خلاله إلى تلك البقعة التي تنتظره هناك: في داخل داخله: في مثلث برمودا العميق، واللغز، والجاذب، والمُغوي. أفي الكتابة ما يُشبه الهلاك، أم في الكتابةِ ما أسماهُ يوماً: الخلاص؟ أم، وكثيراً ما فاجأ نفسه يعترفُ لنفسه: أنا أكتبُ، إذَن أنا أكذبُ لأواصلَ العَيشَ بأقلّ الخسائر! لكنه، حين يفيقُ من سَكْرَة ما كتبَ، يبدأ بامتحان صِدقه. أو، بالأحرى، يبدأ بفحص مصداقيّة ما كتبَ للتو، متسائلاً: ماذا ربحتُ بعد خسارتي لكُلّ تلك الكلمات، وذاك الوقت، وذلك الجُهْد؟
غالباً ما يُكررُ على الناس بأنه يخشى على نفسه من أن يخسرها في سبيل أن يربحهم! غير أنه، في جانبٍ منه، داكنٌ وعَتمٌ وربما خبيثٌ أيضاً، يتمنّى ألاّ يوآخَذ على ما فَعَلَتْهُ كتابته ببعضِ إيماناتهم الرواسخ؛ كَجَرْحِ أو كَشْطِ أحلامهم! هُم يؤمنون بأحلامهم ويقولون، وكانَ هو نفسه من بينهم: "لولا أحلامنا ما كُنّا قادرين على احتمال الحياة"!
ياه! ألهذا الحَدّ ثقيلةٌ الحياةُ وأثمانُ البقاء فيها باهظةٌ لا يخففُ من وطأتها علينا سوى أحلامنا! أحلامُ اليقظة التي نُمررها أمامَنا كشريطٍ يتوالدُ من العَتمة، أو ما أُسمّيه "العَدَم". وأحلامُ المنامات التي لا نتذكّرُ منها إلاّ تلك التمشيحات البيضاءّ، الأشبه بغيوم الصيف الهَشَّة، نكادُ نضيعُ داخلها إنْ حَدّقنا فيها طويلاً، وتكادُ تضيعُ مِنّا إنْ أطَلْنا تجاربَ تفسيرها! نتمسّكُ بها كأنها أطواقُ نجاتنا من..، من..، من الحياة. نعم. من تلك القابعة خارجنا تنادينا بأصوات أغاني السيرينيات الفاتنات.
نخرجُ إليها، فتُغْرِقنا. نقبعُ هنا، فنحيا في الكلمات.
أهذا هو المعنى العميق لـ"في البدء كان الكلمة"، فَكُّنا، ومن دونها لا نكون أكثر من مجرد خواطر تعبرُ بلا أثرٍ؟ من دون الكلمة لسنا سوى مشروعات هَبائيّة؟
من مثلت برموداهُ اللعين يُخْرِجُ كلماته مضمخةً بأسئلةٍ حقيقيّةٍ وأجوبةٍ زائفة.
لا يكتفي بالأسئلة، ولا يَرْضى بالأجوبة، فماذا يفعل؟
لن يفعلَ شيئاً. هو لا يستطيع أن يفعلَ شيئاً. سوى أن يخلقَ كتاباتٍ جديدةً يحاولُ من خلالها أن يقتربَ ما أمكنه الاقتراب من.. – نعم: من نفسه! إنها الكلمة الصحيحة.
من نفسه يستخرجُ الكلمات، فيصيرَ له، عندها، أن يكون".
ربما أبدأُ هكذا. وربما لا أبدأُ أبداً.
عندها، لن يكون هو. ولن أكون أنا. وتبقى الخليقةُ عمياء عائمةً في الفراغ، كالدفاتر الطائرة بأوراقٍ بيضاء وسُطورٍ ما كُتِبَت بعد.
المفضلات