دعاة العولمة والإسلاميون:
التحريض على "صراع الحضارات" لإقامة نظام عالمي جديد
الفهرس
الجزء الثالث:
الإخوان المسلمون؟ السلاح السري لدعاة العولمة
1- جذور الإرهاب الإسلامي
2- تشكيل "قوس الأزمة"
3- توسع الإخوان المسلمون
4- أسامة بن لادن: السنوات الأولى
5- بن لادن في المنفى
6- مركز التجارة العالمية عام 1993
7- مشاكل أموال بن لادن/ المشاكل المالية لابن لادن
8- استمرار ثورة الإخوان
9- جذور الإرهاب الإسلامي
على مدى نصف القرن المنصرم كان الدين آخذاً في التراجع في الطرف الغربي من العالم و كذلك في معظم أرجاء الشرق. إذ استبدلت المادية بالروحانية مع ارتفاع مستويات المعيشة، وكادت الثقافة الرائجة أن تنقلب إلى علمانية تامة. فلم كان الوضع مختلفا إذن ضمن الشرق الأوسط؟ وكيف تداعت الأخلاق اليهودية- المسيحية، بينما شهدت الأخلاق الإسلامية انبعاثا جليا؟ ستسعى هذه الدراسة لتفسير كيف أن هذا الوضع لم يأت من قبيل المصادفة و ستقدم البرهان على أن الإسلام العسكري كان عبارة عن بطاقة لعبت بها النخبة العالمية للمؤسسة الأنجلو_أمريكية ذات الهيمنة لكي تحقق هدفها طويل الأمد بحكومة عالمية.
وقبل أن نتناول أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر علينا أن ننظر بداية إلى جماعة صغيرة من المفكرين المسلمين الذين طوروا الإيديولوجية، ومن ثم مع مواصلتنا لذلك سيتضح كيف أن هذه الحركة تشكل في ترابطها عروة وثقى لا انفصام لها. على الرغم من أنها حركة صغيرة ضمن الدين الإسلامي، إلا أنها ذات تأثير كبير، وينبغي قياس فعاليتها بطرق لا تقتصرعلى مجرد إحصاء عدد أنصار فلسفتها.
كما أشرنا في الجزء الأول، استخدم البريطانيون الإسلام لإضفاء صفة الشرعية على قادتها الصوريين في الأردن والعراق والمملكة العربية السعودية وفلسطين بعد الاستيلاء على الشرق الأوسط في الحرب العالمية الأولى. فبسبب هذا نظر السواد الأعظم من العرب إلى الإسلام على أنه مجرد جزء آخر من المؤسسة الاستعمارية الفاسدة. ولهذا اتسمت طبيعة الحركات الشرعية المناهضة للاستعمار، كحركات ناصر ومصدق وبوتو، بالعلمانية. وعندما أخذت هذه الحركات الوطنية بالنجاح خارج فلك النفوذ البريطاني، يمم البريطانيون وجوههم نحوحلفائهم المسلمين لتقويض أركان هذه الأنظمة المستقلة. برز الإخوان المسلمون كأهم الحركات المناهضة للثورة في هذه الفترة في الشرق الأوسط، وكأهم الأصول الإستراتيجية اليوم لدعاة العولمة الذين يرتكزون على الفكر البريطاني.
نشأ الإخوان المسلمون في مصر عام 1928 ليتطوروا ويصبحوا "المنظمة السنية الإحيائية الأكبر والأوسع نفوذا في القرن العشرين." أسسها حسن البنّا، وهو الابن البكر لشيخ محترم الذي كان مؤلفاً وإمام مسجد محلي. ولد حسن عام 1906 وأُنشئ على التربية الإسلامية الخالصة تحت وصاية والده. حفظ القرآن الكريم وفي سن الثانية عشرة أسس منظمة تدعى جمعية الأخلاق الأدبية. بعد ذلك بوقت قصير أنشأ مجموعة أخرى تدعى جمعية منع المحرمات. كان مسلما ملتزما مخلصا لدينه وفي سن السادسة عشرة سجل في مدرسة إسلامية في القاهرة ليتلقى الإعداد اللازم ليصبح مدرسا. كما أصبح حسن البنّا في سن المراهقة عضوا في جماعة صوفية،جماعة الإخوان الحصافية. كان ناشطا في تلك الجماعة، يقرأ كل ما يقع تحت يديه من إرث الصوفية، ومن ثم أنشأ جماعة صوفية، الجمعية الحصافية الخيرية.(1)
في الجزء الأول من هذه الدراسة أتينا على ذكر ادعاءات عديدة تقول إن الاستخبارات البريطانية مع/أو الماسونية قد أنشأت الإخوان المسلمين، واخترقت صفوفهم أو على الأقل دعمتهم. ويزعم الدكتور جون كولمان بأنها أنشأت على يد "عظماء الاستخبارات البريطانية في الشرق الأوسط..." ويكتب ستيفن دوريل عن أن الإخوان كانوا مرتبطين بالاستخبارات البريطانية عن طريق السيدة فريا ستارك قبيل الحرب العالمية الثانية، و أن الشاه في إيران عدهم أداة للماسونية البريطانية.
قد يجد بعض المسلمين صعوبة في تصديق هذه الإدعاءات لكن لا ينبغي رفضها جملة وتفصيلا. ففي حين كان حسن البنّا مسلماً ملتزماً يضع الإسلام أولا، لا ينبغي أن يعد تأثره بالإخوان الماسونيين البريطانيين أمرا لا يصدق، أو حتى قبوله لمعونات بريطانية لتطوير حركته، على الأقل في المراحل الأولى. إذا كان البريطانيون يستخدمون الإسلام بفعالية خارج مصر، فلم لا يحاولوا أن يستخدموه داخل مصر أيضا؟
سرعان ما ظهرت الماسونية في مصر بعد فتح نابليون عام 1798 عندما قام الجنرال كليبر الماسوني الفرنسي والقائد الأعلى في جيش نابليون بتأسيس محفل إيزيس. هيمنت الماسونية الفرنسية على مصر حتى بدأت المحافل البريطانية بالظهور بعد الاحتلال البريطاني عام 1882. تمتعت الماسونية بشعبية واسعة أثناء النصف الأول من القرن العشرين، وكانت العديد من الشخصيات المصرية المهمة ماسونية إلى جانب الحكام والأرستقراطيين البريطانيين الذين كانوا محتلين للبلد. وفي الواقع إن ملوك مصر بدءا من الخديوي إسماعيل إلى الملك فؤاد قد نصبوا رؤساء فخريين للمحفل الماسوني في بداية حكمهم. وما بين عامي 1940 و 1957 كان هنالك ما يقارب على سبعين محفل ماسوني مرخصة في أرجاء مصر. في فترة ما من الماضي كان رؤساء حزبي الوطني والوفد ماسونيين وكذلك أعضاء كثر من البرلمان المصري حيث اختلطوا مع القادة العسكريين و الأرستقراطيين للاحتلال البريطاني الحاكم. (2)
كان اثنان من أهم القادة المسلمين في مصر وهما جمال الدين الأفغاني و محمد عبده ماسونيين أيضا. فكان الأفغاني أجنبيا تولى منصب رئيس الوزراء في أفغانستان قبل أن يصبح ناشطا في إيران وروسيا قبيل ظهوره في مصر. ويعد "مؤسس حركة الوحدة الإسلامية السياسية،" وتعرف حركته بالحركة السلفية. وفي حين أنه حرض ضد الإمبريالية البريطانية، ناصر تجديد/ إضفاء طابع العصرية على العالم الإسلامي. وقبل نفيه من مصر أصبح شخصية مهمة في جامعة الأزهر في القاهرة وكان أهم تلامذته/أتباعه محمد عبده. كان طوال حياته ناشطا من أجل حق المسلمين بتقرير المصير، لكنه زار لندن عدة مرات حيث قام ، بحسب أحد كتاب السيرة، "بإعادة تأسيس الروابط مع أعضاء محفله." عندما توفي الأفغاني عام 1897ترك خلفه إرثا كبيرا من المؤلفات السياسية والدينية التي ستشكل إحدى لبنات الحركات الإسلامية اللاحقة.(3)
بعد نفي الأفغاني من مصر عام 1879، واصل محمد عبده نشر رسالته الإصلاحية. مماتسبب في نفيه عام 1882. عندما كان في المنفى التقى مع الأفغاني حيث تعاونا على نشر جريدة إسلامية، وقاما بتوسيع دائرة معارفهما ضمن الأخوية الماسونية. بعد ذلك بأربع سنوات تغير موقف البريطانيين و سمحوا لعبده بالعودة. فأصبح أستاذا في جامعة الأزهر حيث ركز على إصلاح المؤسسة الإسلامية العريقة. في الوقت ذاته نجح في الوصول إلى منصب قاض في المحاكم الوطنية. وبعد إحدى عشرة سنة فقط من عودته من المنفى الذي فرضته عليه بريطانيا عين المندوب السامي البريطاني، اللورد كرومر، الشيخ محمد عبده في منصب المفتي عام1899. فبات الآن بمثابة بابا الإسلام.(4) وفي الوقت ذاته الخبير الأعظم للمحفل الماسوني المصري المتحد. (5)
بالطبع كان لدى كرومر دافعا خفيا وراء جعل عبده أكثر الشخصيات نفوذا في العالم الإسلامي. إذ تجد أنه في عام 1898 أعاد المجلس الحاكم لجامعة الأزهر الشريف تأكيد أن الربا، وبالتالي الصيرفة بحسب النموذج الغربي، كان حراما وفق الشريعة الإسلامية. وكان هذا أمرا مرفوضا بالنسبة للورد كرومرلأنه يتصادف أن يكون اسمه الأول إيفيلن بارنغ- وهو فرد مهم في عائلة بارنغ الإنكليزية للصيرفة التي جمعت ثروتها من تجارة الأفيون في الهند والصين. فاستخدم اللورد كرومر صديقه الشيخ عبده لتغير التشريع الذي يحرم الصيرفة، وبمجرد أن أصبح كبير المفتين لجأ إلى تفسير ليبرالي وخلاق جدا للقرآن الكريم ليختلق منفذا يسمح بالربا المحرم شرعا. عندها بات للبنوك البريطانية مطلق الصلاحية في الهيمنة على مصر. يقول اللورد كرومر في كتاباته، "أشك أن يكون صديقي عبده في الحقيقة ممن يعتقدون أن وجود الله أمر لا سبيل إلى معرفته،" وعلق على حركة عبده السلفية قائلا، "إنهم الحلفاء الطبيعيون للإصلاح الأوروبي." فحتى كرومر وجد أن الحركة الإسلامية يمكن توظيفها لصالح بريطانيا. (6)
