تابــــــــــــــع الوعد القرآني في سورة المجادلة
كتب الله الغلبة لدينه:
وبعد تقديم الوعد الصادق بكبت وإذلال وهزيمة حزب الشيطان المحادين لله ورسوله، قدمت الآية التالية وعداً قرآنياً آخر بنصر دين الله. قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
ومعنى (كَتَبَ) هنا: قدّر وقضى، فالكتابة كتابة قدر وإرادة، وجعل المكتوب قدراً ربانياً نافذاً، وسنة ربانية قاطعة، لا تُغيَّر ولا تُبَدل، ولا تقدر أية قوة مخلوقة على تغيير ما كتبه الله أو محوه، أو إلغائه وإعاقة إمضائه وإنفاذه.
ماذا كتب الله؟ كتب: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
اللام في (لَأَغْلِبَنَّ) لام القسم للتوكيد، وأدخلت نون التوكيد الثقيلة على الفعل المضارع للتوكيد أيضاً، وجيء بالضمير المنفصل (أَنَا) للتوكيد. واجتماع ثلاث مؤكِّدات في الجملة: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) لتقرير هذا الوعد الرباني، وزيادة يقين المؤمنين بتحققه.
والغلبة قائمة على النصر، فالغالب هو المنتصر. وإذا كان الله هو الغالب على أمره، فإن الأعداء الذين يحادون الله ورسله مغلوبون مهزومون.
ويلاحظ أن مفعول فعل (أغلبنّ) في الآية محذوف، ولو ذكره لقال: لأغلبن أنا ورسلي الكافرين المحادين.
وعطف الرسل عليه سبحانه، فقال: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وهذا لتكريم وتشريف مقام الرسل، فالله غالب لأعدائه، ورسله غالبون لأعدائهم بإذنه سبحانه.
عاملان أساسيان للنصر:
وهناك حكمة لطيفة من عطف الرسل على الله في الآية: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
إنها تشير إلى عاملين أساسيين في تحقيق الوعد القرآني في الآية، وتطبيق السنة الربانية التي قررتها:
العامل الأول: العامل الرباني: وهو أساس الغلبة والنصر وتحقيق الوعد، فالله كتب وشاء وقدّر وأراد، ولا راد لأمره سبحانه، ويمثله في الآية الضمير المنفصل (أَنَا).
العامل الثاني: العامل البشري: الذي يجري الله على يديه إرادته، فيكون الرسل وأتباعهم المجاهدون ستاراً لقدر الله، هم يأخذون بالأسباب، ويبذلون جهدهم، ويحاربون أعداءهم، ويتوكلون على الله، وينتظرون النصر منه. ويمثله في الآية كلمة (رُسُلِي) المعطوفة على ضمير (أَنَا).
إنه لا بد من توفر المجاهدين، في أي معركة بين الحق والباطل، يرغب فيها أهل الحق بالانتصار على أهل الباطل.
وهذا معناه: أنه لا نصر إلا بوجود مؤمنين صالحين، مجاهدين في سبيل الله، يأخذون بالأسباب، ويحققون شروط النصر. إن الله لا ينصر مسلمين مرتكبين للمعاصي، ولا ينصر مسلمين حالمين عاجزين كسالى، ولا ينصر مسلمين قاعدين عن الاستعداد للجهاد!.
ولا بد من ملاحظة العاملَيْن المتلازمين للنصر: العامل الرباني والعامل البشري المعتمد عليه، المذكورين في قوله: (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
الله الغالب القوي العزيز:
واللطيف في التعبير القرآني أن الآية الواعدة بالغلبة والنصر خُتِمَت بذكر اسمين عظيمين من أسماء الله: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وهذه الخاتمة متناسبة مع موضوع الآية. الله قوي: أي: هو الغالب القاهر، قوته مطلقة، لا يعتريه ضعف أو عجز سبحانه.. والله عزير: أي هو المنتصر سبحانه، صاحب العزة والغلبة، لا تغلبُه أية قوة مهما عظمت، ولا يذِلُّ أو يضعف سبحانه، وهو الذي يمن بالعزة على أوليائه وجنوده.
وبما أن موضوع الآية هو الوعد بالغلبة والانتصار والتمكين، لذلك ناسب أن تختم بهذين الاسمين: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). ومعلوم أن خاتمة كل آية متناسبة دائماً في موضوعها!.
الله الغالب لأعدائه، الناصر لأوليائه، وهذه حقيقة قرآنية بينة، ووعد قرآني صادق. أكدتها آيات عديدة. منها قوله تعالى: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
ومنها قوله تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ) [آل عمران: 160].
وأعداء هذا الدين مغلوبون مهزومون خاسرون، لا تنفعهم قوتهم أمام قوة الله. وقد أكدت هذه الحقيقة آيات عديدة، منها قوله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12].
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) [الأنفال: 36].
* * *
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات