________________________________________
حب عن ظهر الطابون
صورة ساخرة من واقع الطفولة
بقلم الداعي بالخير : صالح صلاح شبانة
إذا كان القائد العظيم ، خالد بن الوليد ، سيف الله المسلول ، رضي الله عنه ، لا يخلو جسده من ضربة سيف ، أو رمية سهم أو طعنة رمح ، فجسدي بلا فخر لا يخلو من عضة كلب ، أو رفسة جحش ، أو نطحة تيس أو ثور ، وعن لذغات العقارب ، والوقوع عن ظهور الحمير ، فلكم أن تحدثوا ولا حرج..!!!
وقد حملت كل تلك الأوسمة الرفيعة ، لسبب أنني كنت أحب الاكتشافات ، وكثير المشاكسات ، وكان ولا زال لساني أقوى من جسدي بكثير ، وسمطاته لهّابة ، وكان الذي لا يجاريني ويغلبني بالجدال والنقاش ، يقنعني بيده ، أو بتحريض كلبه عليّ ، أو بخداعي ، فأدنو من جحشهم أو من تيسهم ، أو من كبشهم ، فيحتال عليّ بنطحة قد تكون بريئة ، أو رفسة ، أو (يجعل الحمار (يعنفص) بي عنفصة قد تكسر أطرافي( ، ومن كانت له مثل هذه السياسة والكياسة عليه أن يحمل مثل هذه الأوسمة التقديرية ...!!!!
وسبب أكبر وسام حط على جسدي ولا زال ، أنني عندما كنت في الخامسة عشرة ، شاء الله عز وجل وابتلاني بحب حليمة بنت الجيران ، الحب الأول والذي لا زال يهب علي ويذكرني ، فأتحسس آثاره الغاشمة ، وأبتسم وأقول (ساق الله على هذيك لِيّام)...(وابياخ عليك يا زمن)..!! وكانت حليمة ابنة الجيران في مثل سني ، ( قال مستعجلين عَ الحب أنا واياها....!!!
وكان بيننا وبينهم طابون ، نخبز فيه معا ، إذ كان الطابون من ضروريات الحياة أيام زمان ، وقد تحدثنا عنه بإسهاب في مرة سابقة ، وكانت حليمة رائعة الجمال ، وكان سمارها يعجبني ، مثلما أعجب أحد الشعراء بامرأة سوداء ، فأحب لسوادها سواد الكلاب ، أو كالعاشق الذي كان يرى الشمس على حيطان حبيبته ، أجمل من الشمس على الحيطان الأخرى...!!!
في القرية أيام زمان كانت البيوت متلاصقة وقريبة من بعضها، لأسباب أمنية، اقتضتها ظروف المجاعات حيناً ، وتراخي قبضة السلطة حيناً آخر ، والجوع كافر...!!!
المهم ، أن حليمة كانت رائعة ، والدليل أنها طارت من يدي ، فقد كان سن العنوسة عند الفتيات الثامنة عشرة ، وشكرا لزوجها لأنه لم يتقدم لها وهي في الرابعة عشرة ، لكنت لم أعرفها ، ولم أجَرِّب قلبي بحبها ، وحرمت من متعة هذه الذكريات التي لا ولم ولن تنمحي حتى أتوسد قبري ، فبعدها أمرنا إلى الله الواحد الأحد ، ونرجو أن يكون ذلك اليوم خير أيامنا ...!!!
نعم كنا شراكة بالطابون ، وأبوها وأبي لا يعرفان حدود أرضيهما للتلاصق الشديد ، وكنت أود لو نمَت الشراكة بيننا وكانت حليمة من نصيبي ، ولكن سن زواجها غير عن سن زواجي ، و(راحت علينا) وأخذ كل منا نصيبه ، وهناك مثل شعبي يقول (يا مرحرح لا تترحرح ، اللي راح راح ، ويا ملقلق لا تتلقلق اللي إلك إلك
وهذا ما جرى عليّ وعلى حليمة حبي الأول ..!!!
