تقرير: سامية علي
ماذا بعد الإنفصال؟ سؤال شغل الكثيرين من المهتمين بقضايا الوطن، قادة، وإقتصاديين، وناشطي مجتمع وإعلاميين، الكل ينظر للقضية من زاويته الخاصة.. بل حتى المواطن العادي يدور هذا السؤال في ذهنه ويترجمه أفعالاً بتخزين السلع الاستهلاكية فإنه لا يأمن ماذا سيحدث بعد الإنفصال في ظل تداعيات الأزمة الاقتصادية وانحسار موارد النفط التي ستؤول الى الجنوب.. والقضايا العالقة بين الشريكين مثل الحدود بين الدولتين وأزمة أبيي والمشورة الشعبية و الديون الخارجية التي يمكن ان تؤدي الى تفجير الأزمات من جديد والرجوع الى مربع الحرب.
وبحسب الإتفاقيات العالمية يفترض ان تحل القضايا العالقة بين الأطراف منذ التوقيع على الإتفاقية.. بل أن آراء أخرى تؤكد على ضرورة حسم القضايا العالقة أثناء التفاوض وقبل التوقيع النهائي للإتفاقية حتى يتم إنفصال سلس بين الدولتين ويستمر السلام بينهما.
ولكن ما حدث في هذا هو أن هذه القضايا أهملت أثناء التفاوض، ثم أرجأت للنقاش خلال السنوات الخمس ا لسابقة، ولم تحسم، والآن أجلت الى ما بعد الاستفتاء ثم الى ما بعد الإنفصال.. ما جعل الكثيرين يتوجسون لمرحلة ما بعد الإنفصال ومآلات تأجيل القضايا العالقة.
ولخطورة القضية وقضايا أخرى شائكة مثل هوية الدولتين بعد الانفصال وتمثيلهما في المنظمات الدولية كالإيقاد والأمم المتحدة وعلاقات الدولتين خارجياً ودبلوماسياً.. جعل القادة السياسيين والدبلوماسيين يهتمون بالأمر ومناقشته بشكل عميق للوصول الى رؤية تخرج السودان من المأزق.
ندوة مركز دراسات الشرق الأوسط وافريقيا واحدة من الآليات التي ناقشت هذه القضايا بمشاركة عدد من الدبلوماسيين والمختصين في العلاقات الخارجية وطرحت الندوة ذات السؤال: ماذا بعد الإنفصال؟!
د. عبدالله أحمد البشير الذي شغل في وقت سابق السكرتير التنفيذي للإيقاد ركز في حديثه حول مسألة الحدود بين الدولتين وأهمية ان يتبع ذلك الاعتراف بدولة الجنوب في الأمم المتحدة، ونبه الى ضرورة ان تعترف بها دولة الشمال أولاً وتصبح لها حدود معلومة توطئة للإعتراف بها عالمياً وتسجيلها في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.. فالحدود الحالية بين الشمال والجنوب داخلية غير مسجلة في الأمم المتحدة.
واعتبر انه بعد إنفصال الجنوب ستكون هناك أطول حدود بين جارتين بعد إختفاء ثلاث دول هي كينيا ويوغندا والكنغو من الحدود السودانية. وقال إن هذه الحدود ربما لا تكون آمنة لأسباب مختلفة أولها لأنها لم تحسم بعد فما جرى في الفترة السابقة ينبيء بذلك.
هذه الحدود بما أنها مفتوحة وبعض القبائل متداخلة في هذه المناطق، قد تحدث إحتكاكات بينهما تفجر الأزمة.
وقال إن هذه القضايا وقضايا أخرى كالديون الخارجية وممتلكات الدولة والبترول وأزمة أبيي سيصعب حسمها بعد الإنفصال لأن الطرفين كانا يتفاوضان كحزبين في دولة واحدة والآن سيكون التفاوض بين دولتين فقد يؤدي الأمر الى حرب إذا لم يتم الإتفاق أو الى نزاع تشارك فيه دول أخرى فيصبح نزاعاً إقليمياً ودولياً.