كان للشيخ محمد عبده طالبان كان لهما دور مهم في استمرار الحركة السلفية بعد وفاته عام 1905. كان أحدهما الشيخ أحمد عبد الرحمن البنّا الذي كان والد حسن البنّا. وكان الآخر محمد راشد رضا، رجل ماسوني أصبح الصديق المقرب من الشيخ عبده و ناشر المجلة الشهرية، المنارة. نشر هذا الناطق بلسان الحركة السلفية لأول مرة عام 1897، وتولى رضا منصب الناشر لسبعة وثلاثين عاما. كما وجد رضا ضمن دائرة النفوذ البريطاني، وعكست منشوراته وجهة النظر البريطانية من خلال التحريض ضد الإمبراطورية العثمانية. لقد أثنى على حركة الشباب الأتراك الماسونية، لكنه بعد الحرب العالمية الأولى انتقد ثورة تركيا الوطنية تحت حكم أتاتورك.(7)
تأثر حسن البنّا في شبابه بكل تلك العوامل: بالحركة الإسلامية، بالاحتلال البريطاني، بوالده، بأهم مرشديه محمد راشد رضا. إذ نشأ البنّا على قراءة مؤلفات رضا ومن خلال صلات عائلته أصبحا أصدقاء مقربين. عند وفاته عام 1935 وضع رضا كل آماله بولادة إسلامية جديدة في الإخوان المسلمين التي أسسها البنّا. أما العامل الآخر في حياة حسن البنّا كان الماسونية. اختبر البنّا الشاب عدة طوائف دينية ومجموعات سياسية، وأصبح أيضا عضوا في الأخوية الماسونية. وكان هذا أمرا طبيعيا لشخص نشأ في كنف علية القوم من المجتمع المصري في ذاك الوقت ولم تكن تعد عضويته خيانة للقيم الإسلامية كما هو الحال اليوم. (8)
في عام 1927، وفي سن الحادية والعشرين بعد ان تخرج في جامعته، عين ليدرس اللغة العربية في مدرسة في الإسماعيلية. وتصادف أن كانت هذه البلدة عاصمة منطقة القناة التي تحتلها بريطانيا ومقر شركة قناة السويس البريطانية. فأسس حسن البنّا هناك بعد عام الإخوان المسلمين. وساعدت شركة قناة السويس بتأمين الموارد المالية لأول مسجد للإخوان المسلمين الذي بني في الإسماعيلية عام 1930. (a8)
لكن يبقى السؤال المهم هو كيف قام الإخوان المسلمون، مع كثرة المنظمات الإسلامية المتنافسة، أن يتوسعوا بمثل هذه القفزات الواسعة وأن يتجاوز عدد أعضائها الناشطين 500,000 خلال عقد واحد فقط؟ كان البنّا في الثانية والعشرين وحسب عندما بدأت، وكانت تقع في قلب الأراضي المحتلة من قبل بريطانيا للسنوات الأربع الأولى. تعزو السجلات التاريخية الفضل بنجاح الإخوان مباشرة إلى المهارات التنظيمية للبنا:
كان العامل الأهم والوحيد الذي جعل من هذا التوسع الدراماتيكي أمرا ممكنا هو القيادة التنظيمية والإيديولوجية التي أظهرها البنّا. فقد سعى لتحقيق التغيير الذي طمح له من خلال البنّاء المؤسساتي، و مذهب الفاعلية الذي لا يلين على مستوى العوام و الاعتماد على التواصل مع الحشود. وواصل بناء حركة جماهيرية مركبة التي تتميز بها الهيكليات الحاكمة المتحضرة؛ الأقسام المسؤولة عن الارتقاء بقيم المجتمع في أوساط الفلاحين والعمال والحرفيين؛ وحدات يعهد إليها مهام أساسية، بما في ذلك نشر الرسالة والترويج لها، والاتصال المتبادل ما بين العالم الإسلامي و الصحافة وحركة الترجمة؛ ولجان متخصصة بالشؤون المالية والقانونية. في إرساء قواعد هذه المنظمة في شاطئ المجتمع المصري، اعتمد البنّا بحنكة على شبكات التواصل الاجتماعي الموجودة مسبقا ولا سيما تلك المبنية حول المساجد والمؤسسات الخيرية الإسلامية ومجموعات الجوار. إن هذا النسيج من الروابط التقليدية ضمن البنّاء المعاصر المتميز شكل جذور نجاحه. (9(
يكمن المغزى في أن نجاح الإخوان المسلمين ما كان ليتحقق دون موافقة المؤسسة الحاكمة البريطانية، وتذهب مؤسسة البنّا مع الأخوية الماسونية بعيدا في تفسير مدى فعالية تنظيمها ومدى ملاءمتها للمجتمع المصري. فكحال الأخوية الماسونية أسست بداية كمنظمة خيرية. على الرغم من أن الماسونية كانت ليبرالية وسمحت لكل الطوائف بالانضمام إلى صفوفها، لم يركز الإخوان المسلمون إلا على الإسلام. فكانت ماسونية للمسلمين وحسب. وكالماسونية التزمت بالسرية وأديرت بحسب هيكلية هرمية من الأوامر. فالجنود المشاة في القاعدة لم يكن لديهم أدنى فكرة عن الأهداف الحقيقية للقادة في القمة.
تم تأسيس حركة الإخوان المسلمين بموافقة ودعم المؤسسة البريطانية، إلا أن مثل هذه الحركة الشعبية الحاشدة أثبتت مدى صعوبة السيطرة عليها. فالشعب المصري كان يخفي مقتا متأصلا ضد بريطانيا، وهيمن هذا الشعور بشكل حتمي على الإخوان المسلمين. و لم تعد منظمة خيرية بل أصبحت منظمة سياسية في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين عندما دخلت دنيا السياسة لدعم العرب الفلسطينيين بالإنتفاض ضد البريطانيين و التدفق المتزايد من المهاجرين اليهود. وسرعان ما بدأ النشاط المناهض لبريطانيا بمجاراة الركب ضمن حركة الإخوان في الوطن، وفي بدايات الحرب العالمية الثانية اعتقل النظام البريطاني البنّا لوقت قصير لسماحه لمنظمته بالخروج عن السيطرة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وجد البنّا نفسه أحد أكثر القادة نفوذا في مصر. ووجد نفسه في صراع على السلطة ضد الملكية وحزب الوفد العلماني، وكان ينظر إلى منظمته على أنها الأكثر تسلحا وراديكالية وخطرا. في عام 1948 كان أعضاء من الإخوان المسلمين متورطين في عملية اغتيال لقائد شرطة القاهرة، فردت الحكومة عندما أصدر رئيس الوزراء نقرشي باشا قرارا في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1948 يقضي بحل جماعة الإخوان المسلمين. فأغلقت مراكزها وفروعها وحجز على أصولها ومصادر تمويلها. كما اعتقل مئات من أعضائها وسجنوا مما اضطر جماعة الإخوان المسلمين للتراجع إلى الأقبية. بعد ذلك بأسابيع اغتيل نقرشي باشا على يد الإخوان، وثم في شباط/فبراير من عام 1949 اغتيل حسن البنّا نفسه على يد الشرطة السرية المصرية.
في أيار/ مايو من عام 1950 حااولت الحكومة التصالح مع الإخوان فأطلقت سراح معظم الأعضاء المحتجزين من السجون. وفي العام التالي أبطل الحظر على جماعة الإخوان، إلا أنها أجبرت على إبقاء نفسها تحت قانون جديد مرر لينظم مختلف المؤسسات والجماعات والمنظمات المصرية.
مع استمرار تراجع شعبية الملكية، وإفساح المجال ببطئ شديد للإنعتاق من بريطانيا من أجل رغبة العامة، خططت مجموعتان تخريبيتان من وراء الستار للسيطرة على مصير مصر: الضباط الأحرار والإخوان المسلمون، الجيش والأصوليون. أثبت الجيش أن له اليد العليا ولا سيما بعد وفاة البنّا، وظهر جمال عبد الناصر أخيرا على أنه الرجل الذي سيقود مصر على درب الاستقلال. في البداية دعم الإخوان الجيش، وكان هنالك محاولات لإدخالهم في الحكومة الجديدة، إلا أن الجماعة بالغت في تقدير قوتها ونفوذها وطالبت بأكثر مما يجب. ثم بعد فوز ناصر في صراع القوى مع الجنرال نجيب، عرف الإخوان أنهم سيواجهون مستقبلا قاسيا. كان عبد الناصر أقل تفهما بكثير للأصوليين من نجيب واكتمل الشقاق بعد محاولة الإخوان اغتيال ناصر في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1954. بعد ذلك بسنوات، ادعى الجنرال المعزول والساخط نجيب في مذكراته بأن عملية الاغتيال كانت عبارة عن خطة سرية محكمة حبكها ناصر لخلق عذر للتخلص من جماعة الإخوان المثيرة للمشاكل نهائيا.(10)
على أية حال، مع نهاية عام 1954 اعتقل الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان، بمعظم قادتها، وأعدم ستة منهم. كان هذا هو الشقاق الذي مهد الطريق لعلاقة جديدة بين الإخوان المسلمين وأجهزة الإستخبارات البريطانية والأمريكية لأن ما وحهم كان كرههم لناصر. لسوء حظ الغرب ظل الإخوان غير مؤثرين على نحو كبير داخل مصر طوال فترة حكم ناصر، على الرغم من أنهم كانوا متورطين بمحاولات عديدة للقضاء على حياته. وفي هذا الوقت وجد كثير من الأعضاء الهاربين الترحيب في لندن، حيث سجلوا حضورا مايزال حيا حتى اليوم، كما انتقل عدد منهم إلى سوريا والأردن والمملكة السعودية.
أوجد حسن البنّا منظمة وصفها المؤرخون العرب على أنها "أعظم حركة إسلامية معاصرة." وكان يشتهر البنّا بقوله،
"نحن بحاجة ثلاثة أجيال لمخططنا- جيل ليستمع، جيل ليحارب، وجيل لينتصر."(11)
مات شابا عن عمر الثالثة و الأربعين. كان جيله الجيل "المستمع"، لكنه كان المتحدث. وبعد موته السابق لأوانه ظهر عدة قادة آخرون لمواصلة توجيه المؤمنين تحت راية إسلام أصولي عسكري.
كان أحدهم رجلا يدعى باسم سيد قطب. وبات يعرف لاحقا "بالإيديولوجي الرئيس" للإخوان المسلمين بعد البنّا، وتبرر كتاباته المكثفة معتقدات الإسلاميين الراديكاليين اليوم. فنادرا ما يتبع المسلمون النهج الراديكالي للإسلام دون قراءة شيئ ألفه قطب.
