يقول سبحانه وتعالى في القران الكريم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
يسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) .صدق الله العظيم
سورة الحشر .. الايات 18 - 24
الحمد لله الذي أمرَ بمحاسبةِ النفوس ، وجعلَ عملها للصالحاتِ خيراً من الجلوس ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ، الذي رفعَ بالمحاسبةِ الرؤوس ، وأعلى بها النفوس ، وأشهدُ أنّ سيدنا محمداً عبده ورسولُـه ، طبيبُ النفوس ، أمر بمحاسبةِ النفس ، قبلَ اليومِ العَبوس ، صلى الله عليه وسلمَ كلما حوسبت نفسٌ وأُزيلَ رجس ، وعلى آله وصحبه ومن
سارَ على نهجهِ إلى يوم الدين ، أما بعد :
إن من أعظمِ الأمانات أمانةُ النفس ، فهي أعظمُ من أمانةِ الأموالِ والأولاد ، أقسمَ الله بها في كتابه ، ولا يقسمُ الله إلا
بعظيم ، قال تعالى :
,, وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ,,
وقد جعلَ الله لهذهِ النفس طريقين : طريقُ تقوىً وبه تفوزُ وتُفلح ، وطريقُ فجورٍ وبه تَخسر وتَخيب .
والناظرُ في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ، والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه : } أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما ! فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين { .
وبتركِ محاسبة النفس تسلط الشيطانُ الذي دعا إلى المعصية ، وحذّر من الطاعة ، وزينَ الباطل ، وثبطّ عن العَملِ الصالح وصدّ عنه . وبتركِ محاسبة النفس تمكنت الغفلةُ من الناسِ ، فأصبحَ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرونَ بها ، ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها ، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل ، أولئكَ هم الغافلون .
يقول جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
يقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى :
{ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } :
(( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
* ويترتبُ – كذلكَ – على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب !
يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
وقالَ رحمه الله في إغاثةِ اللهفان :
" وتركُ المحاسبة والاسترسالُ وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها ، فإنَّ هذا يقولُ بهِ إلى الهلاكِ ، وهذه حالُ أهلِ الغرور ،
يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ ويُمَشّي الحال ، ويتكلُ على العفو ، فيهملُ محاسبة نفسهِ والنظرُ في العاقبة ،
وإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ وأنِسَ بها وعَسُرَ عليه فِطامُها ولو حَضَرَه رُشْدَه لعلِم أنّ الحميةَ أسهلُ من الفِطام وتركُ المألوف والمعتاد " انتهى كلامه رحمه الله .
وكتبَ عمرُ بن الخطابِ t إلى بعضِ عمُّالِهِ :
(( حاسب نفسكَ في الرخاء قبلَ حسابِ الشدة ، فإن من حاسبَ نفسهُ في الرخاءِ قبلَ حساب الشدة ، عادَ أمرُه إلى الرضا والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلتْـهُ أهواؤه عادَ أمرُه إلى الندامةٍ والخسارة )) .
وكان الأحنفُ بن قيسٍ يجيءُ إلى المصباحِ فيضعُ إصبَعهُ فيه ثم
يقول : يا حُنيف ، ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟ ما حمَلَكَ على ما صنعتَ يومَ كذا ؟
وقال الحسن – رحمه الله - :
" إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته ، يستقصرها في كل ما يفعل ، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه " .
فيجبُ أن يكونَ المؤمنُ محاسباً لنفسهِ مهتماً بها ، لائماً على تقصيرِها قال الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه الله تعالى :
(( ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التقصير ،
بل بين التفريطِ والأمن )) .
هكذا يقولُ الإمامُ ابن القيمِ عن نفسه وعصره !
فماذا نقولُ نحنُ عن أنفسِـنا وعصرِنا ؟!
* * *
· ولمحاسبةِ النفس نوعـان : نوعٌ قَبلَ العمل ، ونوعٌ بعدَه .
§ النوعُ الأول : محاسبة النفس قبل العمل :
وهو أن ينظرَ العبدُ في هذا العمل ، هل هوَ مقدورٌ عليهِ فيعملَه ، مثل الصيام والقيام . أو غيرَ مقدورٍ عليهِ فيتركَه .
ثم ينظر هل في فعله خيرٌ في الدنيا والآخرة فيعملَه ، أو في عملِه شرٌ في الدنيا والآخرة فيتركَه . ثم ينظر هل هذا العمل للهِ تعالى أم هو للبشر ، فإن كان سيعملُه لله فعلَه ، وإن كانت نيتَهُ لغيرهِ ترَكه .
§ النوع الثاني : محاسبة النفس بعد العمل : وهو ثلاثة أنواع :
* النوعُ الأول : محاسبة النفس على طاعاتٍ قصَّرتْ فيها .
كتركها للإخلاصِ أو للمتابعة ، أو تركِ العمل المطلوب كترك الذكر اليومي ، أو تركِ قراءةِ القرآن ، أو تركِ الدعوة
أو ترك صلاةِ الجماعة أو ترك السننِ الرواتب . ومحاسبة النفس في هذا النوعِ يكون بإكمالِ النقص وإصلاح الخطأ ، والمسارعةِ في الخيرات وترك النواهي والمنكرات ، والتوبةِ منها ، والإكثارُ من الاستغفار ، ومراقبةُ اللهِ عز وجل ومحاسبة القلب والعمل على سلامتِه ومحاسبةُ اللسان فيمـا قالَه ، وإشغالِه إما بالخيرِ أو بالصمت ، وكذلك يكونُ بمحاسبة العين فيما نظرت ، فيطلقها في الحلالِ ويَغُضُّها عن الحرام ، وبمحاسبة الأُذن ما الذي سَمِعته ، وهكذا جميعِ الجوارح .
* النوعُ الثاني من أنواع محاسبة النفس بعد العمل :
أن يحاسبَ نفسَهُ على كلِّ عملٍ كانَ تركُهُ خيراً من فعله ؛ لأنهُ أطاعَ فيه الهوى والنفس ، وهو نافذةٌ على المعاصي ، ولأنهُ من المتشابه ،
يقولُ صلى الله عليه وسلم :
(( إن الحلال بَيِّن ! وإن الحرام بَيِّن، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثيرٌ من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقعَ في الشبهات وقع في الحرام )) .
ويقولُ عليه الصلاة والسلام : (( دع ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك )) .
* والنوع الثالث :
أن يُحاسبَ الإنسانُ نفسَه على أمرٍ مباح أو معتاد : لـمَ فعله ؟ وهل أرادَ به الله والدارَ الآخرة فيربح ، أم أرادَ به الناسَ والدنيا فيخسر ذلك الربح ويفوتَهُ الظَفَرُ به .
يتبع بإذن الله
المفضلات