وأشار الى مشكلة اخرى ربما تواجه السودان بعد الإنفصال كمشكلة الإنتماء، فالمتوقع ان تتجه دولة الجنوب جنوباً وتسارع للإنضمام الى منظمة دول افريقيا والإيقاد والمنظمات الأخرى فيكون وجود دولة الشمال ضعيفاً، وأيضاً يمكن ان تتجه دولة الشمال شمالاً وتنضم لمنظمات عربية مثل جامعة الدول العربية وغيرها، ويكون ذلك على حساب تمثيل دولة الجنوب.
وعالمياً يعتبر د. عبدالله ان تأثير قيام دولة الجنوب سيكون سلباً على الشمال لأن الغرب متعاطف مع الجنوب ومنحاز لقضيته، وانصبت كل جهوده لفصل الجنوب عن الشمال، ولم يسجل لهم موقف واحد لدعم الوحدة.. وبالتالي فإن قيام دولة جديدة في الجنوب يعني الإنحياز لها سياسياً واقتصادياً مما يؤثر سلباً على الشمال.
وانتقد موقف الحكومة تجاه التحضير للإستفتاء والإنفصال وقال إنها لم تكن لديها استراتيجية للتعامل مع القضايا بعد الاستفتاء أو كيف يكون الحكم بعد الإنفصال وترتيبات مآلات ذلك، وقال إن الاستفتاء تم أيضاً دون وضع خطط أو استراتيجيات تضمن إجراءه بصورة لا تؤثر على المشهد السياسي.. وانتقد موقفها في تعاملها مع القضايا العالقة التي ما زالت تشكل أزمة حقيقية ولم تتمكن من الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في ذلك واستطاعت ان تحسم قضاياها منذ التفاوض وأجرت الاستفتاء بشروط محددة لذلك فالسلام دائم بينها.
د. فاروق أحمد آدم قدمته المنصة من الشخصيات التي لها دراية واسعة في مجال الدستور والقانون، كان مدخل حديثه حول الإشكالية الكبرى التي تواجه السودان منذ الاستقلال في العام 1956م فعلى مر الحقب السياسية يقول فاروق لم يستطع السودان ان يضع دستوراً دائماً يحكم البلاد.. ووصف الفترة من الاستقلال وحتى الآن بأنها مرحلة إنتقالية لأنها لم تحتكم لدستور دائم، وقال إنها أطول فترة إنتقالية في العالم.. وشرح تفاصيل ما حدث قبيل إعلان الاستقلال والإتفاق الذي تم بأن لا يعلن الاستقلال إلا بعد أن يجاز دستور دائم للسودان، ثم يعلن من خلاله استقلال السودان عن الحكم الثنائى، وتم تأجيل الأمر الى أن أعلن الاستقلال من داخل البرلمان، ولم يصاغ دستور دائم حتى الآن.. واليوم أصبحنا دولتين ما يعقد الأمر أكثر في ظل هذا الإنفصال. وزاد أن ما يزيد الأمر تعقيداً أننا في الشمال لا نملك رؤية وطنية جامعة تخاطب قضايانا وتحلل أزماتنا.
وقال إن مشاكلنا نهمل حلها حتى تتأزم وساق مثالاً لذلك بأنه يوجد صراع بين الهامش والمركز ثم تطور الصراع الى نزاع ثم حمل السلاح ثم إنفصال.. وقال إن مسألة الصراع بين المركز والهامش مفتوحة فإن لم نتداركه ستتساقط أجزاء أخرى من السودان.
وتحدث أيضاً عن الصراع بين المركز والمركز وقال إنه صراع سياسي مكتوم ربما ينفجر ويعيد الأزمة من جديد.
