حكايات من بعض الألم
بعينين تقيم فيهما مرارة الفراق وحنين أم عجوز،غادرت بذاكرتها أربعون عاما إلى الوراء،تقلّب سنين الذكرى بضعف المهزوم ،فترى وجهه أمامها ،وقد زارته حمّى شديدة،ليصرخ في المهد،صرخة إهتزت لها أوتار القلب وتصدعت جدرانه،ألقمته ثديها ،وتدفقت دموعها ينبوعا غزيرا يملأ فمها بصمت،وهي تشخص بناظريها إلى سماء تسمع،وتجيب دعوة المضطر».
كبر الصغير حتى بات رجلا تتكسر على كتفيه الريح العاتية،فتسلل إلى قلبها الطيب بخبث ثعلب،واستل يدها من جيبها بيضاء من غير سوء لتدون له كل ما تملك،ولم تكن تعلم أن إبنها قد قلبه من حجر،فاصطحبها ليلا والريح غاضبة تضرب جدران العقوق وسماؤها تتصدع غضبا ،ليلقي بها في الساحة الهاشمية،فبكت السماء على أم بلا مأوى ،فأمطرت وأرعدت ،والأم تنظر إلى ظل إبن توارى في ظلمة العقوق ،لتردد بداخلها بحسرة المهزوم :»ليتك لم تكبر ياصغيري».
تصوير: عبدالله أيوب
نادر الداوود
هناك ما لا يقل عن مئة شخص يتخذون من أزقة عمّان وليلها ،ملاذا لهم ،ولكل منهم حكاية ،والعتمة وحدها تعرف أسرارعالمهم،لكنهم جميعا حكايات ألم
جولة: نداء صالح الشناق
في كل ليلة تلملم السبعينية جراحها وأحزانها ،لتلف بهما جسدها النحيل ،وتأوي إلى ادراج الساحة الهاشمية مقابل «مركز أمن فيلادلفيا «،وبجوارها سلة قمامة ،لتنام على جمر غير آبهة بما يجري من حولها ،المهم لا أحد هنا يجرؤ على استلاب الدرج منها أو غطاؤها الشفيف ،قريرة العين هي الآن،فلا تمتلك سوى ثوب تراثي مهترئ لا طمع فيه .
يستلقي إلى جوار أم سعد (اسم مستعار ) شاب مشلول عمره 25 عاما،يتكئ على عكازين وعلى ما تبقى من همته ليقضي حوائجه ،لا يستيطع الابتعاد عن المكان كثيرا،أحلامه بسيطة فهو يتطلع إلى نشر صورته نكاية بأبيه «فقط طردني من البيت لأني عديم الفائدة «،كل ما يتطلع إليه أن يمضي سحابة يومه دون أن يهزأ أحد من عجزه.
وبالقرب من المسجد الحسيني الكبير،يفترش السبعيني «ع « الأرض ،وقد حفرت الكآبة على وجهه أخاديد عقوق الأبناء، فقد تركوه يكابد الوحدة وقسوة الحياة بعد وفاة والدتهم،لكنه لا يأبه كثيرا ،ويحن إلى ماض جميل :» فقد كنت أقيم في غرفة مستأجرة،وأعمل بالعتالة ،لكن صحتي تدهورت،فأصبح الشارع بيتي،واصبحت جزءا من الشارع ككل الأشياء الجامدة هنا «.
ولا يقتصر قاع عمّان على التنكر للآباء ،فهناك فتيات بعمر الزهور يتخذن من الشوارع بيوتا لهن ما يجعلن عرضة للايذاء الجسدي والنفسي من أصحاب النفوس الضعيفة وأرباب السوابق.
ومن بينهن سلوى (اسم مستعار)وهي صاحبة حكاية خاصة،تغمَض قلبها على أسرارها ،ولعلها تبوح بها إلى شجر الطريق ،فهي تهرب من الصحفيين تتوارى عن الأنظار لكنها تركض كغزالة شقية في الصحراء ،تقوم بالنهار بأخذ الخاوات من المارة تحت التهديد، واحيانا تنام في البيوت المهجورة وأحيانا امام الساحة الهاشمية ...ويقال :»ان أرباب السوابق يستغلونها جسديا أو لعلها تأوي في الليل إلى عتمة كي تنام وربما لا تدري ما تخبئ لها العتمة من أسرارها «.
معظم المشردين يأتون من مناطق المملكة ،كافة ويستقرون غالبا في وسط البلد عمان .واللافت أن عددا منهم يعانون مشاكل نفسية ويميلون الى العزلة أو العنف ،وأخرون يعانون مشاكل جسدية لكنهم جميعا يشتركون بصفات واحدة تعكس معاناتهم من خلال وجوه شاحبة ومرهقة من سوء التغذية ،نظراتهم مضطربة وحزينة وأرواحهم بالية كثياب يرتدونها ولعلهم يريدون الخلاص منها في أقرب سلة قمامة ،لكن حتمية الصراع تحتم عليهم البقاء» .
أحلام «هؤلاء المشردين» بسيطة فهم يتطلعون إلى نوم لائق على ناصية الطريق دون ان يوقظهم أحد المارة بصوت نعليه ،يتطلعون إلى قوت حتى لو كان بقايا لطعام رفضته قطة مدللة أو كلب يرفض تناول طعامنا المحلي،فيحصلون عليه من بعض المطاعم ،يجابون الشوارع نهارا ويتوسدونها ليلا ،في مجمع رغدان السياحي وجبل النزهة ، الدوار الثامن ، شارع وادي صقرة ، وسط البلد ، والساحة الهاشمية ونهاية شارع شابسوغ .
هناك ما لا يقل عن مئة شخص يتخذون من أزقة عمّان وليلها ،ملاذا لهم ،ولكل منهم حكاية ،والعتمة وحدها تعرف أسرارعالمهم،لكنهم جميعا حكايات ألم ،تشق قميصها للشوارع والبيوت المهجورة عندما يرخي الليل سدوله ،لا أحد يعلم كيف تنقضي الساعات إلى
أن يطل الفجر على أحزانهم مرة أخرى ليحتفون ببقائهم على الحياة من جديد .
المفضلات