كان سيد قطب في سن البنّا، وكان أيضا ماسونيا، لكنه لم ينضم للجماعة إلا بعد وفاة البنّا. وبات نزاعا إلى انتقاد الغرب بعد أن عاش في الولايات المتحدة لفترة وعندما عاد إلى مصر اعتنق الأصولية. وتقدم في صفوف الإخوان بسرعة كبيرة وعمل كسفير لهم في سوريا و الأردن قبل أن يصبح محرر دورية الإخوان الرسمية في عام 1954. على أية حال، تم اعتقاله على إثر "محاولة اغتيال" ناصر مع الكثير من رفاقه، فعذبوا بوحشية ومن ثم حكم عليه بخمسة عشر عاما من الأشغال الشاقة. بعد ذلك بعام عرض عليه ممثل من ناصر العفو إذا ما طلب الغفران وحسب. لكن قطب رفض وظل قابعا في السجن، يدرس ويؤلف االكتب حول دور اللإسلام في العالم الحديث. فطور المذهب القائل بأن الدول العربية المعاصرة، بحسب الإسلام، تطغى عليها الجاهلية، وهو مصطلح يترجم إلى بربرية، ولا سيما فيما يتعلق بتأثير الثقافة الغربية والأنظمة السياسية. فكتب قطب،
"لا يتجلى دور الإسلام بإيجاد حل وسط مع مفاهيم الجاهلية السائدة في العالم حالياً، ولا أن يتعايش على الأرض ذاتها وجنباً إلى جنب مع نظام جاهلي... فهو يستقي نظامه وقوانينه وتشرعاته وعاداته ومعاييره وقيمه من مصدر آخر غير الله. ومن جهة أخرى، الإسلام هو الخضوع لله ووظيفته هي إبعاد الناس عن الجاهلية وجذبهم نحو الإسلام. فالجاهلية هي عبادة أشخاص لآخرين، أي أن بعض الناس يسيطرون ويضعون القوانين للآخرين بغض النظر عما إذا كانت تلك القوانين مخالفة لشرع الله ودون الاكتراث بالاستخدام الصحيح أو المغلوط لسلطتهم. أما الإسلام فهو عبادة الناس لله وحده، واستقاء المفاهيم والمعتقدات والقوانين والتشريعات من سلطة الله عز وجل، محررين نفوسهم من العبودية لعباد الله، وهذا هو جوهر الإسلام وطبيعة دوره على الأرض. إذ لا يمكن للإسلام أن يقبل أي اختلاط للإسلام مع الجاهلية. إما أن يبقى الإسلام أو أن تبقى الجاهلية فلا وجود لحلٍ وسطٍ بينهما.إما أن يكون الأمر لله أو أن يكون للجاهلية، أي إما أن تسود شريعة الله أو شهوات الناس ..." (12)
اعتقد قطب بأن الدول العربية يحكمها أي شيئ باستثناء الشريعة الإسلامية واستعيض عنها بالجاهلية، ولقد ناصر الاستخدام المفرط للقوة في سبيل الإطاحة بالأنظمة السياسية، ولا سيما نظام ناصر في مصر، لكي يبيد الجاهلية. كتب قطب، إن واجب الإسلام الأكبر هو الإطاحة بالجاهلية من قيادة الإنسان. (13)
تمّ العفو عن قطب وإطلاق سراحه عام 1964 إثر إصرار الرئيس العراقي الذي كان في زيارة آنذاك، وأصدر قطب في ذلك الوقت ما يعتقد أنه أكثر أعماله أهمية ً وهو كتابٌ بعنوان معالم في الطريق. تذرع عبد الناصر باللغة النضالية المستخدمة في الكتاب لاحتجاز قطب مجدداً وفي ذات الوقت قام عبد الناصر بسجن 20.000 شخص يشتبه بانتمائهم للإخوان المسلمين خوفاً من مكيدةٍ جديدة قد ترتب من جديد ضد نظامه. وفي 29 من آب عام 1966 جعل عبد الناصر من سيد قطب عبرةً لمن يعتبر بإعدمه شنقا ً.
نشر سيد قطب في خلال مسيرة حياته 24 كتاباً و تفسيراً للقرآن مكوناً من 30 جزءاً، واليوم تلهم كتاباته المسلمين الأصوليين في مصر وحول العالم كما تعتبر حياته أفضل مثالٍ إسلامي في مواجهة الاضهاد والصعوبات.
مصطفى السباعي كان "متحدثاً" آخر عن جيل الإسلاميين الثوريين المناضلين الأول. ولد في سوريا وتلقى تعليمه في جامعة الأزهر الإسلامية البارزة في القاهرة في مصر، وهناك انخرط في جماعة الإخوان المسلمين. سجنه البريطانيون لفترة، وبعدها عند عودته إلى سوريا اعتقل وسجن مجدداً لنشاطاته الثورية المستمرة ولكن على يد الفرنسيين هذه المرة. وفي عام 1946 بعد قضائه لمحكوميته، أسس مصطفى السباعي جماعة الإخوان المسلمين السورية بوصفها فرعاً تابعاً للأساس المصري.
كانت سيرة السباعي في سوريا ناجحة ً إلى أبعد الحدود، إذ أنهى الدكتواره في الشريعة الإسلامية وبدأ بتدريس اللغة العربية و الدين في دمشق، وفي عام 1951 تزوج من عائلةٍ ذات نفوذ. كما سافر عبر الغرب وقام بنشر كتب ٍ و ألقى محاضراتٍ ساعدت على توجيه الإخوان المسلمين حتى وفاته عام 1964. (14) كان السباعي واحد من أفصح المتحدثين باسم الحركة الإسلامية وكان لديه فهم كبيرٌ لما كان يحدث في الشرق الأوسط ، ففي واحدةٍ من مقالاته العديدة كتب عن المصالح التجارية الغربية في الأراضي العربية:
إنها السبب المباشر للتدخل الأجنبي في الشؤون المحلية للبلاد وهي العقبة الأكبر في وجه تحقيقنا للاستقلال والكرامة، فالامتيازات [النفطية] هي إرث ٌ خلفه الأتراك لنا من جهة، ومن جهة أخرى تم منح الامتيازات تحت ستار أنها ستكون ذات فائدةٍ اقتصادية للبلاد والعباد، ولكن التاريخ قد أظهر لنا بأن شركاتٍ كهذه تشكل بداءات الاستعمار.(15(
يعد أبو الأعلى المودودي أب الحركة الإسلامية في باكستان. ولد عام 1903 وأول نفوذٍ له كان عام 1937 عندما تبوأ منصب مدير مركز الأبحاث الإسلامية في لاهور. وعندما أعلنت باكستان دولةً في عام 1948 اعترض على الطبيعة العلمانية للحكومة المدعومة بريطانياً وبسبب هذا الاعتراض ضى وقتاً في السجن عام 1948 وعام 1952 مرة أخرى. إن إنجاز المودودي الباقٍ إضافةً إلى كتبه الثمانين وأبحاثه الموجزة المنشورة هو منظمته جماعت إسلامي أو الجمعية الإسلامية. حافظ المودودي وجماعته على صلاتٍ مقربة من الإخوان المسلمين، وكتب ديتل في هذا: " ما تزال كلا المنظمتان تعتبران نفسيهما جزءاً من الحركة ذاتها وفي بعض الحالاات اعترفت جماعة الإخوان المسلمين بالمودودي على أنه خلف لمفكريها البنّا وسيد قطب." (16)
يُعرف المودودي بتبيينه للدولة الإسلامية المثالية وقد تم قبول تعريفه من قبل أغلبية المسلمين ضمن الحركات الإسلامية النضالية. ويعلق في المقطع الآتي عن الديموقراطية:
إن الاختلاف بين الديموقراطية الإسلامية و الديموقراطية الغربية هو بالطبع ما يلي: بينما ترتكز الأخيرة على سيادة الناس، ترتكز الأولى على مبدأ الخليفة (القيادة) من قبل الناس. في الديموقراطية الغربية الناس هم أصحاب السيادة أما في الإسلام فإن السيادة تكون لله والناس هم خلفاؤه أو أتباعه. في الغرب يقوم الناس أنفسهم بوضع القانون أما في الإسلام فعلى الناس اتباع وطاعة القوانين التي بلغها إياهم على لسان أنبيائه. في أحدهما تنفذ الحكومة رغبة الناس، وفي الآخر تقوم الحكومة والناس مع بعضهم البعض بترجمة مقاصد الإله إلى أفعال. وقصارى القول أن الديموقراطية الغربية هي نوع من السلطة المطلقة التي تمارس قواها بحرية وبطريقة غير موجهة بينما تخضع الديموقراطية الإسلامية إلى القانون الإلهي وتمارس سلطتها بتناغمٍ مع تعاليم الله وضمن إطار حدده الله." (17)
آخر المفكرين الثوريين الإسلاميين ممن سنركز عليهم هو شخص إيرانيٌ اسمه علي شريعتي. وهنا لدينا صلة وثيقة بين الحركة الإسلامية والماسونية لأن على شريعتي نفسه كان ماسونياً. وأبوه محمد تقي شريعتي الذي كان ماسونياً أيضاً— لمرة واحدة على الأقل – كان عميلاً لقسم الشرق الأقصى في الاستخبارات البريطانية.(18(
ولد علي شريعتي عام 1934 والتحق بالمدرسة في مشاد وترعرع في كنف والده الذي ترأس مركزاً ثورياُ إسلامياً يدعى بـ مركز نشر الحقيقة الإسلامية. وبعد الإطاحة برئيس الوزراء موساديغ واستلام الشاه انضم على الشريعتي إلى حركة المقاومة الوطنية وفي عام 1957 تم اعتقاله مع والده وبعض الناشطين وقضى ستة أشهر في السجن.
كان لعائلة شريعتي أصدقاء نافذون يشغلون مناصب رفيعة وقد تم قبول علي في جامعة السوربون المرموقة في فرنسا إذ بدأ دراسته هناك عام 1960 وحصل على دكتوراه في علم الاجتماع والتاريخ الإسلامي. وفي أثناء وجوده في فرنسا انفتح على مجموعة من نخب المثقفين — وافتتن بها— هؤلاء الذين يعرفون بالوجوديين. كانت مجموعة من الكتّاب المعادين للرأسمالية والمادية وضمت هذه المجموعة كلاً من جان بول سارتر و فرانتز فانون و ألبير كامو و جاك بيرك و لويس ماسينون وجان كوكتو. كما أصبح شريعتي يكن إعجاباً للعديد من الأفكار الماركسية.
عاد شريعتي إلى إيران عام 1965 واعتقل مباشرةً فقد كان معروفاً بتورطه مع الجماعات التي حاولت الإطاحة بنظام الشاه عندما كان في فرنسا، وكان قد ساعد على إنشاء الجبهة الإيرانية الوطنية في أوروربا.ومع ذلك تم الإفراج عنه على الفور وعمل بعد ذلك في التدريس بالقرب من مشاد. وركز في السنوات الخمس التي تلت على الكتابة وعلى ترويج نظرته للإسلام وعلى تعزيز الروابط مع جماعة الإخوان المسلمين وجماعات المقاومة الأخرى.
وفي مطلع السبعينيات بدأ الدكتور شريعتي بإعطاء محاضرات عن السياسة والدين وبدأ يروج علناً لكتاباته و يحاول الإقناع بوجهات نظره التي كانت معاكسةً تماماً لوجهات نظر الشاه الذي كان يطور بنيةً تحتيةً صناعيةً ويحسن التنمية الاقتصادية و يدافع عن التعليم العلماني الحديث. كتب شريعتي: "تعالوا يا أصدقاء ، دعونا نهجر أوروبا ودعونا نتوقف عن هذا التقليد الأحمق والمقرف لأوروبا. لنترك أوروبا هذه وراء ظهورنا فهي التي تتكلم دائماً عن الإنسانية إلا أنها تدمر البشر حيث تجدهم." (19)
لم يكن آية الله خامنئي لينجح قط لولا تحريض شريعتي المستمر ضد الشاه الذي جرى تحت غطاء فكري وركز على الطلاب والأصوليين الإيرانيين. ومرت فترة اعتبر فيها شريعتي الخطيب الأكثر تأصيراً في منتديات طهران. يكتب ديتل:
تبين لنا أهمية شريعتي أن الثورة الإيرانية تحتضن من قبل الملالي المتقدمين في السن ولا من قبل آيات الله فحسب، بل احتضنها الشباب الثائر أيضاً الذي تأثر إلى حدٍ ما بنماذج أخرى.
كان تعداد المستمعين الذين يحضرون المحاضرات العامة التي كان شريعتي يلقيها يصل إلى 5.000 وكانت كتاباته توزع بمئات الآلاف رغم كثرة الاعتقال والتعذيب لمن تضبط في حوزته. وغالباً ما كان شريعتي المتواضع والهادئ يتحدث طوال اليوم وبعدها كان يفتح النقاشات في وقتٍ متأخرٍ من الليل. وبعد إلقائه لما يزيد عن 100 محاضرة حاول السافاك (الشرطة السرية) اعتقاله لكن شريعتي نجح في الهروب وقد سلم نفسه للشرطة بعد أن احتجزوا والده كرهينة. استمر تعذيبه على نحوٍ مريع لمدة سنتين في سجن كوميته وبعد إطلاق سراحه لم يسمح له بالمشاركة في أي نشاطاتٍ تدريسية أو أن يبقى على اتصالٍ بأية جهاتٍ تآمرية فقد لاحقت الشرطة السرية كلَّ حركاته وسكناته. (20(
وأخيراً في عام 1976 تمكن علي شريعتي من الهرب إلى لندن وبينما كان في انتظار طائرةٍ لتقله إلى الولايات المتحدة حيث كان سيجتمع بأفراد أسرته توفي إثر انصمامٍ في الدماغ. الزعم المعتاد الذي يعتبر الآن مقبولاً عالمياً هو أن عملاء السافاك هم من اغتال شريعتي باستخدام سهمٍ ذو إبرةٍ مسمومة بسمِّ الكوبرا. وتبقى الحقيقة أنه رغم كراهية الشاه للدكتور شريعتي ورغم الفلسفات القمعية التي دافع عنها، فإن سبب انصمام دماغ شريعتي لم يثبت أبداً.