وذكر أنه يوجد صراع بين المركز والخارج الذي أصبح شريكاً سياسياً لا نستطيع حسم قضايانا دون الرجوع اليه.. واستشهد بقضية أبيي، وقال إن قرار لاهاي حولها إذا قبلنا به فالأمر سينداح للقضايا العالقة الاخرى.. فقضايانا لا نستطيع معالجتها إلا بشراكة دولية.
وأكد أن الدول الخارجية ستنحاز للجنوب إذا حدث خلاف بين الدولتين، فالخيار في حالة الخلاف إما التحكيم الدولي أو الحرب وفي كلا الحالتين لن يكسب الشمال فالتحكيم الدولي تهمين عليه الدول المنحازة للجنوب.
وقال إننا نمر بأصعب المراحل التاريخية فحتى لا نعيد الأزمة في الشرق ودارفور ونصل الى تقرير المصير في ظل الهوامش المفتوحة والاستشارات الصورية، فالمطلوب ان نقوي جبهتنا الداخلية ونتفق على رؤية وطنية عبر حوار عميق يفضي الى صياغة ترتيبات دستورية تستطيع مخاطبة القضايا المصيرية حتى نحفظ ما تبقى من السودان موحداً.
السفير جمال محمد إبراهيم بدأ حديثه بما وصفه تحصيل حاصل فيما يخص مناقشة حسم القضايا العالقة، وقال إنهم كدبلوماسيين فوجئوا بعدم وجود معايير للوحدة الجاذبة بالإتفاقية وماذا يلزم الشريكين ودور كل منهما ليدفع بالوحدة الجاذبة.. وزاد أن هذه القضايا التي تناقش يفترض ان تحسم قبل تنفيذ الإتفاقية، والآن بعد أن وقع الفأس على الرأس لا يجدي نقاشها.
وتحدث عن مسألة جهوية السودان وإنما يفترض ان نصل بها الى حلول آنية، وأكد خروج الجنوب لا يعني ان السودان سيحل إشكالية الهوية فهو لا يزال يتميز بالتنوع الثقافي والإثني والعرقي ونحن نحتاج أن نشدد على أهمية إنتمائنا الافريقي، وأكد أهمية ان يكون للدبلوماسية دور عميق حتى تحافظ دولة الشمال على هويتها الافريقية والعربية، وألا يكون السودان مدعاة للإنقسام والتداعيات السالبة تسير عليه الدول الاخرى التي تعاني من مشكلات الإثنيات والعرقيات فينبغى ألا يقدم السودان نموذجاً سالباً في هذا الإتجاه.
واتفق السفير عبدالرحيم خليل خلال تعقيبه على معظم القضايا التي أثارها المتحدثون، وأضاف أن السودان منذ استقلاله تلازمه قضيتان متناقضتان الأولى إيجابية تميزه كموقع جغرافي متميز يربط بين شمال افريقيا وجنوبها، والأخرى بأنه رجل افريقيا المريض.. ولكن بعد ظهور أزمة دارفور في العام 2003م ظهر بُعد آخر إذا كان ينظر للسودان نظرة إيجابية في غرب ا فريقيا استمدها من موقعه الجغرافي واستقراره السياسي وموارده الاقتصادية، ولكن بعد أن تفجرت أزمة دارفور في العام 2003 وزحف اللاجئون بأعداد كبيرة الى دول غرب افريقيا تغيرت تلك النظرة الإيجابية وثبتت نظرية رجل افريقيا المريض في أذهان هؤلاء.
ولكن بعد الإنفصال قد تتغير هذه النظرة إذا ما عملت الدولتان على تجاوز الأزمات.
وقال إن الإنفصال له تبعات دبلوماسية على الصعيد الافريقي فمشكلة الحدود بين دول الجوار قد تتلاشى مشاكلها بعد الإنفصال فثلاث دول هي كينيا ويوغندا والكنغو كانت تنعكس مشاكلها على السودان، ولكن بعد الإنفصال ستبقى الحدود مع دولة الجنوب الجديدة فقط، واعتبر ان هذه إيجابية لصالح دولة الشمال.
