لا يكتفي الثوار المصريون بالدعوة إلى تغيير شامل يخلص البلاد من الظلم والفساد، وإنما يقدمون نموذجا حيا يجسد مبادئ الحرية والنزاهة والشفافية، ويقدم صورة لما يمكن أن تصبح عليه مصر بعد اكتمال التغيير المنشود.
الثوار المرابطون بميدان التحرير في قلب القاهرة لم يجدوا صعوبة في التأكيد للقادمين إلى الميدان بأن الأماني ما تزال ممكنة، وأن ما اعتبرها المصريون لسنوات طويلة أحلاما مستحيلة التحقيق، يمكن تطبيقها على أرض الواقع إذا توافرت الإرادة الممزوجة بالجدية والإصرار.
النموذج القائم في ميدان التحرير يجتذب يوميا آلاف المصريين الذين يأتون بهدف الاطلاع أو حتى الفرجة، ويخرجون وقد أصبحوا أكثر حماسا ويرددون هتافات تقول إنهم سيعودون مجددا ولكن كمشاركين أصليين في الثورة التي تتسع يوما بعد يوم على أرض مصر.
عندما تقترب من الميدان وتتخطى الحواجز التي أقامها الجيش على أطرافه أو بالأحرى مدخليه اللذين أبقاهما بعدما أغلق المداخل الأخرى، تشعر أنك دخلت إلى دولة جديدة تعيش أجواء الحرية وتتميز بقدر كبير من التنظيم الذي يخلو من أي قهر أو تعسف، فضلا عن تعدديتها التي تشمل كل الفئات والأعمار والأفكار.
المصري الذي طالما عانى من الوجه العابس واللسان المنفلت عندما يضطر للتعامل مع الشرطة وغيرها من أجهزة الدولة، يمتثل برضا وسعادة لعملية التفتيش من الشباب المرابط على مدخل الميدان، وكيف لا وهؤلاء الشباب ينجزون مهمتهم بدقة وسرعة وبوجه بشوش، ولا يبخلون بعبارات الاعتذار التي توضح أن هذا الأمر لا بد منه من أجل تأمين سلامة الجميع.
ليس هذا فقط، فبينما تخضع للتفتيش يقف على مقربة منك مجموعة من الشباب يهتفون "ما تزعلش من التفتيش، دا حماية لي ولك"، وما إن تمر من هؤلاء حتى تجد من يرحب بك في الميدان بوجه بشوش يشعرك أنك في وطن حقيقي.
الصحف والمجلات متاحة مجانا
في ميدان التحرير (الجزيرة نت)
حرية الرأي
لجان الترحيب تنتشر في كل مكان بالميدان، وعندما يقدمون لك بضع تمرات لا يفوتهم السخرية من الادعاءات التي روجها أبواق النظام بأنهم يتلقون دعما خارجيا وبأن جهات تقدم وجبات فاخرة وأموالا للثوار.
ويبتسم أحدهم وهو يعطيك التمرة قائلا: تفضل، وجبة كنتاكي الثوار. ثم يضيف ساخرا: الدولارات ستأخذها من الشخص الذي يقف إلى جواري.
وإذا كان التشدد في فرض النظام ودون أي تعسف أول ما يدهشك عندما تدخل "دولة ميدان التحرير"، فإن مصادر الدهشة ستتوالى بمجرد توغلك في الميدان المزدحم، فأجواء الحرية تبدو واضحة وملموسة حيث الفرصة متاحة دون قيود للتعبير عن الرأي حتى لو كان معارضا للثورة.
فعندما جاهر أحد الأشخاص بعدم تحمسه للثورة دعاه أحد الشباب للمناظرة وجلسا أرضا يتحاوران وقد تحلق حولهما العشرات بشكل عفوي، ليدور بينهما نقاش حر لم يعتده المصريون من قبل.
وانتهت المناظرة باقتناع هذا الرجل أنه حتى لو تضررت معيشته بعض الشيء في هذه الأيام فإن التحول إلى مستقبل أفضل يستحق بعض التضحية.
يلفت نظرك أيضا أحد الأركان المخصصة لقراءة الصحف مجانا، حيث تفاجأ بأنه لا يقتصر على الصحف المعارضة والمستقلة، وإنما يقدم لك الصحف الحكومية، وهو ما يعكس حرصا على عرض كل الآراء سواء كانت مؤيدة أو معارضة.
ومع أجواء الحرية فإن التعددية تبدو واضحة وجلية، حيث يختلط أبناء الطبقة الراقية بالمهمشين، ويزدحم الميدان بالرجال والنساء والشبان وحتى الأطفال والرضع، وكلما سرت في الميدان تجد المثقفين والسياسيين ورجال الدين والفنانين والعمال، مما يشعرك بأن هذه الثورة تعبر عن المجتمع المصري بكل أطيافه وطبقاته.
توزيع وجبات على المشاركين في المظاهرات بميدان التحرير (الجزيرة نت)
شباب مصر
وإذا اعتقدت بأن شباب العاصمة القاهرة هم مفجرو الثورة فستفاجأ بأن الكثيرين رفعوا لافتات تؤكد أنهم جاؤوا من مختلف أنحاء مصر، فهؤلاء من الصعيد وآخرون من سيناء، بينما نظم بعض أبناء محافظة المنوفية التي ينتمي لها الرئيس حسني مبارك مسيرة تجوب الميدان وتؤكد أنهم جاؤوا لتأكيد انضمامهم إلى المطلب الرئيسي للثورة وهو رحيل رأس النظام.
وفي بلد عانى من الفساد والرشوة وهيمنة سلطة المال، يؤكد المعتصمون على الدوام وعبر مكبرات الصوت، على مبدأ النزاهة والشفافية، فهم يرفضون تلقي أي تبرعات نقدية ويقبلون فقط الأدوية لعلاج الجرحى والأطعمة والأغطية من أجل الذين يرابطون في ميدان التحرير ويصرون على عدم الرحيل حتى يرحل الرئيس مبارك.
وعندما تنهي جولتك بميدان التحرير ستجد الخروج يجري بنظام متقن كما كان الحال لدى الدخول، ولا يجد كثير من الخارجين طريقة لإبداء إعجابهم بالنموذج الذي شاهدوه إلا الهتاف وهم يقتربون من الدبابات التي ترابط حول الميدان، مؤكدين أنهم يخرجون الآن لكنهم سيعودون من جديد.
المصدر: الجزيرة
المفضلات