تنبأ حسن البنّا قبل ثلاثة أجيالٍ أن الحركة الإسلامية ستعم الشرق الأوسط إذ قال أن الجيل الأول سيطالب بمستمعين وكان هو وسيد قطب ومصطفى السباعي و أبو الأعلى المودودي وعلى شريعتي بعضاً من أبرز الاستراتيجيين الذين وضعوا الأسس الأيديولوجية للحركة الإسلامية الحديثة. أما الجيل التالي الذي تنبأ به البنّا فكان جيلاً "للمحاربة".
ملاحظات ومراجع القسم
تشكيل "قوس الأزمة"
بحلول السبعينيات قامت مؤسسات مثقفي النخبة ودعاة العولمة بالتركيز على النمو السكاني و التطور الصناعي بوصفهما أكثر عدوين لدودين للعرق البشري. وبدأت مؤسسات الأمم المتحدة ونادي روما و تافيستوك و آسبن جميعها إضافة ً إلى العديد من المنظمات الناطقة بلسان النخب الحاكمة بالحديث عن أن البيئة تُدمّر وأن التصنيع بدأ يصبح تهديداً مروعاً. وكانت التكنولوجيا والعلوم والتقدم البشري جميعها تفقد شعبيتها. فقد اعتبرت النخب موارد الأرض ملكاً لها ولم ترد مشاركتها مع عالمٍ ثالثٍ صاعدٍ وآخذٍ في النمو.
كان اللورد بيتراند راسل أحد أهم "المدافعين عن حقوق الانسان "المناهضين للانسان" وكان ممن أيدوا العودة إلى القرون الوسطى وكان يؤمن بأن: "سكان العالم البيض سينقرضون قريباً والعروق الآسيوية ستدوم أكثر أما الزنوج فسيدومون أكثر من سابقيهم إلى أن تهبط معدلات الولادة بما يكفي لتجعل أعدادهم ثابتةً دون مساعدة الحرب أو الوباء، وحتى يحدث هذا فالفوائد المرجوة من الاشتراكية لايمكن تحقيقها إلا جزئياً وبأن الأعراق الأقل توالدا سيتوجب عليها الدفاع عن نفسها بطرقٍ مثيرةٍ للاشمئزاز إن دعت الحاجة."
كان راسل مؤيداُ للحكومة العالمية أيضاً: "لقد أسلفت بالحديث عن مشكلة السكان لكن يجب إضافة بعض الكلمات فيما يتعلق بالجانب السياسي. ... سيكون من المستحيل علينا أن نشعر بأن العالم بحالة مرضية إلى أن تتحقق درجة ٌ معينة ٌ من المساواة ودرجةٌ معينةٌ من الانصياع إلى قوة الحكومة العالمية ولن يكون هذا ممكناً حتى تكون الأمم الأفقر في العالم قد أصبحت ... أكثر أو أقل ثباتاً في تعداد السكان. والنتيجة التي تقودنا إليها الحقائق التي كنا نراعيها هي أنه في حين عدم قدرتنا على تجنب الحروب الكبرى حتى تتشكل حكومة عالمية، لن تكون الحكومة العالمية مستقرةً حتى يكون لكل بلادٍ ذات أهمية تعدادٌ سكانيٌ ثابت." من وجهة نظر راسل فإن التحكم بالتعداد السكاني كان متطلباً أساسياً لقيام حكومةٍ عالمية.(1(
بعودتنا في الماضي وصولاً لعام 1947 حيث كان عالمٌ أستراليٌ مهم يقترح –في تقريرٍ سري لوزارة الدفاع الأسترالية — أن: " ... الهجوم المعاكس الأنجع ضد الغزو الذي يهددنا من قبل البلدان الآسيوية المكتظة سكانياً سيتم توجيهه نحو تدمير المحاصيل الغذائية الإستوائية عبر طرقٍ بيولوجية أو كيميائية وعبر نشر مرضٍ معدٍ قادرٍ على الانتشار في الشروط الإستوائية ولكن في غير أستراليا." هذا النمط العريق من العلماء المجانين هو السير فرانك ماكفارلين برنيت الذي تم إعلان فروسيته من قبل التاج البريطاني عام 1951 وهو الحائز على جائزة نوبل عام 1960.(2(
في عام 1968 كتب عالم الأحياء بول إيرليش المتخرج من ستانفورد والمعجب بـبيرتراند راسل الكتاب الأكثر مبيعاً القنبلة السكانية، وجاء فيه: "إن السرطان هو عبارة عن تضاعفٍ غير مضبوط للخلايا والانفجار السكاني هو تضاعف غير مضبوط للناس ... يجب علينا إعادة توجيه جهودنا من معالجة الأعراض إلى استئصال السرطان. وستحتاج العملية إلى العديد من القرارات الوحشية واللارحيمة ظاهرياً." ويؤيد في كتابه هذا وضع مواد كيميائية للتحكم بالولادات في مخزون العالم الغذائي.(3(
كان السير جوليان هاكسلي العالم البريطاني والمثقف الذي أدى دوراً ريادياً في إنشاء منظمة العلم والتربية والثقافة التابعةالأمم المتحدة (اليونيسكو) يحمل الأفكار ذاتها. فقد رأى التقدم العلمي كالبنسلين ومبيدات الحشرات وتنقية المياه على أنه سيفٌ ذو حدين. إذ كتب قائلاً: "بإمكاننا وعلينا أن نكرّس أنفسنا بإخلاصٍ ديني صادق لقضية التأكد من تحقيق رضاً أكبر للبشرية في قدرها المستقبلي، وهذا يتضمن هجمة ً عنيفة ً ومشتركةً على مشكلة السكان وذلك لأن التحكم بالتعداد السكاني هو متطلبٌ أساسي لأي تحسين جذري في أي جماعة إنسانية."(4)
بقيت أفكار هاكسلي المتطرفة داخل الأمم المتحدة وقد بدت جلياً عند انعقاد قمة الأرض الأولى في مؤتمر ستوكهولم حول البيئة البشرية عام 1972، وقد تم اختيار موريس سترونغ للتحضير لهذا المؤتمر من قبل الأمين العام للأمم المتحدة يو تانت وفي السنة التالية تم تعيين سترونغ كمسؤول عن برنامج الأمم المتحدة البيئي المنشأ حديثاً.
وكان عام 1972 أيضاً العام الذي نشر فيه نادي روما تقريره الشائن حدود النمو. وكان هذا التقرير مدعوماً بأبحاث قام بها معهد مساشوستس للتكنولوجيا الذي استنتج أن التصنيع يجب أن يُوقف لحماية الكوكب من كارثةٍ بيئية. ومنذ ذلك الحين أقرّ أكثر الأنصار ولاءً للنادي من أمثال موريس سترونغ بأن التقرير كان "سابقاً لأوانه" ولم يأخذ بالحسبان التقدم التكنولوجي."(5)
كان نادي روما واحداً من أكثر الجماعات المؤثرة التي تروج للحكومة العالمية منذ تأسيسه عام 1970 على يد كلٍ من الدكتور ألكسندر كينغ وهو عالمٌ بريطانيٌ ودبلوماسي و أرليو بيتشي الصناعي الإيطالي. وفي عان 1973 نشر النادي تقريراً بعنوان نموذج إقليمي ومكَيف للنظام العام العالمي. وقدم هذا التقرير نموذجاً لنظام حكومةٍ عالميةٍ واحدةٍ مقسمة إلى عشر مناطق.
يعد معهد آسبن مركز أبحاثٍ هاماً آخر لدعاة العولمة. تم إنشاؤه عام 1949 من قبل ثلاثة من سكان شيكاغو هم: رجل أعمالٍ و رئيس جامعة شيكاغو وأحد الأساتذة ممن معه. أنشأت جامعة شيكاغو بنقود روكفيلر ولذلك فمعهد آسبن موجود دوماً ضمن نطاق سيطرة روكفيلر. أحد أهم النقاط الحاسمة في تاريخ معهد آسبن كانت مؤتمراً عن: "التكنولوجيا: الأهداف الاجتماعية والخيارات الثقافية" عام 1970 الذي عبّد الطريق لانعقاد القمة الأرضية التابعة للأمم المتحدة في ستوكهولم عام 1972.
صندوق دعم الحياة البرية العالمي هو أيضاً مؤسسة نخبوية عنصرية تتنكر على أنها منظمة ٌ إنسانية ٌ بيئة. تم تأسيسها على يد الأمير فيليب أمير انكلترا وهو زوج الملكة وقد قال على الملأ أنه لو استطاع أن يتقمص روحاً جديدة لاختار أن يكون فيروساً قاتلاً ليساعد في حلّ مشكلة الازدياد السكاني. ومنذ ذلك الوقت صرح مسؤولون آخرون في هذه المؤسسة مداعي قلقهم حيال الازدياد السكاني.(6(
وقد قال الدكتور آرن شيوتز وهو مديرٌ في صندوق دعم الحياة البرية العالمي: " لقد تمت تبرأة مالثوس والواقع أخيراً يأخذ المجرى الذي تنبأ به مالثوس فالعالم الثالث قد أصبح مكتظاً بالسكان وهو الآن في فوضى اقتصادية وليس هناك أي فرصةٍ بأنهم سينجون منها على هذا المنوال من الازدياد السكاني. فلسفتنا الآن هي: العودة إلى القرية."
كما حذر السير بيتر سكوت الرئيس الأسبق لصندوق دعم الحياة البرية العالمي: " إن نظرنا للأمور بمنظارٍ سببي فسنرى أن المشكلة الأكبر في العالم هي المشكلة السكانية. يجب علينا أن نضع سقفاً للأعداد البشرية و يجب أن نجعل جميع وسائل دعم التقدم معتمدة ً على وجود برامج فعالة لتنظيم الأسرة."
أما توماس لوفجوي نائب الرئيس الأسبق لصندوق دعم الحياة البرية العالمي فقد صاغها بخشونة: " أكبر المشاكل هي القطاعات المحلية الملعونة لهذي الدول النامية، فهذه الدول تظن أن لها الحق في تطوير مواردها كما تشاء.وهم يريدون أن يصبحوا دولاً قوية."
