الفصل الأول الوعد القرآني في سورة الأنعام
سورة الأنعام مكية، موضوعها الأساسي هو العقيدة، فهي تعرض حقائق العقيدة، وتقدم الأدلة على وحدانية الله، وتقيم الحجة على الكافرين، وتفنّد ما هم عليه من كفر وشرك، وتبطل إشاعاتهم وشبهاتهم ضد الحق، وتقود المؤمنين في مواجهة الباطل.
وأُنزلت سورة الأنعام في فترة حرجة شديدة، عاشتها الدعوة الإسلامية في مكة، وكانت أقسى الفترات التي مرت بها، وكان هذا في سنوات حصار المؤمنين في شِعْبِ أبي طالب، وما أعقبها من عام الحزن، وإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف، إلى أن كانت حادثة الإسراء والمعراج.
كانت الدعوة الإسلامية محاصرة حصاراً شديداً في هذه الفترة الحرجة، حيث اشتد إيذاء وتعذيب الكافرين للمسلمين، وكان المسلمون يبحثون عن مخرج لهذا الحصار، وينتظرون الفرج من الله!.
وأُنزلت سورة الأنعام في هذه الفترة الحرجة، بهدف تعليم المسلمين الحجة، وملء قلوبهم بالأمل، ورفع هممهم ومعنوياتهم وعزائمهم.
ولذلك تضمنت آيات السورة وعوداً قرآنية بهزيمة وعقاب الكافرين، ونصر المسلمين، والتمكين لهم في الأرض. وكانت الوعود في الآيات التالية:
تهديد الكفار بالهزيمة في غزوة بدر:
أولاًَ: قوله تعالى: (وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأنعام: 4-5].
تتحدث الآيتان عن موقف الكفار من الحق، فقد تعاملوا معه بعناد واستكبار، وكلما أسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من القرآن، وفهموا ما فيها من أدلة وحجج وبراهين، كانوا يعرضون عنها عناداً، فلا يٌقرّون أنها من عند الله، ولا يؤمنون بأن القرآن كلام الله، ولا يعترفون أن محمداً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يكذبون بالحق الواضح، ويستهزئون بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويسخرون من المؤمنين، ويزدادون عداوة للحق وأهله.
وعندما كان يخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سينتصر عليهم، يزدادون سخرية واستهزاء، وتكذيباً للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا ينظرون لذلك نظرة مادية، فهم أكثر قوة وعدداً ومالاً، والمسلمون مستضعفون فقراء أقلية، لا يملكون مالاً ولا سلاحاً ولا كياناً، فكيف يهزمون أهل مكة الأقوياء، ويتغلّبون عليهم؟.
وقد توعدهم الله وهددهم بالعذاب: (فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
والمعنى: كذب الكفار بالحق، ونفَوْا أن ينتصر، وهم مخطئون في ذلك، وسوف تأتيهم الأنباء التي كانوا يُكذِّبون ويستهزئون بها، وذلك عندما تتحقق الوعود التي وعد الله بها المؤمنين، والتوعّدات التي توعد الله بها الكافرين.
وإتيان الأنباء إليهم، عندما تنشب المعارك بينهم وبين المسلمين، وعندما ينصر الله المؤمنين عليهم.
فهذه الجملة: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) وعد للمؤمنين بالنصر، ووعيد للكفار بالهزيمة.
وقد تحقق الوعد بعد بضع سنين من نزول هذه الآيات، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة، على أرض معركة بدر، حيث نصر الله الحق، وهزم الباطل، وفقد الكافرون زعيمهم أبا جهل، وسبعين رجلاً معه، إضافة إلى الجرحى والأسرى منهم.
ولما أصاب المشركين في بدر ما أصابهم، أتتهم الأنباء التي كانوا يستهزئون بها، وتحققت الوعود القرآنية في الآيات المكية، بهزيمة الكافرين وانتصار المؤمنين، وعاش المؤمنون والكافرون صورتها العملية الواقعية، وبذلك تحوّل الوعد القرآني من صورته النظرية إلى صورته العملية.
الكفار خاسرون في حرب الإسلام:
ثانياً: قوله تعالى: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام: 26].
تتحدث الآية عن جهود الكفار في محاربة القرآن، والوقوف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين أنهم لن ينجحوا في ذلك، وهم الذين سيخسرون.
كان زعماء وقادة الكفار ينهون أتباعهم عن الدخول في الإسلام، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأون هم عنه، ويبتعدون عن الإيمان به.
وتعود الهاء في (عَنْهُ) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما معه من القرآن والحق، أي: ينهى زعماء قريش أتباعهم عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهم ينأون ويبتعدون عنه.
لقد ارتكب هؤلاء الزعماء جريمتين: الجريمة الأولى في حق أنفسهم، حيث كفروا ونأوا وابتعدوا عن الإيمان.. والجريمة الثانية في حق الآخرين، حيث نهوهم عن الإيمان.
وهدفهم من النأي والنهي القضاء على الحق، وإبطال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتغلّب عليه، وهزيمته في النهاية.
وأشارت إلى هذه الجرائم والوسائل الخبيثة آيات أخرى في القرآن، منها قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26].
طلب قادة الكفر من أتباعهم أن لا يستمعوا للقرآن، وأن يلغوا فيه ويُشوّشوا عليه، لئلا يسمعه الآخرون، لأنهم يخشون أن يؤمن الآخرون به إذا استمعوا له، لأنه سرعان ما يدخل القلب ويؤثر فيه، والحل عندهم هو اللغو والتشويش لئلا يستمعوا له!.
هل ينجح الكفار في اللغو والتشويش على القرآن؟ وفي إيقاف انتشاره عندما ينهَوْن وينأون عنه؟ وهل يمكن أن يغلبوه ويهزموه؟.
الجواب بالنفي. وقد حسمت الآية المسألة، وقررت نتيجة حربهم للقرآن، بأنهم الخاسرون الهالكون: (وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
وهذا وعد قرآني قاطع، صيغ بهذه الجملة المحددة، حيث نفت إمكانية نجاحهم أو انتصارهم، وحصرت الهلاك بهم، ومعلوم أن اجتماع "إن" النافية، و"إلا" الاستثنائية معاً يدل على الحصر: (وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات