في خطبة الوداع، ينطلق الرسول الكريم من واقع اقتصادي يهدد الحياة العربية، وهي تفشي ظاهرة الربا، وعدا عن أنها تخلق أموالا وهمية لا وجود لها في عملية الإنتاج في المجتمع، وتساعد على تكديس الثروة في يد فئة محددة من الناس، ولذلك يؤكد النبي على التطهر من الربا، وأن يسترد من كسبوا من الربا رؤوس أموالهم، متنازلين عما أصابوه من أموال ، ويبدأ النبي الكريم بأحد المقربين إليه وهو عمه العباس بن عبد المطلب، الذي الزمه واشرف بنفسه على تطهير أمواله من أي آثار نتجت عن الربا في الجاهلية، فيقول: «وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن عبد المطلب»، ويمكن ملاحظة أن النبي ذكر صفة القرابة المعلومة أصلا لدى الناس، ولكنه يؤكد على أن القرابة من النبي، وأي شخص في موقع سلطة أو نفوذ حكما، لا تعفي الإنسان من مسؤولياته، ولا تعطيه ميزة أو استثناء، كما أن النبي يلغي مآثر الجاهلية التي كانت تعطي قبيلته ميزة على العرب، إلا السقاية والرفادة وما يتبعها من أمور، وهي كما يتضح خدمات كانت قريش تسديها للحجيج، وفي المقابل حرم النبي قريش من بعض التمييز في شعائر الحج وجعلها تقوم بالفريضة مع المسلمين سواء بسواء.
ويقوم النبي باتخاذ قرار كبير وهو يبطل النسيء، حيث كانت القبائل العربية متخلفة في مجال التقويم وقياس الوقت، ولضبط الحج والأشهر الحرام، كانت تسند ذلك إلى اليهود، فيقومون بتسوية الفروق بين السنة القمرية التي يعتمدها العرب، والسنة الشمسية، من خلال إضافة شهر كل أربعة سنوات لضبط التوافق بين النظامين، فكان شهر رمضان مثلا، يأتي دائما في الصيف، وأخذ اسمه من الرمض أي شدة الحر، فأصبح يتحرك بعد ابطال الإسلام للنسيء عبر فصول السنة، وبذلك أصبح المسلمون معنيون بالفلك والنجوم والأهلة، ليصلوا خلال بضعة قرون إلى موقع الصدارة بين مختلف الحضارات في هذه الأمور، ويطبقوا ذلك التطور في الملاحة والسفر، وفي خطبة الوداع يوصي الرسول الكريم بالنساء، ويوضح ما عليهن من واجبات في صورة محددة، وما لهم من حقوق بصورة مجملة، فكأنه يتوسع في الحقوق لمصلحة المرأة.
يعود النبي الكريم للتأكيد على المساواة بين البشر بطريقة لا تقبل اللبس أو التأويل، فيقول في خطبته الشريفة: «أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت....اللهم فاشهد قالوا نعم – قال فليبلغ الشاهد الغائب» فهذه مسألة من الأهمية بمكان، ولعلها كانت أساسا في دعوة الإسلام منذ البداية وما زالت، وستبقى أبدا، وفي نهاية الخطبة فإن النبي يتوجه لتعزيز ما سبق من حرص على سلامة المجتمع واستقراره، وضمان عدم الاستقواء والتمييز بين أفراده بجملة من الوصايا المتعلقة بالأسرة المسلمة، فيبطل الوصية للوارث، والتي هي مسألة كانت تدفع الأهل لتمييز بعض الأبناء على غيرهم، الأمر الذي يؤسس للكراهية بين الإخوة، وينهى عن وصية لأكثر من الثلث، فلا يجوز لشخص أن يوصي لأحد من غير ورثته، حتى لو كان لعمل الخير، ويترك ورثته دون مال، فيضطرب نظام حياتهم، الأمر الذي يؤدي إلى نقمتهم على المجتمع، كما أنه ينظم مسألة النسب، وهي مسألة كانت شهدت كثيرا من الفوضى في مرحلة ما قبل الإسلام، وسببا في اقصاء العديد من المواليد عن حقوق مشروعة ولازمة بسبب أنهم لم يحظوا باعتراف من آبائهم، نتيجة عدم استقرار مؤسسة الزواج أو تنظيمها بالصورة التي حدثت بعد الإسلام.
المفضلات