وعلى الصعيد العربي فقد خابت توقعات بعض الآراء التي تشير الى أن دولة الشمال ستكون قبلة للإستثمارات العربية.. وقال إن هذا الرأي غير مسنود بما يؤكده، لذا يجب ألا نعول عليه كثيراً.
وعلى الصعيد العالمي هناك انطباع على أنه بزوال مشكلة الجنوب سينعكس ذلك إيجاباً على علاقتنا مع أمريكا.. ولكنه دعا الى عدم التفاؤل كثيراً لأن مشكلة الجنوب كانت تمثل «70%» من أزمتنا مع المجتمع الدولي والآن تقلصت الى «30%»، فهذه النسبة تعتبر ضعيفة لتطبيع علاقتنا مع امريكا بعد حل مشكلة الجنوب.
وكان تعقيب السفير حسن جاد كريم مركزاً على تأثيرات الجنوب والمواطن الجنوبي بعد الإنفصال. واعتبر أن ما ينتظر الجنوبيين لتقديم دولتهم للخارج يحتاج الى جهود جبارة لإقناع المجتمع الدولي بالدولة الجديدة.. وكيف سيكون شكل الدولة الجديدة وكيف تكون معالمها، وأضاف: هذا تحدٍ كبير يواجه الجنوبيين.
وقال: توجد تحديات اخرى في جانب دفع استحقاقات دول الجوار ومشكلة حدود الأراضي المنتزعة من قبل اثيوبيا والوجود اليوغندي بالجنوب ومشكلة المياه، كل هذه القضايا تنتظره، إضافة الى البناء والإعمار والترتيبات السياسية والأمنية وكيفية دعم الاقتصاد وتنمية مناطق الجنوب والتعهدات المالية التي لم توف بها منظمات المجتمع الدولي خاصة وأن أمريكا أوقفت مساعداتها للجنوب منذ العام الماضي.. وتشير بعض الأنباء أن ا لجنوب قد يضطر للإستغناء عن موارد البترول لمدة ست سنوات مقابل الاستلاف من البنوك لمواجهة متطلبات المرحلة.
وركز السفير عبدالوهاب جبارة في تعقيبه على العلاقات السودانية الأمريكية وعلاقة السودان بالأمم المتحدة بعد الإنفصال ونبه الى أهمية ألا تخضع علاقة السودان بأمريكا لردود الأفعال والتقديرات الخاطئة بل يجب ان توضع في إطار استراتيجي، وشدد على أهمية ان يصحح المفهوم الخاطيء بأن سياسة أمريكا يضعها الرئيس الأمريكي وقال إن الأمر يتم عبر الكونجرس الأمريكي وجماعات الضغط، وأن سياسة البيت الأبيض تمثل أضعف الحلقات.
وحث السودان على تطبيع علاقاته مع أمريكا حتى نصل الى حل مشكلاتنا في جانب العقوبات الاقتصادية ورفع السودان عن قائمة الإرهاب وأن تكون علاقاتنا جيدة مع مؤسسات التمويل الدولي، فهذا التسلط الإمبريالي واقع لابد من التعامل معه.
ونبه الى أهمية التعامل مع الأمم المتحدة بعقلانية خاصة انه قد صدرت العديد من القرارات ضد السودان وستظل قيوداً تكبل السودان، وأضاف الآن يوجد «40» ألف جندي فقط خلال الاستعمار ولن يغادر هؤلاء ما لم تصدر قرارات من مجلس الأمن.. ودعا الى الإتفاق حول رؤية قومية تراعي مصلحة الأمن القومي حتى نصل الى حلول بشكل تدريجي لما يواجهنا من قرارات ستظل تكبل السودان على مر الأزمنة.
واعتبر الحديث عن مشكلات ما بعد الاستفتاء ومحاولة حلها كالصلاة يوم القيامة -على حد تعبيره.
المفضلات