يؤمن بوجهات النظر القمعية هذه بعض أهم المدراء في مؤسسات العالم المالية. فريتز لوتفيلر حاكم مصرف التسويات الدولية (المقر الرئيسي لأعمال الصيرفة العالمية) قد قال: "هذا يعني تقليل الدخل الحقيقي في الدول التي يعيش فيها أغلب اسكان على الحد الأدنى للمعيشة أو حتى تحته. هذا أمرٌ صعب لكن الواحد منا لا يمكنه أن يجنب الدول الشديدة المديونية هذا الطريق إذ لايمكن تجنبه."(7)
وقال روبرت ماكنامارا رئيس البنك الدولي محذراً: " هناك طريقتان فقط لتمكين عالمٍ يحوي 10 مليار شخصٍ حماية نفسه. إما أن تهبط معدلات الولادة الحالية بنحوٍ أسرع، أو أن يرتفع معدل الوفيات الحالي، ليست هناك طريقة ٌ أخرى. وبكل تأكيد هناك طرقٌ عدة من شأنها أن ترفع معدلات الوفيات، ففي العصر النووي الحراري يمكن للحرب تحقيق هذا بسرعةٍ كبيرةٍ وبحزم. أما المجاعة والمرض فهما كابحان طبيعيان للنمو السكاني ولم يختف أيٌ منهما من المشهد ... ولأصوغها ببساطة: النمو السكاني المفرط هو العقبة الوحيدة في وجه التقدم الاقتصادي والاجتماعي لأغلب المجتمعات في العالم النامي."(8)
أما عالمياً فقد أصبحت هذه الأفكار مقبولة ً ضمن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية ففي عام 1974 أرسل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر مذكرة دارسة الأمن القومي رقم 200 (NSSM 200) التي حملت عنوان: " تداعيات النمو السكاني العالمي على الأمي القومي الأمريكي وعلى المصالح الخارجية" والنتيجة كانت:
"إن التزايد السكاني العالمي مقرٌ به على نحوٍ كبير في الحكومة على أنه خطرحالي على أعلى المستويات يستدعي القيام بإجراءاتٍ طارئة ... هناك خطورة رئيسية ذات ضرر جسيم [من النمو السكاني المتسارع والمستمر] على أنظمة العالم الاقتصادية والسياسية والبيئية –وبما أن هذه الأنظمة بدأت تضعف— فهناك خطرٌ على قيمنا الإنسانية."
كان من المفترض لهذه المذكرة أن تنشر في عام 1979 لكنها أبقيت سرية ً بنجاح حتى عام 1989. في أثناء مسيرته حرص كيسنجر على أن يبقى ضبط التزايد السكاني أحد أحجار الزاوية لاستراتيجيته المتبعة في السياسة الخارجية وحتى بعده قام شريكه بالإيديولوجية زبيغنيو برزيزنسكي بتطبيق جدول الأعمال ذاته في ظل قيادة كارتر. فالاثنان كانا مرتبطين ارتباطاً وثيقاً مع عائلة روكفيلر وكلاهما قد درسا بإشراف أستاذ هارفارد ويليام ياندل إيليوت وهو البروفسور المتدرب في أوكسفورد ذو التحالف البريطاني.
تأسس معهد المراقبة العالمية عام 1974 خلال الفترة نفسها التي تم الترويج فيها لمذكرة دراسة الأمن الوطني الأمريكي (NSSM 200) في مؤسسة السياسة الأمريكية الخارجية مع منحة من صندوق الإخوة روكفيلر، ومنذ عام 1984 يتم تسليط الضوء على منشورها السنوي "حالة العالم" في وسائل الإعلام وعلى المئات من الأوراق والتقاريرالمثيرة للمخاوف التي توصف زيفاً بأنها علمية والتي تم استخدامها كذخيرة في الحرب اليسارية والنخبوية ضد التصنيع من حينها.
كما أشرنا في الجزء الأول من هذه الدراسة فإن الهجمة الأولى على العالم الثالث جاءت على شكل ارتفاعٍ هائلٍ متعمدٍ في أسعار النفط فيما يتعلق بحرب يوم كيبور التي جرت عام 1973. إذ أن الاقتصادات لا يمكن أن تتطور دون تزويد بالطاقة وتضاعف أسعار الطاقة لأربعة أضعاف كان نكسة ً رئيسية ً لبعض الدول مثل الهند والبرازيل وباكستان والمكسيك. وبعد ذلك عندما حاول رئيس الباكستان بوتو بأن يحل الموقف عبر تطوير الطاقة الذرية هدده كيسنجر قائلا ً: " سنجعل منك عبرةً لمن يعتبر!"(9) وعلى الرغم من أن بلاد شاه إيران كانت تمتلك مخزون وافراً من النفط لكنه بدأ برنامجاً لتطوير الطاقة النووية أيضاً إلا أن كلا القائدين تم القضاء عليهما على وجه السرعة.
مع ارتفاع أسعار الطاقة تم وقف تطور العالم الثالث لكن الشرق الأوسط العربي أصبح غنياً على نحو كبير وهنا قام دعاة العولمة بالالتفات إلى حلفائهم الإسلاميين لمعالجة الوضع. إذ سيستخدم الإسلام لمهاجمة التصنيع والعصرنة باستخدام الكذبة القائلة أن التطور الإنساني لم يكن إسلامياً وبأن هناك مكيدةً غربيةً ضد عباد الله. أما المكيدة الحقيقة فكانت تحاك ضد الجموع السمراء في الشرق الأوسط الذين كانوا يخوضون تغييراً إيجابياً طفيفاً في جودة حياتهم وفيما يتعلق بالتعليم و التوظيف والمأوى والنظام الصحي والتغذية. إلا أن الدعاة المتدينين والمثقفين للجهل والفحشاء والعنف قد انضموا إلى القوى الهادفة إلى إعادة الشرق الأوسط المزدهر إلى العصور الوسطى.
أما في إنكلترا فقد تم إنشاء المؤسسة الإسلامية كفرعٍ لـ جماعت إسلامي من قبل البروفسور خورشيد أحمد في ليستر عام 1973. وعند استلام الجنرال ضياء لمقاليد الحكم في باكستان قام بتعيين أحمد ليكون وزيره في الشؤون الاقتصادية.(10) وفي عام 1973 أيضاً تم تأسيس المجلس الإسلامي الأوروبي وتم اختيار لندن لتكون مقره الأساسي. أما أمين عام المجلس الذي شغل هذا المنصب لأطول فترة فكان عضواً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين واسمه سالم عزام وسنعود إليه لاحقاً. (11(
مشروعٌ آخر كان "الإسلام والغرب" الذي بدأ في كامبريدج عام 1977 مع عضو الإخوان وهو رئيس الوزراء السوري الأسبق معروف دواليبي بالتعاون مع نادي روما لمؤسسيه بيتشي والبريطاني لورد كارادون جنباً إلى جنب مع الاتحاد الدولي للدراسات المتقدمة ومؤسسه الدكتور ألكسندر كينغ. عمل "الإسلام والغرب" على تجميع خطة فعالة لتعريف الإسلام على أنه دين رجعي في صراعٍ مع العلم والتكنولوجيا. كان دعاة العولمة مصممين على ترويج نسخة عن الإسلام تمثلها الأقلية القمعية المناهضة للغرب وكانت جماعة الإخوان المسلمين المفتاح لتسويق هذه الفكرة للعالم. (12(
وفي إيران كان أعضاء معهد آسبن و نادي روما مرتبطين مباشرة ً مع خصومهم الإيديولوجيين في نظام الشاه الإيراني. وقد تم استقطاب كلٍ من على شريعتي وأبو الحسن بني صدر والعديد من المربيين المهمين في جامعات إيران إلى دائرة نفوذهم. ونجد حملة ضرب الاستقرار التي قادها دعاة العولمة ضد نظام الشاه موثقة ً في كتاب رهينة للخميني لروبرت دريفاس وبإمكانكم قراءة جزء منه هنا في موقعٍ مخصص لرئيس الوزراء الإيراني الأسبق أمير عباس هوفيدا.
كان للفرع الإيراني للإخوان المسلمين المعروف بـ فدائيين الإسلام الذي تم إنشاؤه في الأربعينيات دورٌ جوهريٌ في الإطاحة بالشاه. كان هذا الفرع تحت قيادة المتعصب آية الله خالخالي وآية الله خميني الذي كان عضواً لوقت طويل. والطلاب الذين استولوا على السفارة الأمريكية في طهران بعد سقوط الشاه آخذين العشرات من الرهائن الأمريكين كانوا أيضاً أعضاءً في فدائيين الإسلام. كان خالخالي شخصياً قادراً على ممارسة قوته السياسية في خلال الثورة الإيرانية عندما ترأس كقاضٍ محاكمات الآلاف من السجناء السياسيين حاكماً على الأغلبية منهم بالموت. (12a)
كما تحكمت حركة فدائيين الإسلام بإنتاج الأفيون وبشبكة تهريب المخدرات التي كانت قد أصبحت – قبيل نهاية حكم الشاه - مهددة ً على نحوٍ متزايد من قبل حملة الشاه المضادة للمخدرات التي لاقت نجاحاً كبيراً. وبعد تولي الخميني للسلطة وللسخرية تم تعيين الخالخالي رئيساً لبرنامج مكافحة المخدرات الإيراني وخلال رقابته ازداد إنتاج الأفيون ازدياداً خيالياً. فوفقاً لأحكام الخميني –بما أنها جمعت وترجما إلى الانكليزية— إن "الخمر وجميع المشروبات المسكرة هي رجسٌ لكن الأفيون والحشيش ليسا كذلك." (12b)
أما في باكستان فقد دعمت جماعة الإخوان المسلمين التي أخذت شكل جماعتي إسلامي الإطاحة برئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو من قبل الجنرال ضياء الحق. كان بوتو مكروهاً من قبل دعاة العولمة البريطانيين لسحبه باكستان من دول الكومونويلث البريطانية ولتطبيق السياسات القومية ولميوله تجاه السوفيتيين وطلبه تطوير الطاقة النووية. وعندما أعلن الجنرال ضياء حكم الإعدام بحق السجين بوتو قوبل إعلانه هذا رسمياً بالاحتجاج من رؤساء أربعةٍ وخمسين دولة إلا أن ضياء مضى وأعدم بوتو عام 1979 بعد تلقيه تطميناتٍ من رئيس جماعت إسلامي أن هذا الإعدام لن يؤدي إلى اضطراب داخلي.(13) وفي السنوات التي تلت أصبحت جماعت إسلامي الداعم الأهم لضياء وأجبرت الأمة على خوض عملية وحشية من الأسلمة.
أما في أفغانستان فقد بدأت السي آي إي— بتحريضٍ من الاستخبارات البريطانية— بتمويل خصوم الإسلاميين من النظام الموالي للسوفييت حتى بعد الغزو السوفييتي. إذ أيّد زبينيو بريزينسكي مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس كارتر المراقبة من أجل التحريض على الغزو السوفيتي الذي حدث في 24 كانون الأول عام 1979.(14) كان كلٌ من الجنرال ضياء وجماعت إسلامي في باكستان عنصرين أساسيين أسهما في نجاح حركة المجاهدين في أفعانستان، واستلامهم لباكستان كان جزءاً ضرورياً من الخطة لجر السوفيت إلى صراعات الأفغان. وكما أشرنا في الجزء الأول فإن قائداً عسكرياً أفغانياً تابعاً للإخوان المسلمين اسمه قلب الدين حكمتيار الذي برز بوصفه متلقي المساعدات العسكرية الأمريكية، على الرغم من أنه مشهور بأفكاره المعادية للغرب وبنظرته الراديكالية للإسلام.
(عندما تحرك الكونغرس الأمريكي أخيراً لوضع حدٍ لهذه المساعدات كان الأوان قد فات، فقد كان حكمتيار قد وصل إلى أوج انتصاره في الأعوام 1993-1994 وأيضاً في عام 1996 عندما عمل رئيساً للوزاء في أفغانستان. وكان أخيراً قد سيق إلى خارج أفغانستان على يد طالبان إلا لكنه قد عاد اليوم وهو يحرض ضد حكومة حميد كرزاي الجديدة. في أيار عام 2002 تولى البريطانيون خفر القاعدة التي ارتكز فيها حكمتيار في عملية بوزارد. والهدف المحدد كان إخماد قوات حكمتيار لكن حكمتيار بقي عموماً وقد كان قواته موضع اشتباهٍ في تفجيراتٍ إرهابيةٍ حدثت مؤخراً في كابل. وربما لم يكن الهدف المحدد لعملية بوزارد هو الهدف الحقيقي).
في مصر شهدت جماعة الإخوان المسلمين انتعاشاً بعد أن بدء الرئيس السادات يخفف من القيود ضد المنظمة في مستهل السبعينيات. كما حاولت الجماعة تحسين صورتها لتصبح منظمة إسلامية "معتدلة" لكن وراء الكواليس فقد أنتجت عدداً من الجماعات العنيفة المتطرفة . كلٌ من الجهاد الإسلامي و الجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة هي بعضٌ من الجماعات الإرهابية المتصلة فيما بينها والتي بدأت بالتحريض جهاراً نهاراً ضد السادات بعد توقيعه لمعاهدة السلام التاريخية "كامب ديفيد" مع إسرائيل عام 1978. وقام المسلحون المرتبطون مع هذه الجماعات باغتيال السادات عام 1981 وقد تم إعلان القوانين العرفية إثر شن القائد الجديد حسني مبارك حملة قمع عنيفة على الإسلاميين.
أما في سوريا فقد ثارت جماعة الإخوان المسلمين ضد نظام الأسد واستولت على مدينة حماة. واستمر حصار الحكومة السورية المفروض على معقل الإخوان المسلمين لمدة ثلاثة أسابيع وقد سقط 6.000 جندي و 24.000 مدني إثر الاقتتال العنيف ونتيجة لهذا تم اعتقال 10.000 من سكان المدينة وزجوا في معسكرات الاعتقال القسري وبعد ذلك عرضت الحكومة السورية دلائلاً أن قوات الإخوان قد تم تسليحها من الغرب.
لقد أشار زبينو بريزيزنسكي إلى انفجار العنف في الشرق الأوسط في السبعينيات والثمانينيات بـ "قوس الأزمة". لم يكن شيئاً قد حدث بالصدفة لكنه في الحقيقة نتاج الخطة المتعمدة التي طورتها استراتيجيات دعاة العولمة مثل الدكتور ألكساندر كينغ وهنري كيسنجر و زبينو بريزيزنسكي والعميل البريطاني السري الدكتور بيرنارد لويس. لم يكن "قوس الأزمة" في الشرق الأوسط حريقاً داخلياً هائلاً عفوياً بل كان أمراً حدث كنتيجةٍ للسياسة الغربية بالتحالف مع الإخوان المسلمين فدون المساعدة الغربية كان الإسلام الراديكالي ليبقى غير شرعي ولكانت بقيت حركة أقليات قمعية كما هي دائماً ولكان الشرق الأوسط قد بقي مستقراً ومزدهراً.
الإخوان المسلمون يوسعون نشاطاتهم
في بداية الحرب العالمية الثانية حظيت جماعة الإخوان المسلمين بنفوذ واسع عند انضمام أعضاءٍ متنفذين إليها من عائلة عزام المصرية. كان عبد الرحمن أكثر أفراد هذه العائلة شهرةً وقد كانت طوال حياته شخصاً خدوماً للامبراطورية البريطانية. أما بعد الحرب العالمية الأولى كان قد عمل مع الاستخبارات البريطانية للمساعدة في تنظيم العمل السياسي للإخوان التابعين للسنوسي في ليبيا. (1) وكان عمله في غاية النجاح إذ نودي بالسنوسي ملكاً لليبيا في احتفالٍأقامته الأمم المتحدة عام 1951. (في بادئ الأمر قاد محبوب الامبراطورية البريطانية الملك إدريس الأول ليبيا حتى تمت الإطاحة به من قبل معمر القذافي عام 1969. وقد أنشأت مؤسسة ثورية خاصة بالقذافي في لندن عام 1966 (2) لكن سرعان ما أصبح نظامه مكروها من قبل البريطانيين.)
بعد الحرب العالمية الثانية أصبح عبد الرحمن عزام الأمين العام الأول لجامعة الدول العربية التي تدعمها بريطانيا. وتوطد نفوذ عزام بواقع أن ابنته منى كانت متزوجة من محمد الابن البكر للملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية.
في عام1955 وبعد أن قمع الجنرال عبد الناصر الإخوان المسلمين، نقلت المنظمة قاعدة عملياتها إلى لندن وجنيف. كانت قاعدة جنيف تحت قيادة سيد رمضان الذي كان متزوجا من ابنة حسن البنّا. أسس رمضان معهد الدراسات الإسلامية وتحت قيادته تحولت جنيف إلى قاعدة إسلامية كبرى في أوروبا. وهي تشكل اليوم الملاذ الذي يفر إليه الملك فهد ملك المملكة العربية السعودية يشعر بأن هنالك خطر يتهدد حياته في الممكلة. وتظهر القصة التالية صلات رمضان الوثيقة مع القاعدة الإسلامية على مستوى العالم:
بعد الثورة الإيرانية سرعان ما أصبح رجل يدعى علي أكبر تاباتاباي الصوت الأهم للمعارضة لنظام آية الله. تحت حكم الشاه، كان مستشار المعلومات في السفارة الإيرانية في واشنطن العاصمة، وبعد سقوط الشاه أنشأ مؤسسة حرية إيران. في تموز/ يوليو من عام 1980 قتل على يد ديفد بيلفيلد المعروف أيضا باسم داوود صلاح الدين. كان بيلفيلد مسلما أسود ينتمي لعصابة متصلة ببهرام ناهديان الذي يشاع بأنه رئيس المخابرات السرية لآية الله في واشنطن والتي تعرف باسم(سافاما). بعد أقل من ساعتين من عملية القتل أجرى بيلفيلد اتصالاً شخصياً مع سيد رمضان في جنيف، ومن ثم باستخدام عدة جوازات سفر هرب من الولايات المتحدة إلى سويسرا.
لطالما كانت جنيف قاعدة مهمة للإخوان المسلمين لكن مقرهم في لندن غدا الأكثر أهمية. وكان الرجل المسؤول هناك هو سالم عزام، أحد أقرباء عبد الرحمن عزام. وكما سبق وذكر، أصبح رئيس المجلس الإسلامي في أوروبا الذي كان قد شكل في لندن عام 1973 من خلال تعاون وثيق مع سيد رمضان. يفسر دريفوس دور المجلس بقوله،
"إن (المجلس) يدير الإخوان من المغرب إلى باكستان والهند، ويتحكم بمئات المراكز ’الدينية’ عبر أوروبا الغربية، ومن خلالهم، بآلاف الطلاب الأصوليين ورجال الدين المسلمين في كل من الشرق الأوسط وأوروبا."(5)
في عام 1978 أنشئ المعهد الإسلامي لتكنولوجيا الدفاع لدعم ثورة "قوس الأزمة" الإسلامية. عقد المنتدى الأول في لندن في شباط عام 1979. وكان يهدف للعمل يدا بيد مع الناتو، وكان يقوده سالم عزام وأعضاء من المجلس الإسلامي في أوروبا. كانت باكستان وأفغانستان على رأس جدول الأعمال وأسهم المعهد الإسلامي لتكنولوجيا الدفاع في تنسيق شحنات الأسلحة الهائلة التي كانت لدعم صراعات الإخوان المسلمين هناك وعبر الشرق الأوسط. (6(
نجحت جماعة الإخوان المسلمين خارج مصر بإيجاد واجهة لها من خلال عدد من المنظمات المحترمة وأخذ ينظر إليها على نحو واسع كمؤسسة معتدلة عزفت عن العنف. لكن داخل مصر ظل الإخوان المسلمون عاكفين على الإطاحة بالنظام وتأسيس دولة إسلامية "نقية" ولجؤوا للإرهاب كوسيلة لتحقيق غايتهم.
عندما أصبح أنور السادات رئيسا لمصر عام 1970 بدأ حملة لإبعاد بلاده عن سياسات ناصر المؤيدة للسوفييت وينتظم مرة أخرى في صفوف الغرب. كان أحد أشد خصومه في هذه المهمة حزب الوحدة الاشتراكي العربي. بدأ السادات بمحاولة إنهاء الخلاف مع الإخوان المسلمين كطريقة للضغط على الاشتراكيين العرب ولإرساء دعائم نظامه، فأطلق سراح مئات من الإخوان المسلمين خلال السنوات الأولى لتوليه المنصب.
وعبر تاريخ الإخوان المسلمين كان هنالك ستة رجال تولوا منصب المرشد العام. تولى البنّا القيادة حتى وفاته عام 1949. وخلفه حسن الهضيبي بعد فترة وجيزة من الفوضى عام 1951الذي تولى المنصب بدوره حتى وفاته عام 1976، وعانى من فترات سجن فيها خلال فترة حكم ناصر. ومن ثم خلفه عمر التلمساني الذي توفي عام 1987 ليخلفه حامد عبد الناصر. غيب كل من التلمساني وناصر في غياهب السجون عام 1954 خلال حملة عبد الناصر التطهيرية ضد الإخوان. أخرج السادات التلمساني من السجن عام 1971 وناصر عام 1972. كان المرشد العام الأخير هو مصطفى مشهور الذي تولى المنصب عام 1996 وحتى وفاته في الرابع عشر من تشرين الثاني /نوفمبر، 2002. إن المرشد العام الحالي هو مأمون الهضيبي صاحب الأعوام الثلاثة والثمانين وهو ابن المرشد العام الثاني حسن الهضيبي. يبقي المرشد العام على مكان إقامته ومكاتبه في مصر، على الرغم من أن الغالبية العظمى من الأعضاء وقيادتها متمركزة في الخارج. إن الدور الأكبر للمرشد العام هو أن يكون مجرد رئيس صوري بينما تدار العمليات السرية للإخوان المسلمين من لندن وجنيف.
وسعى السادات لحل الخلاف مع الإسلاميين لكنه علم أنهم سيشكلون دوما تهديدا، ولم يرفع أبدا حظر الحكومة على الإخوان كجماعة سياسية. وعلى الرغم من ذلك سرعان ما ظهر الإخوان كقوة سياسية. أمام العلن حاول الإخوان الحفاظ على الموقف "المعتدل"، لكن خلف الستار كانوا يولدون عددا من المجموعات المتطرفة العنيفة إنما ليست متصلة على نحو محكم.
كانت جماعة التكفير والهجرة إحدى أهم تلك الجماعات، يقودها عضو سابق في الإخوان المسلمين وهو شكري أحمد مصطفى، ونشأت في أوائل السبعينيات. وقد كشف أمرها على العلن عام1975 من قبل جريدة الهرم المصرية اليومية بعد أن تعرض عدد من أعضائها للاعتقال. في عام 1977 اختطفت هذه الجماعة وزير الإفتاء السابق الشيخ محمد حسين الذهبي وطالبوا بإطلاق سراح ستين معتقلا و مبلغ 200,000 جنيه مصري لإطلاق سراحه. رفضت المطالب فرد الشيخ جثة هامدة، وتلا ذلك عدة تفجيرات مستهدفة. في الثامن من تموز/يوليو من عام 1977، ألقى القبض على مصطفى قائد الجماعة إلى جانب عدد من أتباعه. أعدم مصطفى وأربعة من زعماء الفتنة في التاسع عشر من آذار/ مارس من عام 1978، إلا أن منظمته الإرهابية استمرت من بعده. (7)
كانت منظمة التحرير الإسلامي عبارة عن خلية إرهابية أخرى أوجدها عضو سابق في الإخوان المسلمين ويدعى الدكتور صالح سرية. في عام 1974 حاول أعضاء من هذه الجماعة أن يستولوا على الأكاديمية العسكرية، وعلى الأسلحة ومن ثم يتحركوا نحو مجموعة كان السادات يخطب فيها، إلا أن الخطة فشلت ولقي أحد عشر شخصا مصرعهم وألقي القبض على سرية ليعدم لاحقا. (8)
في عام 1974، كشفت قوى الأمن النقاب عن جماعة أخرى وهي حزب التحرير الإسلامي التي أنشأت في الأردن في الخمسينيات على يد الشيخ تقي الدين نبهاني وهو عضو في الإخوان المسلمين وقاض ينحدر أساسا من حيفا. ركزت هذه الجماعة نشاطها على مناهضة إسرائيل إلا أن السادات اعتقل واستجوب أعضاء من الجماعة ممن عاشوا في مصر. (9)
إن أهم منظمتين إرهابيتين مصريتين واللتان كانتا عبارة عن تفرعين عن جماعة الإخوان المسلمين التي ماتزال حاضرة حتى يومنا هذا هما جماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي المصري الذي يعرف أيضا باختصار بجهاد أو الجهاد. كلاهما كان متورطا باغتيال الرئيس أنور السادات.
أنشأت جماعة الإسلامية في عام 1971 لتحرض ضد السادات لتعاونه مع الزعيم الليبي معمر القذافي. كان يترأسها عضو الإخوان المسلمين الدكتور حلمي الجزار، عزفت في البداية عن العنف وركزت على مذهب التفاعلية داخل الجامعات، لكن سرعان ما تغير هذا. إذ ظهر لاحقا شيخ ضرير باسم الدكتور أحمد محمد عبد الرحمن ليصبح قائد هذه المنظمة.(10(
خرجت الجماعة البارزة الأخرى أي الجهاد الإسلامي إلى العلن عام 1977 عندما نشرت جريدة الأهرام أن ثمانين عضوا من هذه الجماعة المقاتلة قد تعرضوا للاعتقال. كان أيمن الظواهري في ذلك الوقت أحد أعضاء الجهاد الإسلامي. شاب مسلم من الطبقة العليا تربطه صلة قرابة بآل عزام. جدته هي أخت الشهير عبد الرحمن عزام الذي ذكر مسبقا، وخاله هو سالم عزام من المجلس الإسلامي لأوروبا. اعتقل الظواهري لأول مرة عام 1966 في سن السادسة عشرة بسبب انتسابه إلى الإخوان المسلمين وآرائه العسكرية استمرت بالنمو مع مرور السنوات.
في بداية عام 1980تعرض الجهاد الإسلامي للاستهداف مجددا عندما قامت الحكومة باعتقال سبعين عضوا آخرين منه. وصف النائب العام المصري المنظمة بأنها "منظمة إرهابية متعصبة" وقال بأنها كانت "تتلقى التمويل من الخارج، ومتسلحة بأسلحة ومتفجرات ومعدات فنية." (11) على أية حال، فشلت الاعتقالات والاستجواب من الحيلولة دون الهجوم الإرهابي الكبير. يصفه دايتل بقوله،
"تصدرت جماعة الجهاد العناوين مجددا في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، 1981 عندما قامت فرقة مغاوير تحت إمرة خالد إسلامبولي بإطلاق النار على الرئيس أنور السادات. إثر تحقيقات مكثفة خلال صيف عام 1982، بات من المعروف في القاهرة أن جماعة الجهاد الإسلامي كانت جزءا من العائلة الكبيرة لمشروع الإخوان المسلمين. وعندما كنت أسأل، كان الإخوان المسلمون يعترفون بذلك. في غضون ذلك، وفي تصريح بالإجماع، جماعة الجهاد "حكمت بالإعدام" على مبارك خليفة السادات. وفي أيلول، 1982 تعرض القادة الثلاثة الأهم في جماعة الجهاد للملاحقة والاعتقال."(12)
قبل عامين فقط من اغتيال السادات عقدت اللجنة الدولية للإخوان المسلمين اجتماع قمة في لندن. فالتقى قادة الإخوان من مصر والسودان والأردن وباكستان وأفغانستان مع رئيس إدارة المخابرات السرية للمملكة السعودية لمناقشة الإنجازات الأخيرة في باكستان وإيران، ولمناقشة مستقبل كل من أفغانستان وسوريا ومصر. (13)
أما في مصر فقد واصل السادات محاولته لإنهاء الخلاف مع الإخوان المسلمين. فسمح في عام 1978 لمنشورات الإخوان المسلمين الدعوة لتوزع مجددا. بل حتى أنه التقى عام 1979 بالمرشد الأعلى عمر التلمساني في مناسبتين، لكن لم يثمر الحوار عن شيء وواصل الإخوان المسلمون هجماتهم العدوانية على السادات في مطبوعاتهم والمساجد كذلك. أخيرا، وقبيل اغتيال السادات بأسابيع، تمكن من اعتقال التلمساني وطبق حظر على توزيع الدعوة.
عندما قتل السادات إثر طلق ناري كان كامل السنانيري الممثل الأبرز للإخوان المسلمين في مصر. ولقد اعتقل واستجوب وتوفي في السجن بعد ذلك بأسابيع. قامت الحكومة بإدعاء واه بأنه انتحر، لكن زوجته آمنة رفضت هذا التفسير. وكانت ابنة سيد قطب.
كما اعتقل أيضا، لكنه برئ لاحقا، الشيخ الضرير عمر عبد الرحمن. فقد شجع مرتكبي عملية الاغتيال من خلال حكمه أن من يدير الحكومة هم مجموعة من الملحدين والمهرطقين. كما أجاز لهم السرقة كوسيلة لتمويل غايتهم بل حتى أنه أجاز لهم حرية التصرف مع زوجات المسؤولين الحكوميين إذا ما نجحوا في الإطاحة بالحكومة. (14) بعد ذلك بسنوات أشير إلى تورطه بتفجير عام 1993 لمركز التجارة العالمي، فقدم للمحاكمة وأدين وحكم عليه بالسجن حيث يقبع الآن. يواصل ابناه الآن الجهاد كعضوين في القاعدة وأتباع مقربين من أسامة بن لادن. لقد برزا في أشرطة الفيديو لمخبأ القاعدة التي عرضت مؤخرا على شاشة السي إن إن (شاهد المقطع المصور جذور الكراهية/Roots of Hatred) ما يزال ينظر إلى الشيخ عبد الرحمن على أنه القائد الروحي للجماعة الإسلامية، ولقد تعهد أعضاؤها بأخذ الثأر له من أمريكا إذا ما توفي الشيخ المصاب بالسكري في سجنه الأمريكي.
كما اعتقل أيمن الظاهري إثر علاقته بعملية الاغتيال. وبعد ثلاثة أعوام قضاها في السجن أطلق سراحه حيث سرعان ما تربع على قمة الجهاد الإسلامي، بعملية 1993، ومن ثم الاتصال بأسامة بن لادن في السودان. وبعد أن فر من مصر، جعل من جنيف، سويسرا مركزا لعملياته، فعمل تحت غطاء المركز الإسلامي الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمين ويترأسه سيد رمضان.(15) )الذي معه كان مالكوم إكس قد أجرى مراسلاته الشهيرة قبيل اغتياله على يد جماعة الإيجا محمد للمسلمين السود. احتل الظواهري منصب "الرجل رقم 2" المزعوم في منظمة القاعدة. حيث كان شقيقه محمد الظواهري حالياً في البلقان يعمل على توجيه هجمات المسلمين ضد صربيا ومقدونية. حيث تشير التقارير أنه كان ينشط في منطقة داخل كوسوفو لا تخضع لسيطرة حلف شمال الأطلسي (الناتو). (16) ولطالما حافظ هاذان الشقيقان من (عائلة عزام) على اتصالاتهم مع الإخوان المسلمين، على الرغم من انتقاد أيمن العلني للإخوان حول قلة دعمهم للثورة في مصر. وقد شكل انتقاده هذا غطاء جيداً للإخوان الذين حاولوا المحافظة على موقفهم "المعتدل".
من بين الشخصيات الهامة أيضاً في تنظيم القاعدة ذات الصلة باغتيال السادات شقيق القاتل خالد إسلامبولي الذي أُعدم بتاريخ 15 أبريل 1982. غادر أحمد شوقي الإسلامبولي مصر ليظهر في كراتشي، باكستان حيث ساعد في إنشاء شبكة للتهريب. بعد ذلك، عمل إسلامبولي بالتعاون مع بن لادن على إنشاء قاعدة عسكرية في الصومال وأصبح بعدها عضواً في الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والمسيحيين التابعة لبن لادن في عام 1998. (17)
وتعتبر جماعة الفلسطينيين حماس حالياً أحد أبرز الفروع الإرهابية لجماعة الإخوان المسلمين والتي ظهرت كجماعة منفصلة في عام 1988 حين أصدرت "الميثاق الإسلامي" من خلال الشيخ أحمد ياسين. والذي كان رئيس جماعة الإخوان المسلمين في غزة لعدة سنوات وتعود جذور جماعته للعام 1978 حين تم تسجيلها كمنظمة إسلامية باسم المجمع الإسلامي. وقد وصفت الجماعة نفسها صراحة في ميثاقها الإسلامي الصادر في عام 1988 بأنها: "الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين". (18)
ويلخص روبيرت دريفوس في الفقرات المذكورة أدناه طبيعة منظمة الإخوان المسلمين حيث كتب هذه الكلمات في عام 1980 وهي صحيحة كما لو كتبها اليوم،
"إن جماعة الإخوان المسلمين الحقيقية لا تتمثل في الشيخ أو أتباعه المتعصبين، كما أنها ليست الملة أو أيات الله الذين يقودون حركات هؤلاء الرجال المجانين؛ فالخميني والقذافي والجنرال زيا هم مجرد دمى متقنة الصنع.
إن الإخوان المسلمون الحقيقون هم أولئك الذين لم تتلطخ أيديهم بأعمال القتل والحرق. إنهم أصحاب المصارف والممولون السرّيون الذين يقفون خلف الستار، إنهم أعضاء العائلات العربية والتركية والفارسية القديمة ممن تضعهم سلالتهم ضمن النخبة الأوليغاركية وتربطهم علاقات تجارية سلسة وشراكات استخباراتية مع طبقة النبلاء الأوروبية المعادية وخاصة الأوليغاركية البريطانية.
إن جماعة الإخوان المسلمين هي المال. وفي نفس الوقت، يتحكم الإخوان ربّما بعشراات مليارات الدولارات في السيولة الفورية كما يسيطرون أيضاً على مليارات أخرى في التعاملات التجارية اليومية في كافة المجالات من تجارة البترول والمصارف إلى تجارة المخدرات وتجارة السلاح غير المشروعة بالإضافة إلى تهريب الذهب والألماس. ونتيجة التحالف مع الإخوان المسلمين، لا يشتري الأنجلو-أمريكيين مهنة استئجار الإرهابيين فحسب، بل هم شركاء أيضاً في الامبراطورية المالية حول العالم والتي تمتد من عدة حسابات مصرفية في سويسرا إلى موانئ الأوفشور في دبي والكويت وهونج كونج." (19)
نأمل أن يبدأ القارئ في فهم مدى صُغر حجم الحركة الإسلامية المتطرفة ومدى ترابطها الداخلي وكيف تبدو جميعها متصلة في الأساس بجماعة الإخوان المسلمين. وتتضح الصورة أكثر حين نتفحص حياة بن لادن المهنية عن قُرب.