وبقدر ما كان جمال حليمة يبهرني، كان يخيفني ويقلقني، إذ كان أبوها يملك كفا ما أن يصفعني (الخماسي) حتى تتراقص أمامي نجوم الليل في عز الظهر ، لا بل كان أبي يكمل عليّ ، فقضايا الشرف مهمة ، والحب ممنوع ، والعاشق يدخل من الباب على سنة الله ورسوله ، وأنا لم أكن حينها إلا (ولد مش فاقسه البيضه عن ....) ، وأمامي سنين أخرى حتى أبلغ مبلغ الرجال ، ولكن من يوقف طوفان حب حليمة من قلبي ويطفئ جذوته ، وهي تحبني كما أحبها ..!!
كنت أستغل وجود أبوانا في الحقول ، في عملهما ، وأرتقي منبر الخطابة ، أو المسرح الخاص بي وهو ظهر الطابون ، وأغني لها بيت عتابا كنت قد حفظته من أعراس القرية ويقول :
حليمه وردت على البير الشمالي حليمه ، وجدايل شقر وارختهن على الظهر حليمه ، ويا ريت اللي يكره طلة حليمه ، يدهاه بالموت عَ المزبل والعذاب.!!!
وكانت حليمة كلما سمعت هذا النداء تخرج وتأتي باب الطابون وتحرك الزبل برجلها كناية عن تجاوبها العاطفي معي ، وأن لديها وعندها من الشوق كما عندي ، وزيادة ...!!!
ولم نعد نكتفي بتلك اللحظات العاطفية الحارّة ، بل تمنينا زيادتها واستغلال أوقات أكثر للسعادة ، وكان لا بد من البحث عن طريقة ، وكنت أبا الأفكار الجبارة ، وطرحت عليها اقتراح ، وهو: عندما ينهق الحمار المربوط باب الطابون، تخرج لتحرك لي الزبل برجلها ، ولكننا وقفنا وقوف النجار أمام العقدة ، إذ كيف ينهق الحمار متى نريد ونشاء نحن ، لا هو.. ومن يقنع الحمار عن مدى حاجتنا لصوته الحنون ؟؟!!
وكان الحل السحري العجيب الذي ينم عن عبقرية ضائعة عندي ، إذ أفرك فم الحمار بقرن فلفل غزاوي ، الذي يجعلك تعطس عشر مرات إذا شممته ، وحين تسمع نهيق الحمار تخرج فتجدني مع الإحترام (أنا والحمار بالإنتظار) ، ولتحرك لي الزبل على مهلها وأقل من مهلها ..!!!
واضررت أن أسرق قرن الفلفل من عند (الخوضرجي) ، حيث كانت أمه تطحن (شطة) وطلبت منها أن تسمح لي بشرف مساعدتها فتكرمت ووافقت ، وطحنت معها ، وكان أول فعل لي انتهاز الفرصة وتخبئة قرن أحمر مثل الدم في جيبي ، وخرجت بكثير من الدموع والمخاط ، وحرارة بيدي ، ولكن من أجل لقاء بالحبيبة حليمة كل شيء يهون ...!!!
وفررت بالغنيمة (قرن الفلفل ) لأنتهز فرصة التنفيذ( ...!!!!
وما أن غابت الشمس ونام الدجاج ، لأننا كنا ننام معه ، أو بعده بقليل ، تسللت مثل الحرامي إلى الحمار ، وفركت فمه بقرن الفلفل ، و(عينك ما تشوف إلا النور ) فلا أدري كيف تناولني ، وكيف ألقاني تحت حوافره ، وكيفي صار يرفش ببطني ، وكيف كنت أستغيث ، وكيف خلصني أبو حليمة منه بأعجوبة ، وكيف تشفى الناس بي ، وكيف صارت تلك الحادثة تاريخا للقرية ، فلا أعلم ...!!!
ومنذ تلك الليلة لم أغنِ بيت العتابا،ولم أصعد على ظهر الطابون،حيث مكثت طريحا في الفراش ، وطارت اخبارية تلك الحادثة بين الناس ، وكانت دعاية لحليمة الجميلة ، التي طارت إلى بيت العَدَل ، وتقطعت بنا السبل ، (وراح كل واحد منا في طريقه (وعلى رأي المثل)...( ناس بتوكل جاج ، وناس بتوقع في السياج ) ، ولو كان المثل عادلا لقال : (ناس بتتجوز وبعملولها اعراس ، وناس بتدردس تحت الحوافر من الرفاس) ولكان أكثر ملائمة لي ....!!!!
المفضلات