55- أسامة بن لادن: السنوات الأولى:
ولد أسامة حوالي عام 1957، وهو الابن السابع عشر للشيخ محمد بن عود بن لادن أحد أقطاب الإعمار في اليمن. وخلال السنوات أقام محمد نفسه كصديق موثوق للملك عبد العزيز ومن ثم الملك فيصل، ملك المملكة العربية السعودية وتم استخدام شركة البنّاء الخاصة به في ترميم الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بما فيها الحرم المكي. كما أبرم أيضاً عقد لترميم المسجد الأقصى في القدس في عام 1969.
وخلال الفترة التي أعقبت وفاة محمد بن لادن في عام 1972، أصبحت عائلته ربّما إحدى أثرى العائلات غير الملكية في المملكة العربية السعودية وسُلمت ممتلكاته إلى أبنائه الخمس والأربعين. حيث تسلم ابنه سالم رئاسة الشركة وكان لكل من بكر وعبد العزيز وعلي ويسلام ويحيى دوراً رئيسياً في إدارة امبراطورية بن لادن. ولطالما حظي هؤلاء الورثة بعلاقة قوية مع العائلة الملكية السعودية وكانوا مسؤولين عن تدريب العديد من الأمراء اليافعين في السعودية حول المسائل المعقدة في التمويل الدولي والصناعة. ويعد كل من محمد بن فهد وسعود بن نايف اثنين من الأمراء الذين يدينون بالفضل في وضعهم الحالي بصفتهم من زعماء المال إلى الأخوة بن لادن. (1) لطالما ارتبطت العائلة الملكية في السعودية بعلاقة قريبة مع صفوة عائلة بن لادن ولكن في الوقت نفسه لا ينطبق ذلك على عدد من أبناء بن لادن صغار السن.
وبتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1979، قام مئات المقاتلين بالاستيلاء على الحرم المكي. حيث قُتل الإمام وفي خضم الفوضى دهس آلاف المصلين بالأقدام حتى الموت. ومن ثم قام المقاتلون بأسر مئات الرهائن والتمركز في أقبية واسعة تحت الحرم. جاء رد القوات السعودية سريعاً وشنوا هجوماً معاكساً ضد المتمردين لكن المقاتلين المسلحين والمتحصنين بشكل جيد صدّوا ذلك الهجوم بسهولة. استمر القتال بين المتمردين والقوات الحكومية لعدة أيام وقاموا بتدمير عدد من الدبابات بالإضافة إلى طائرة عامودية (هيليكوبتر) كانت تحلق على علو منخفض واصطدمت بالمئذنة. وفي النهاية، توجه الملك خالد إلى الحكومة الفرنسية التي أرسلت بدورها القوات الفرنسية الخاصة مجهزةً بالأسلحة الكيميائية لإجبار المتمردين على الخروج بواسطة الدخان. وتم تحرير الحرم المكي أخيراً بتاريخ 4 ديسمبر (تشرين الثاني). وعلى مدى أسبوعين خضع بيت المسلمين الحرام لسلطة الأصوليين المتطرفين. كانت الحصيلة النهائية لذلك مقتل المئات من الجنود الحكوميين وأكثر من مائة متمرد كما لقي معظم الرهائن حتفهم. وفي التاسع من يناير (كانون الثاني)، أُخرج ثلاثة وستون من المتمردين المقبوض عليهم في موكب جاب الساحات الرئيسية للعديد من المدن العربية وأعدموا بقطع رؤوسهم على مرأى من العامة. كما أعتقل مئات غيرهم وتم استجوابهم خلال تحقيقات لاحقة. (2)
كان محروس بن لادن، ابن الشيخ محمد بن لادن وشقيق أسامة من ضمن المعتقلين. وفي كتابه سيرة حياة بن لادن، كتب جاكار مايلي:
"بدأ الارهابيون بالتواصل مع محروس قبل عدة سنوات عندما كان الأخير يدرس في لندن وحين أعلن نفسه بين أصدقائه كأحد أبناء عائلة مرموقة من اليمن الجنوبي وقائد جماعة أصولية مجاهدة. وبعد هذه الاتصالات الجامعية، انضم محروس بن لادن لمجموعة نشطاء سوريين من الإخوان المسلمين يعيشون في المنفى في السعودية. وفي النهاية، أعلن فريق التحقيقات السعودية السرية براءة محروس. حيث أثبت التحقيق تكمن الإرهابيين من الوصول إلى شاحنات جماعة بن لادن لتنظيم هجومهم من خلال استخدام شبكة الأصدقاء السابقين لمحروس دون معرفة الفتى الشاب بذلك." (3) ص 13-14.
كانت شركة بن لادن مسؤولة عن عمليات ترميم الحرم المكي حيث كان يسمح لشاحناتها بالدخول والخروج بحرية دون تعرضها للتفتيش. وقد استخدم الإرهابيون هذه الشاحنات لمساعدتهم على تهريب الأسلحة وتخبئتها داخل الحرم قبل الاستيلاء عليه. أُعلن محروس بريئاً من التورط في هذه المكيدة لكن سمعته تلطخت للأبد وكان يعلم علم اليقين أنه لم يعد بإمكانه أن يحقق المكانة التي وصل إليها أشقاؤه الأكبر سناً. ولو كان محروس أحد أفراد أي عائلة أخرى لكان على الأرجح واجه حكم الإعدام فقط لمجرد صلته ببعض الأصوليين المرتبطين بالإرهابيين. وفي النهاية إذاً، كانت عائلة بن لادن هي التي أنقذت الموقف حين قدمت مخطط الحرم الذي ساعد في وضع خطة الهجمات الأخيرة الناجحة ضد المتمردين. وخرجت عائلة بن لادن في نهاية المطاف من كل المسألة دون أي أذى يذكر ودون المساس بكرامتهم أو صلتهم الوثيقة مع الأسرة الملكية في السعودية. (4)
أما أسامة بن لادن، أحد الأبناء الصغار في عائلة بن لادن، فقد كبُر وفي داخله شعور باللانتماء واتجه مثل أخيه محروس إلى الإسلام الأصولي. يقول الراوي آدم روبينسون أن أسامة الشاب عاش خلال سنين مراهقته حياة الملذات وكان بعيداً عن الدين خاصة خلال دراسته الثانوية في بيروت بين عامي 1973 و 1975. بينما يذهب آخرون ومنهم رولان جاكار إلى الحديث عن غير ذلك. ولكن، أياً كانت الحقيقة في أيام شبابه، فإنه من الواضح أن أسامة اعتنق الإسلام قلباً وقالباً حين كان يدرس في جامعة الملك عبد العزيز في جدة.
التحق أسامة بالجامعة في عام 1976 ثم في عام 1977 قام برحلة المسلمين المقدسة لمدة أسبوعين لأداء مناسك الحج في مكة المكرمة. يكتب روبينسون أنه بعد هذه التجربة، بدأ أسامة بإطلاق لحيته وبدا جلياً إخلاصه للدين الإسلامي. لكن روبنسون أخفى حقيقة أن اختلاط أسامة مع الإخوان المسلمين في ذلك الوقت ساعد على هذا التحول.
هاجر محمد قطب، شقيق سعيد قطب "الزعيم الفكري" للإخوان المسلمين والذي أعدم في عام 1966 إلى المملكة العربية السعودية نتيجة قمع ناصر للإخوان المسلمين. حيث تسلم في الستينيات عدة مناصب رسمية في الجامعات السعودية منها التدريس وتنفيذ مهمة الإخوان المسلمين. أنشأ محمد قطب في السعودية منظمة تُعرف الآن باسم الندوة العالمية للشباب الاسلامي، والتي أصبحت حقيقة قائمة في عام 1972 ويعود الفضل في ذلك للتبرعات الضخمة من عائلة بن لادن. كان عمر، شقيق أسامة، في فترة من الفترات المدير التنفيذي للمنظمة كما عمل شقيق آخر له، عبدالله بمنصب مدير. (5) أجريت العديد من التحقيقات حول الندوة العالمية للشباب الإسلامي كمصدر لتمويل الإرهاب لكن إدارة بوش أوقفت تحريات مكتب التحقيقات الفيدرالية مع بداية ولايته في 2001.
إن وجهة نظر الندوة العالمية للشباب الإسلامي حول الإسلام هي وجهة النظر المألوفة لدى الإخوان المسلمين والتي يحبذها دعاة العولمة كثيراً وهي أن الإسلام مهدد بواسطة الغرب وأنه يجب أن يبقى متحفظاً تجاه العلم والتكنولوجيا ويرجع إلى جذوره الأولى. يقع مقر الندوة العالمية للشباب الإسلامي اليوم في الرياض وتملك مكاتب رئيسية في كل من فالز تشرش في ولاية فيرجينيا ولندن، إنجلترا. ووفقاً للمراسل الصحفي جريج بالاست فإن أكثر من عشرين منظمة مناصرة للندوة العالمية للشباب الإسلامي تقع مقراتها في بريطانيا. (6)
وخلال فترة دراسته في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، أصبح أسامة بن لادن مقرباً من محمد قطب وأصبح عضواً في جماعة الإخوان المسلمين. ويكتب ماليس روثفين، مؤلف كتاب الإسلام في العالم ورئيس تحرير سابق في إذاعة بي بي سي العربية أن قطب كان "المعلم الناصح" لأسامة خلال تلك الفترة. (7)
ويعتبر البروفسور الشيخ عبدالله يوسف عزام شخصية هامة أخرى في الحياة الجامعية لأسامة. وُلد عبدالله في عائلة فلسطينية لا صلة لها بآل عزام في مصر، كان يدرس التربية الدينية وعضواً فعالاً في الإخوان المسلمين في الضفة الغربية. تابع دراسته لاحقاً في الأردن ودمشق قبل حصوله على شهادة الدكتوراة في الفقه الإسلامي من جامعة الأزهر في القاهرة عام 1973. وخلال وجوده في القاهرة، قابل عبدالله عائلة سعيد قطب "وتم إدخاله في صفوف الإسلاميين المصريين المقاتلين". (8) وبعد فترة قصيرة، انتقل إلى المملكة العربية السعودية بعد دعوته ليدرّس في جامعة الملك عبدالعزيز حيث عمل سويةً مع محمد قطب. حضر أسامة دروس عزام وسيطرت عليه الإيدلوجية القتالية التي كان يتبناها. كان شعار عزام المشهور يقول:
"الجهاد والبندقية فقط: لا مفاوضات، لا مؤتمرات، ولا محادثات." (9)
في عام 1979، غادر د. عزام السعودية وكان من أوائل العرب الذين التحقوا بجماعة الجهاد الأفغانية. حيث كان الممثل السعودي/الفلسطيني البارز لجماعة الإخوان المسلمين.
لحق أسامة بن لادن ذو الاثنين والعشرين عاماً بعزام بعد فترة قصيرة وقاما معاً بتأسيس مكتب الخدمات أو مكتب خدمات المجاهدين ومقره بيشاور، أفغانستان. حيث كان لمنظمتهم اتصالات مع منظمة الإخوان المسلمين الباكستانية، الجماعات الإسلامية. عمل مكتب الخدمات على تجنيد المقاتلين للانضمام إلى المجاهدين وفي نهاية الثمانينات تعددت فروع مكتب الخدمات والمعروفة أيضاً بمنظمة الكفاح في خمسين دولة حول العالم. وبذلك مكنت شبكة الإخوان المسلمين وأموال عائلة بن لادن من تحقيق نجاح باهر لمكتب الخدمات.
يتبع..................
المفضلات